في عيدها الوطني

ما تحقّق ينتظر المزيد والقصبة لا تحتمل الانتظار

ما تحقّق ينتظر المزيد والقصبة لا تحتمل الانتظار
  • القراءات: 2194
مريم . ن مريم . ن

 مقصد للراحة والطمأنينة ووجهة سياحية بامتياز

عادات شعبية جزائرية مستمدة من ديننا الحنيف منها قيمة التكافل الاجتماعي

معمار مبني على قيم دينية وأخلاقية راعت لقرون الهوية والشخصية

ليست فلكلورا ولا حكاية من "ألف ليلة وليلة"

تسير القصبة نحو حياتها الثانية المكلّلة بالترميم بخطى بطيئة لكنها ثابتة، مع تثمين ما تحقّق من مشاريع ابتداءً بمقام سيدي عبد الرحمن الذي تحوّل لتحفة فنية إلى قلعة الجزائر، إلى بعض الدويرات، ليبقى الرهان على ترميم القصبة ككل متكامل يعكس تاريخ مجدها كمدينة للجزائر المحروسة، وذلك يبدو أفقا بعيدا عند الكثيرين لكنه ليس بالمستحيل، إذا ما توفّرت الإرادة والإمكانيات، فيما يكتفي اليوم الباحثون والمهتمون بصون ذاكرة الحي العتيق وتاريخه كي لا يذهب هباءً منثورا مع غبار ما تحطّم من جدران وهو أضعف الإيمان.

يشهد مقام سيدي عبد الرحمن بأعالي القصبة توافد الزوار من مختلف مناطق الوطن ومن خارجه، حيث يعودون من خلال "الزيارة" إلى الأصالة والتراث والذكريات، مبتهجين بإعادة افتتاحه منذ سنة بعدما شهد الترميم الذي أعاد له وجهه المشرق الذي يليق بتاريخه، وبمقام سيّد مدينة الجزائر. 

خلال زيارتها لمقام سيدي عبد الرحمن، مؤخرا، التقت "المساء" بالعديد من الوافدين ومن مختلف مناطق الوطن، وحتى من بعض الأجانب الذين رافق بعضهم جزائريون مغتربون أتوا للزيارة، وقال أحدهم لـ«المساء" إنّه في كلّ زيارة للعائلة بالجزائر يقصد المكان كوفاء لذاكرته في أيام الصبا، مؤكدا أنه مكان اعتاد فيه العاصميون استذكار عاداتهم وتقاليدهم ومناسباتهم الدينية والاجتماعية منها المولد النبوي وليلة 27 من رمضان وغيرها.

كما وجدت "المساء" في قاعة ضريح سيدي عبد الرحمان الكثير من السيدات، بعضهن يأتي أيضا للزيارة فيما تطلب أخريات الهدوء وسكينة الروح في جو روحاني يكاد يصبح مفقودا في يومياتهن، وغالبا ما تلتحق تلك النسوة بالمقام في أوقات الظهر علما أن بالمكان قاعة صغيرة للصلاة.

في مدخل المقام توجد عين لماء الشرب في شكلها الأندلسي الراقي كتب فوقها "هذه الحنفية مهداة من تامالوس بشيرة"، وأمامها مباشرة يوجد ضريح "الولي دادا" المعروف بكراماته عند أهل المحروسة، خاصة إبان الغزو الإسباني للجزائر ودعوته المشهورة حينها إذ ضرب بعصاه الأرض مناجيا مولاه طالبا منه أن يبقى الإسلام قائما في الجزائر، وأن لا يسلمها للعدو فاستجاب الله لدعوته وأرسل الرياح والأمطار التي قضت على الأسطول الاسباني الذي أرسله شارلكان، وهي حادثة لا تزال الأجيال تتناقلها كرمز للحماية الربانية للمدينة.

في قاعة هذا الضريح المغطى بالقماش الأخضر والمزركش توجد قبة يتدلى منها فانوس نحاسي ضخم، وبالقاعة أيضا أركان تشبه في هندستها المحراب. أما في الممر الطويل المؤدي لضريح سيدي عبد الرحمان، هناك لافتات موجّهة للزوّار مكتوب عليها "لا للحناء" و"لا للشموع" و"لا للرقية" علما أن الحارس الجالس عند مدخل المقام قال لـ"المساء" إنّ "هناك رقابة مشدّدة على الذين يحاولون تشويه هذا المعلم الديني والحضاري بالشعوذة وما شابهها من خرافات ودجل".

بدت أرضية المسلك الخارجي معبّدة بالبلاط، وفي الجوانب مساحات مفتوحة بها كراسي كان بعض الزوّار يجلسون عليها للراحة والاستجمام علما أنّ الاخضرار يلف المكان، حتى الوصول إلى آخر هذا المسلك المطلّ على البحر الأزرق الذي يشدّ الناظرين، ويلاحظ أيضا مدى التهيئة الخارجية للمكان من صباغة بلاط ونجارة وغيرها.

