طباعة هذه الصفحة

يناير يشعّ على ربوع الوطن

حصن لإجهاض محاولات طمس الهوية

حصن لإجهاض محاولات طمس الهوية
  • القراءات: 2472
نوال جاوت نوال جاوت

يُعدّ إقرار الثاني عشر من يناير عيدا وطنيا وعطلة مدفوعة الأجر نتيجة حتمية لمسار بدأ منذ سنوات، يرمي إلى تكريس مسعى الجزائر التي عملت، ولا زالت تعمل، على تثمين الثقافة الأمازيغية، من خلال عدد من الإجراءات، آخرها دسترة اللغة الأمازيغية لغة رسمية بعد أن اعتُبرت في 2002 لغة وطنية، وكانت بمثابة نقلة نوعية في تعامل السلطة مع المطلب الأمازيغي، تبعه إقرار الاحتفال بـ ناير. وما الانتقال من احتفالات بسيطة في الأماكن العمومية بيناير قصد رد الاعتبار لثمازيغث ببعديها الحضاري والتاريخي إلى الاحتفاء بها بإشعاع وطني وبإشراك جميع القطاعات ناهيك عن دسترتها، إلاّ مؤشر إيجابي على تصالحنا مع ثقافتنا و«جزائريتنا.

تحقّق حلم الكثير من الأمازيغ في رؤية أحد رموز هويتهم يشع على كلّ ربوع الوطن وبات معترفا به رسميا. وتَعزّز المكسب بداية من العام الماضي بإدراج الثاني عشر يناير في رزنامة الأعياد الوطنية، لتكرّس ثمازيغث بذلك مكونا أساسيا في هويتنا الوطنية، مكانتها الطبيعية مع الإسلام والعروبة كروافد من التراث المشترك للشعب الجزائري، في إطار مسعى توطيد الوحدة الوطنية وتعزيز الانسجام الاجتماعي.

نضال مطلبيّ

نضال جيل كامل من الجزائريين من أجل القضية الأمازيغية الذين قادوا حركة مطلبية لتجسيد بعد هام من الهوية والثقافة الجزائرية، تُوّج بدسترة الأمازيغية وتصالح الجزائر مع ذاتها، وتمّ ذلك بروية وجدية بعد تهيئة جميع الأمور المرتبطة به، بما فيها تعميمها اجتماعيا لفائدة كل الجزائريين.

بدأ مسعى المحافظة السامية للأمازيغية منذ 1999 لترسيم يناير عيدا وطنيا؛ كونه مطلبا رفعته الحركة الأمازيغية لسنوات. وتمّ على خطوات إشراك المجتمع المدني والحركة الجمعوية الأمازيغية في إحياء يناير، علاوة على تجنيد مختلف القطاعات الوزارية، على غرار الثقافة، التربية الوطنية، الشباب والرياضة وأيضا الداخلية والجماعات المحلية، واعتُبرت هذه الخطوة صحوة هوياتية عبر الوطن.

والتزمت المحافظة منذ إنشائها في 27 ماي 1995، بوضع أطر عمل  تتماشى وتوجّهات السلطات العليا للبلاد ضمن مخطط عمل الحكومة، شملت ثلاثة محاور رئيسة، تجلت في تعميم استعمال اللغة الأمازيغية في المنظومة الوطنية، وترسيم رأس السنة الأمازيغية (يناير) يوم عطلة وطنية مدفوعة الأجر، وهو تقدّم لا يمكن إنكاره، مما أفضى إلى إنشاء المجمع الجزائري للغة الأمازيغية، الذي يُعدّ امتدادا لترقية وتطوير اللغة الأمازيغية.

البداية.. مطلب

يُجمع الباحثون على أن القضية الأمازيغية ليست وليدة ثمانينيات القرن الماضي، ولكن تعود جذورها إلى أربعينيات القرن 20 وما عُرف بـ الأزمة البربرية، بعدما نشب صراع عام 1949 بين أعضاء من القبائل في حزب الشعب الجزائري؛ حركة انتصار الحريات الديمقراطية وزعيمه مصالي الحاج، الذي اعتبر أن الأمة الجزائرية عربية وإسلامية، فرأى هؤلاء - ومنهم الزعيم الراحل لحزب جبهة القوى الاشتراكية حسين آيت أحمد - في هذا استفزازاً وتجاهلا للتاريخ الجزائري ما قبل الإسلام وللهوية الأمازيغية، ونادوا بضرورة إدراج البعد البربري في تنظيم الدولة المستقلة المقبلة، وانتهت هذه الأزمة بإقصائهم من قيادة الحزب.

