نوفمـبر في ذاكرة الجيل الرقمي
من رمزية ولهب الثورة إلى وهج وسرعة الشاشة
- 267
نور الهدى بوطيبة
يمضي الزمن مسرعا، لكن بعض الأيام لا تمضي، بل تظلّ عالقة في وجدان الشعوب كجرح نبيل، وكضوء لا يخفت، وأوّل نوفمبر 1954 واحد من تلك الأيام التي تتجاوز حدود التاريخ لتصير وجدانا وهوية وسؤالا مفتوحا عن معنى الحرية، فمهما توارى الزمن سريعا، يبقى ذلك التاريخ عصيا على النسيان، لأنّه محفور في ذاكرة أمة كاملة، فهو ليس مجرّد محطة في كتاب التاريخ، بل هو نبض خالد في وجدان الجزائريين، يختصر معنى الكرامة، الحرية والانتماء، غير أنّ السؤال الذي يفرض نفسه اليوم هو "كيف يعيش الجيل الرقمي هذه الذكرى؟" و"هل ما تزال شعلة نوفمبر متقدة في زمن صارت فيه الذاكرة مجرد منشور وشعارات عابر في فضاء إلكتروني متسارع، والاهم من كل ذلك هل يقتدي شباب اليوم بثوار نوفمبر؟".
حين تقلب صفحات الزمن إلى الحاضر، نجد أنفسنا اليوم أمام جيل مختلف، جيل لم يسمع رصاصة، بل إشعار، لم يعش الثورة بين الجبال، بل يعيشها بين الشاشات، فكيف لأبناء الرقمنة أن يروا ثورة أجدادهم، وهل ما زالوا يحملون شعلة نوفمبر، أم تركوها تبهت في ضوء الهواتف..
من البارود إلى "البكسل".. ذاكرة تتبدّل ملامحها
في صباح نوفمبر، الهواء يبدو أثقل، كأنّه يحمل صدى الرصاص القديم، والطرقات تهمس بأغنيات تحفظها الأجيال عن ظهر قلب، وفي كلّ مدرسة، وفي كلّ ساحة، وفي كلّ قلب جزائري، هناك شعور خفي بأنّ هذا الشهر ليس كبقية الأشهر، إنّه عودة رمزية إلى لحظة الميلاد، يوم خرجت الجزائر، من رحم النار لتكتب اسمها بين الأمم، فلم تكن الثورة الجزائرية أبدا مجرّد حرب تحرير، بل كانت ولادة أمة من رمادها، وكانت مشروعا للكرامة أكثر من كونها معركة، في ذلك الزمن، كانت الحرية تنحت بالدم، وتكتب في الظلام على جدران، أما اليوم، فقد تغيّر مسرح الحكاية، فالجبال تحوّلت إلى شاشات مضيئة، والبيان الأوّل إلى منشور إلكتروني، والصرخة الأولى إلى" هاشتاغ" يتداول عبر الزمن الرقمي.
في هذا الصدد، حدّثنا خبير الاجتماع الدكتور منتصر بوسماح، أستاذ علم الاجتماع الثقافي بجامعة الجزائر قائلا "الجيل الرقمي لا يعيش الثورة كما عاشها أجداده، لكنّه يعيش صداها في ذاكرته، لكن المشكلة ليست في غياب الانتماء، بل في غياب الجسر الذي يربط بين زمن البندقية وزمن التكنولوجيا"، وأضاف "نحن اليوم أمام ذاكرة تتغيّر أدواتها، فالثورة كانت تروى شفهيا، ومن خلال تفاصيلها يعيشها المستمع بتفاصيلها، كأنّه كان أقرب إليها، يسمعه من أمّه ثم من جدّه، لكن اليوم تروى بصريا، ويعيش الشاب اليوم الفجوة بينه وبين الراوي، فقليل من هم قريبون من أشخاص عاشوا الحدث، ومن هذا يتبادر إلينا السؤال "هل الصورة قادرة على نقل حرارة الدم، أم أنّها تكتفي بعرض المشهد دون روح يصل للمستمع".
اللافت في مشهد نوفمبر اليوم، يقول الخبير، إنّ الشباب يتعاملون معه كما يتعاملون مع كلّ شيء في حياتهم، بسرعة، باندفاع، وبمزيج من الإعجاب واللامبالاة، ففي يوم الذكرى، تمتلئ الصفحات بالصور القديمة، بالأناشيد الوطنية، وبعبارات "تحيا الجزائر" المعلّقة بالقلوب لكن كم من هؤلاء الشبان لا يدركون أنّ تلك الصور ليست شعارات ورموزا فقط، بل وجوه حقيقية كانت تحمل الوطن في صدورها وتحلّ محل القلوب.