في الطريق للقاعة الكبرى هناك بعض الفناءات الصغيرة، حيث بعض جدرانها مركب عليها السيراميك وفي أعلاها مكتوب آيات قرآنية، ثم الدخول إلى قاعة بها عدة أبواب وأكبرها باب القاعة الكبرى المفروشة بالزرابي والتي تكاد لا تخلو من الزوّار، وتكاد تكون كلّ جدرانها من السيراميك المزيّن بفن التزهير ذو الألوان الزاهية أغلبها الأزرق، بعضها مكتوب عليه آيات من كتاب الله وأخرى في شعر الوعظ ومن ذلك جدارية كبيرة كتبت عليها إحدى القصائد.

وكذا الشبابيك الخضراء الخشبية التي أبدع صنّاعها، وبعض الرفوف الخشبية المزيّنة، بعضها عليه كتب، أما السقف فهو تحفة في حد ذاته، به زخرفات وألوان بديعة يغلب عليها اللون البرتقالي والأحمر الآجوري، علما أنّ هذه الألوان أصلية وسبق للمختصين والمرممين أن أكّدوا لـ"المساء" أنّها ألوان اكتشفت لأوّل مرة أثناء الترميم تتميّز بتقنية تعدّد الألوان (البوليكروم) والتي ترسّخت أكثر في الضريح والنوافذ والأبواب، وبذلك تمّ الحرص على إعادتها مجدّدا خلال الزخرفة التي كانت بأيادي حرفيين وفنانين جزائريين، ومراقبة تقنية من الوكالة الوطنية للقطاعات المحفوظة.

توجد أيضا أعمدة رخامية، ممتدة عبر الجدران الأربعة، وهي من الرخام الأبيض، وهناك أقواس في هيكل سقف القبة التي هي من الطراز المغاربي، وتتدلى من السقف الدائري الثريا الكبيرة النحاسية المرصعة بالكريستال، علما أنّ بالمكان عدة ثريات أخرى.

بالنسبة للضريح فهو من الخشب المزركش والمزهر منقوش ومطعم بالذهب، به أقواس صغيرة تشبه الأبواب بهندسة إسلامية جلية ويحيط بذلك كله غلاف زجاجي شفاف، وتشير كتابات إلى أنّ البناء قد أنشئ بإشراف من لوكيل سيدي وعدة في عهد الباشا عبدي سنة 1730، بالإضافة إلى محراب مزيّن بزليج أصلي يقابل مدخل القاعة، زيادة على زجاج النوافذ المزركش الذي يوحي بقصور بلاد الأندلس، كما يوجد بمدخل القاعة قبر، وكذا صندوق يضع فيه الزوّار بعضا من النقود، فيما يحرص آخرون على قراءة القرآن كما كان الحال مع أحدهم جاء رفقة زوجته وظل يقرأ الذكر طويلا.

في الممر خارج القاعة الكبرى توجد غرفة صغيرة مفروشة بالزرابي تسمى "الخلوة" (المقصورة)، ذات باب خشبي أصيل بزخارف وألوان جميلة تشبه اللوحة الفنية وهي خاصة بالتعبّد. وقد رأت "المساء" بعض النسوة يؤدون صلاة الظهر فيها، كما أن لها نافذة تطل على البحر، وغير بعيد منها توجد سلالم تؤدي للمنارة مكان المؤذن وهي ذات هندسة مغاربية، فيما خصّص مكان واسع يشبه البهو لمجسّم ضخم خاص بالقصبة وبضريح سيدي عبد الرحمن في شكله قبل حوالي ثلاثة قرون، كما توجد به بعض الكتابات الخاصة بشعر الوعظ وكذا آيات قرآنية شريفة.

في الخارج توجد العديد من الأضرحة لشخصيات ثقافية ودينية ولحكام الجزائر إبان العهد العثماني، وكذا مقبرة الطلبة وقبور أخرى منذ العهد الاستعماري الفرنسي، وتتقابل بعض قبور الأولياء التي يرقد فيها العلماء والأولياء، منهم سيدي فليح وسيدي واضح إلى جانب سيدي منصور الذي كان تابعا لسيدي زنوق الذي أخذ هو نفسه العلم عن سيدي عبد الرحمن، علاوة على أضرحة موشاة بنقوش ومزخرفة بأزهار تخص كلا من أحمد باي حاكم قسنطينة وقائد مقاومتها وسيدي عبد الله ومفتي المذهب الحنفي بوقندورة وبن زكور إمام الجامع الكبير وخيدر باشا ويوسف باشا، وتحتوى الأبنية الملاصقة للمسجد على ضريح لوكيل سيدي وعدة علاوة على عديد القبور القديمة.

يتميّز المكان بعبق تاريخي يحيطه من كل جانب مع الهدوء والسكينة رغم كونه في حي شعبي فحتى زقزقة العصافير تسمع فيه لذلك يبقى مقصدا للراحة والطمأنينة ووجهة سياحة بامتياز.

