وداعا "مانديلا الجزائر"...

وداعا "مانديلا الجزائر"...
  • القراءات: 1752
  العربي ونوغي العربي ونوغي

آيت أحمد: نجم هوى. و هرم استعجل رحيله فاطر الأرض والسماء. جاء أجله، فلم يستقدم ساعة و لم يستأخر، فهوى. آخر الشهداء الأحياء يرحل هذا الأسبوع دون استئذان. لأنه ربما يدرك تمسك الجزائريين على اختلاف قناعاتهم وأعمارهم وفئاتهم وصراعاتهم و "تفاهاتهم" تمسكهم بالمجاهدين وبأبطال التحرير وبالزعماء. لذلك فضل الرحيل في منفاه الاختياري حتى لا يزعج أحدا. و ربما ليكون رحيله منطلقا وعبرة للتوافق مجددا وللصلح والبناء.

«الدا- الحسين": لم تهزمه جيوش فرنسا والأطلس. و لم تهدّه الجبال ورياح الفتن والتطرف التي دفعت بعض الأذناب والمغرر بهم في نهاية الثمانينات بجامعة قسنطينة، أن يرشقه أحد الطلبة المشحونين بخطابات وشعارات مستوردة دست في رؤوس أبنائنا دسا، أن يرشقه بحذاء. 

تماما كما رشقوا بعد تلك الحادثة و هذا الزعيم، أسماء أخرى من رموزنا. في التسعينات أيضا رشقوا زعيما آخر: الفقيد بن بلة، و رجل السلم نحناح. وانتهى الرشق بالحذاء إلى الرشق بالرصاص في سنوات الجنون الملعون. جنون لم يستثن أحدا من مختلف التوجهات السياسية من بوضياف و بوسليماني وحشاني إلى جاووت وجيلالي اليابس وعسلاوي ومعطوب الوناس وحردي ويفصح...وقوائم من الشهداء الذين تتابعوا طوال 10 سنوات... مرحلة تؤكد أن كثيرا من الجزائريين لبسوا ثوب التجدد والصحوة والديمقراطية، لكن بروح جاهلية.

أقول لم تهده عواصف السياسية و زلازل الفتن والأزمات الوطنية المتعاقبة منذ 1963. والتي في كثير منها أشعلتها أعواد كبريت سربت من عواصم التواطؤ ومنابر الشؤم المبين.

ظل "الدا- الحسين" مجاهدا إلى آخر يوم من رحيله. كان يفصل بين الوطن الجزائر والخصومات السياسية. أول من ثار على حكم العسكر. وأكثر من دافع عن الحريات والديمقراطية السلمية التشاركية. كلّفته مواقفه كثيرا من المتاعب والمصاعب والإرهاقات. لكنه ظل عنيدا، صامدا، مقاوما بالتي هي أحسن. بل واصل جهاده إلى آخر رمق من حياته. و سيظل " مانديلا الجزائر " مرجعا للوطني الكبير و للسياسي الرصين المحنك. و للديمقراطي عملا و سلوكا.

أجمع الجزائريون على عظمة و وطنية هذا الزعيم الكبير و المجاهد الشهيد. إن حب الذين اختلفوا معه تاريخا و نضالا وسياسة لا يقل قيد أنملة عن حب و إجلال الذين تخندقوا في صفه من الأتباع والموالين. لأن "الدا- الحسين" لم يحمل حقدا لأحد. و مارس السياسة والاختلاف "النظيف". كان شريفا في المعارضة على حد وصف الرئيس بوتفليقة. لا أحد يذكر أن آيت أحمد شتم أو نهش لحم أو عرض أي كان. بل لا توجد أصلا في قاموس الرجل كلمات السب والسقوط طوال 70 سنة من الجهاد والنضال. كما نلحظ ونسجل على لسان سياسيي اليوم بمن في ذلك رؤساء أحزاب وقيادات.

كان الزعيم الراحل ينظر إلى أن كل الجزائريين شركاء في الثورة والتاريخ والبناء. و عليهم جميعا التمسك بصلح الشجعان وبمنبع نوفمبر الخالد من أجل الحفاظ على استقلال، دفعوا من أجله أرواحهم بالملايين. ربما هذا ما ألهم الرئيس بوتفليقة إلى القول بأن الجزائر فقدت برحيل آيت أحمد "رجلا" من العظماء مع إبراز و وضع سطرين تحت كلمة "رجل" لقوة ما تعنيه بالمفهوم اللغوي الفصيح و في الاستعمال الشعبي الدارج. وفقدت الجزائر رمزا وقامة تاريخية. أو كما جاء في رسالة الرئيس زروال حين قال: الجزائر فقدت آخر آباء الوطن. لأنه رمز للمثابرة وللالتزام الأخلاقي.

قد نكون فقدنا برحيل الزعيم، قامة تاريخية ومرجعا جهاديا و رمزا وطنيا لكن بالتأكيد و كما ألفنا ـ إذا عاد لنا رشد العقل والسياسة ـ أن في رحيل أبطالنا بداية تاريخ. ومنطلق لتصويب المسار وإصلاح ما أفسده المتلهفون على السلطة. والمتمسكون بالسلطة. والانتهازيون الذين أفسدوا نبل السياسة ونبل الجهاد وشوهوا ونهشوا قدسية أكبر ثورة أخرجت للعالمين. لقد اعترف بعض قادة الأحزاب بأن الزعيم آيت أحمد كان مظلوما، وعلى الجزائريين إعادة الاعتبار لهذه الشخصية الوطنية الكبيرة. قد يكون ذلك الظلم حدث. لكن كثيرا أيضا من أبطالنا وزعمائنا ومجاهدينا ظلموا وهمشوا. فلا غرابة بعد ذلك أن تنسلخ أجيالنا عن منابع ثورتنا. لأن حكامنا ظلوا لعقود "يكفرون" (برفع الياء و تشديد الكاف و كسر الفاء ): مصالي الحاج و بن بلة وعبان وكريم وبوضياف وبيطاط و ربما حتى بومدين والشاذلي وبوتفليقة ومن قبل نسومر والكاهنة وسان أوغيستان وماسينيسا ويوغرطة وشولي وفرانز فانون... وكل أبطال الجزائر المتعاقبين منذ غابر التاريخ ومراحل المقاومة والجهاد. و إذا أردنا أن نذكر الرجال بإنجازاتهم، فإن شرف وفضل تكسير هذا الكفر وهذه الطابوهات ورفع التحريم عن الذين سبق ذكرهم، تم من طرف الرئيس بوتفليقة، الذي أعاد الاعتبار إلى هؤلاء المجاهدين الكبار. ولهؤلاء التاريخيين العظماء الذين تم ذكرهم و غيرهم كثيرون، وذلك من خلال إعادة الاعتبار إليهم جميعا. ومن خلال "تصويب" الأخطاء والأحكام الجاهزة وذلك بإسداء أوسمة الاستحقاق وشهادات الاعتراف أوبتنظيم ملتقيات سمحت بإدراك واسع للمؤرخين ولأجيال ما بعد الاستقلال بأن الجزائر هي منبع الثورات والأبطال، وهي أرض وشعب الله المختار.