وأضاف أنّ جيل الثورة كان يحلم بوطن يولد من العدم، وجيل اليوم يعيش في وطن قائم، لكنّه ما يزال يبحث عن الحلم، فبين الحلمين مسافة من الأمن والطمأنينة جعلت الثورة تبدو بعيدة، لكنّها في العمق تسكن فيهم بطرق أخرى، في توقهم للعدالة، في رفضهم للظلم، وفي رغبتهم في التغيير، لكن الكثير منهم يشدّد لا يعملون شيء من أجل ذلك التغيير وهذا أساس فهم خاطئ لمعنى الوطنية، حتى وإن كان الإيمان بجميع رموز تلك الوطنية موجود، لكن الإيمان دون فعل لا يجدي دائما نفعا.
نوفمبر يتحوّل من ذكرى إلى اختبار
نوفمبر ليس حدثا يحتفى به، فحسب، بل مرآة تظهر وجوه الأجيال المتعاقبة، يقول بوسماح، فحين نسأل شابا في العشرين عن معنى أوّل نوفمبر، قد يجيب بعفوية أنّه "عيد الثورة"، لكن قليلون من يتوقّفون ليتأمّلوا ما وراء الاسم، عن تلك اللحظة التي قرّر فيها رجال ونساء أنّ الموت أقلّ قسوة من العيش بلا كرامة، فهل ما زال الشباب اليوم مستعدين للتضحية لا بالدم، بل بالمبدأ، والوقت، وحتى الجهد، من أجل الوطن، وللإجابة بواقعية يقول إن "الثورة لم تكن فقط ضد الاستعمار، بل ضد اليأس، فاليوم، الثورة الحقيقية التي تنتظر الشباب هي ثورة ضد اللامبالاة، وضد التبعية، والكسل الفكري، فعندما يبدع شاب جزائري في تطبيق يسهل حياة الناس، أو اختراع يفيد الوطن، أو يزرع شجرة بدل أن يقطعها، أو يصنع محتوى يذكر بتاريخ بلده، فهو يمارس امتدادا حضاريا لروح نوفمبر، ودليل أنّ هؤلاء الشباب يقتدون بالروح التي كان يتمتع بها أبناء نوفمبر".
التكنولوجيا.. سلاح جيل جديد
في زمن الثورة، كانت الكلمة الممنوعة تكتب سرا على ورق خشن، وكانت تخبأ في الصدور، أما اليوم، فتكتب بكلّ حرية على الفضاء الأزرق وتصل إلى العالم كله، هذا ما قاله الخبير، مضيفا أنّ التكنولوجيا، رغم برودتها، تحمل في طياتها إمكانية دافئة لإحياء التاريخ، فمقطع فيديو متقن عن معركة الجزائر، قد يجعل مراهقا يفهم ما لم توصله له عشرات الدروس الجافة، والباردة، ولعلّ أجمل ما في الجيل الرقمي أنه لا يكتفي بالتلقي، بل يعيد صناعة الصورة، يشدّد المتحدّث، فحين يصنع شاب وثائقيا قصيرا عن الثورة بلغة بصرية حديثة، فهو لا يروي الماضي فقط، بل يزرع جذوره في المستقبل، لأنّه بتلك الطريقة تستمر الذاكرة، لا بالتكرار، بل بالخلق المتجدّد والابداع في ذلك دون تحريف أيّ حقيقة.
بين الأجداد والأحفاد.. حوار مؤجّل
إنّ ما يفتقده الجزائريون اليوم، كما يرى الخبراء، ليس الذاكرة، بل الحوار بين الأجيال، يقول خبير الاجتماع بوسماح، فالآباء يتحدّثون عن نوفمبر بقداسة، والأبناء يسمعون عنه كقصة جميلة من زمن بعيد، لكن كبر الفجوة تخلق خللا، ليس في الحب للوطن، بل في اللغة التي يعبّر بها عن هذا الحب، فلو جلس مجاهد مسنّ مع شاب يدون على حاسوبه، لأدرك الاثنان أنهما يشتركان في شيء واحد وهو الرغبة في أن تظلّ الجزائر حرة، لكن الأوّل قاتل من أجلها، والثاني يكتب عنها، فكليهما يقاوم النسيان، لكن بسلاح مختلف.
وبعد سبعة عقود على اندلاعها، ما زالت ثورة نوفمبر، شمسا لا تغيب، فتتوارى الأجيال، وتختلف الأدوات، لكن الفكرة تبقى نفسها، فكما حمل جيل الأمس الوطن على أكتافه، يحمل جيل اليوم صورته وصوته في ذاكرة رقمية تتجاوز الحدود، يشدّد الخبير، لتنتقل الثورة من البارود إلى الفكرة، من الخندق إلى الفضاء الإلكتروني، دون أن تفقد معناها العميق، فجيل الثورة حرّر الأرض، وجيل الرقمنة مطالب اليوم بتحرير المعنى، لأنّ الوطن لا يبنى فقط بالدماء، بل بالإخلاص، الذاكرة، والإيمان بأن الحرية التي أزهرت في نوفمبر، لا تزال تنتظر من يسقيها في كل جيل جديد.