للإشارة، يمتد هذا المعلم على مساحة 2300 متر مربع والمنضوي ضمن القطاع المحفوظ لقصبة الجزائر المصنفة ضمن قائمة التراث العالمي لليونسكو، وكانت ولاية الجزائر قد تكفلت بترميم هذا المركب بمرافقة ومراقبة تقنية من الوكالة الوطنية للقطاعات المحفوظة. وتأسس هذا المعلم في القرن الـ17، وهو من أشهر المعالم الروحية بالعاصمة حظي بتقدير من مختلف الأجيال لهذا العالم والمجاهد الجليل والولي الصالح سيدي عبد الرحمن الثعالبي الذي أصبح رمزا لمدينة الجزائر.

 


 

 

العمارة في القصبة.. ارتباط بالجانب الروحي وابتكار لتقنية مقاومة الزلازل

لا تزال القصبة ملهمة المعماريين في الشرق والغرب، تتميّز بهندستها المعمارية المتفرّدة التي صنعت خصوصيتها، وبالتالي يجب حسب بعض الباحثين إعادة إحيائها والالتزام بمعاييرها في البناء خاصة في عمليات الترميم، فالمعمار مبني على قيم دينية وأخلاقية راعت لقرون الهوية والشخصية.

 

أكّد الباحث سفيان شرشالي لـ"المساء" أنّ القصبة ليست فلكلورا ولا هي حكايات من حكايات "ألف ليلة وليلة"، بل هي مظهر حضاري استمر لقرون وأبان عن عبقرية الجزائري في المعمار وفي غيره من مناحي الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية.

أشار المتحدث إلى أنّ أهل القصبة المتعلّمين قبل الاحتلال الفرنسي حافظوا على هذا التراث من ذلك التراث المعماري المتجذّر في يومياتهم، علما أنّ الهندسة المعمارية ترسّخ القيم الاجتماعية من عدم الاختلاط والاستئذان عند الدخول ومراعاة التيارات الهوائية وعدم حجب صحن الدويرة عن الغرف من خلال الأعمدة وغيرها، كما أنّ القصبة تبقى رمزا للمقاومة تصدّ الغزاة وتترصّدهم قبالة سواحلها التي تتّجه نحوها، فالخطر كان دوما من البحر وليس من الجبل، علما أنّها تصدّت بجيشها وبحارتها وصنعت سلاحها بنفسها في دار النحاس، كما يشهد مدفع بابا مرزوق في مدخل حي باب الواد.

من ضمن ما تناوله المتحدّث الرقي الحضاري لمدينة الجزائر أي القصبة إلى درجة وضع مزهرية أمام بيت المريض كي لا يزعجه المارة، كذلك كانت حسن المعاملة مع عابري السبيل وغيرها من المظاهر التي تأتت أيضا مع توافد الأندلسيين إلى القصبة، فظهرت الفنون والحرف و"الأسطوات" أي المعلمين أصحاب الحرف منهم مثلا الأسطة موسى الأندلسي واضع قنوات الصرف والعيون والنافورات بالقصبة.

أما الباحث السي رشيد فتحدث عن خصوصية المعمار في القصبة الذي خصّه كبار الباحثين في العالم بالدراسة، وقالوا إنّه مرتبط بالجانب الروحي للعقيدة الإسلامية، وقال إنّ الدويرات مثلا لا تشبه العمارة التركية بل توحي بالخصوصية الأندلسية المنتشرة في شمال افريقيا وهي مستمدة من العقيدة فنجد القباب في أعلى سقف الدويرة، مفتوحا على السماء كي لا يكون هناك حاجز نحوها أي نحو الخالق، والبلاط سداسي الأضلاع مثل خلية النحل المبارك والأقواس تشبه أجنحة الملائكة، ووسط الدار (الفناء) مربع الشكل مثل الحرم المكي أما السقيفة فهي للغرباء، والسحين أي الأروقة فهي تفصل بين الفناء والغرف وتعطي بعضا من التهوية.

كذلك الحال مع أشعة الشمس التي تسري بالتناوب بين نوافذ الغرف، أما السطوح فهي للنسوة وكل بمقاساته الرياضية المضبوطة التي تناولها الأوروبيون بكل إعجاب منذ قرون منهم ليوناردو فيبوناتشي في "الأرقام الذهبية"، وقال سي رشيد إنّ الباحث الجزائري المعماري فريد غيلي أبدع في الحديث عن هذا الجانب، وكذلك بورفعة لعموري طهاري الذي ربط الروحانيات بالعمارة الجزائرية في القصبة، وبلغ التطور إلى حد بناء الدويرات والقصور بتقنية مقاومة للزلازل بجعل الخشب داخل الأعمدة لتثبيتها من الطابق الأول حتى الأعلى من البناية.