ومع اندلاع الثورة التحريرية خفّت هذه الخلافات، لكنها بقيت عالقة، فبعد الاستقلال فُرضت رواية رسمية للتاريخ، ووضعت معايير في تحديد الهوية الوطنية. وتمّ إقصاء اللغة والثقافة الأمازيغيتين مع بداية أولى مراحل التعريب في الجزائر في عهد بومدين، بدأت أولى المواجهات بين دعاة الأمازيغية والسلطة حول المسألة اللغوية. وأصبحت فرنسا مركزاً للتعبير عن المطلب الأمازيغي، حيث أنشئت في 1966 بباريس الأكاديمية البربرية. كما نشأت مؤسسات أخرى تتبنى الفكرة وتناضل من أجلها. ففي سنة 1973 انشقت جماعة من الشبان عن الأكاديمية، وأسسوا جماعة الدراسات البربرية في جامعة باريس، ثم أسس مولود معمري عام 1982، مركز الدراسات والبحوث الأمازيغية بباريس ومجلة أوال (الكلمة)، وبقي بذاك الإشكال اللغوي نخبويا لا يكاد يجاوز بعض الأكاديميين والمثقفين. وفي 10 مارس 1980، منعت السلطات الكاتب مولود معمري من إلقاء محاضرة في جامعة تيزي وزو حول الشعر القبائلي القديم، فاندلعت عقبه مظاهرات طلابية، ثم شعبية، مندّدة بالمنع في تيزي وزو والجزائر العاصمة. كما شلّ إضراب عام منطقة القبائل، ورفع المحتجون شعارات من بينها الثقافة الأمازيغية.. ثقافة شعبية و«كفى من القمع الثقافي وغيرها. وأُغلقت جميع المدارس التي تُدرّس بالعربية، وأُتلفت لوحات الإشارات والإعلانات المكتوبة بالعربية في ظل إنزالٍ أمني كثيف عزل المدينة عن العالم، وأدت حصيلة الاحتجاجات إلى قتلى وجرحى.

بعدٌ مميّز وعلنيٌّ

مع الدخول المدرسي الموالي (1980- 1981) كانت الحركة الأمازيغية نصبت هيئات ثقافية أمازيغية في كل الجامعات بوسط البلاد، ونشَّط مثقفون أمازيغيون النقاشات حول المسألة الأمازيغية في جامعة الجزائر، وألقت الاحتجاجات الضوء على المسألة الأمازيغية وأكسبتها بعدا شعبيا بعد أن ظلت قضية نخبوية منذ الاستقلال. كما ألهمت حركات احتجاجية ذات طبيعة اجتماعية عرفتها البلاد في سنوات لاحقة؛ بدءا بأحداث قسنطينة في 1986، وصولا إلى أحداث الخامس أكتوبر 1988، التي دفعت السلطات إلى اعتماد التعددية السياسية.

المطلب الأمازيغي أخذ بعداً مميزاً وعلنياً قوبل بقمع لم يثن المناضلين من أجل الأمازيغية، عن مواصلة العمل سرا وعلنا لتحقيق مطلب الهوية والثقافة.

وازدادت وتيرة النضال إلحاحاً خلال التسعينيات مع بداية العشرية السوداء، حيث أراد الفاعلون في الحركة الأمازيغية انتهاز فرصة إضعاف السلطة، لدفعها إلى الاستجابة لمطالبهم. وشهدت السنة الدراسية 1994- 1995 ما يعرف ثمازيغث ذ اغرباز أو ما سمي بـ مقاطعة المحفظة، وهو إضراب مدرسي عام احتجاجا على قانون تعميم استخدام اللغة العربية، تمّ إنهاؤه بموجب اتفاق أبريل 1995 بين السلطة والحركة الثقافية البربرية. وتمّ إدخال اللغة الأمازيغية في التعليم بمنطقة القبائل. كما أنشئت المحافظة السامية للأمازيغية في 27 ماي 1995، وتمّ إحداث نشرات إخبارية في التلفزيون باللغات الأمازيغية الرئيسة؛ القبائلية والشاوية والميزابية.

وقام الرئيس ليامين زروال بإضافة البعد الأمازيغي؛ باعتباره أحد المقومات الأساسية للهوية الجزائرية إلى جانب الإسلام والعروبة، وأدرجه في الدستور (تعديل نوفمبر 1996). لكن في أفريل 2001 وبدل أن تتفتح الأزهار، توشّحت المنطقة ربيعا أسود، لتكون المحطة التاريخية الرابعة للمطلب الأمازيغي، حيث أشعلت وفاة الطالب الثانوي ماسينيسا قرباح يوم 18 أبريل في مقر الدرك الوطني، فتيل الأزمة من جديد، فتمّ اعتقاله في بلدة بني دوالة عندما كان يتظاهر هو وغيره احتفالا بذكرى الربيع الأمازيغي، وهكذا انطلقت شرارة الأحداث التي استمرت حتى أكتوبر، وتوسّعت لتعمّ كلّ أنحاء منطقة القبائل.

وكان من نتائجها تشكيل تنظيم شعبي جديد عُرف باسم تنسيقية العروش الذي ضمّ أبرز العائلات في منطقة القبائل، وممثلين عن الفعاليات البربرية المختلفة خاصة منظمات المجتمع المدني، إذْ تولت قيادة حركة الاحتجاج، ولتبلور لائحة مطالب عُرفت بـ أرضية لقصر التي أعلنت عنها في جوان 2001 في مدينة القصر بولاية بجاية، وهي عريضة من 15 مطلبا، أهمها إخلاء الدرك منطقة القبائل، ومعاقبة الدركيين المتسببين في الأحداث، وتلبية المطلب الأمازيغي بكل أبعاده الهوياتية والحضارية واللغوية والثقافية بدون استفتاء وبدون شروط، ومطالب أخرى اجتماعية؛ كتعويض أهل الضحايا. وقد تمكنت من تحقيق عدد معتبر منها؛ حيث قرّر الرئيس عبد العزيز بوتفليقة في مارس 2002، ترسيم الأمازيغية لغة وطنية، تلاه إدراج تمازيغت لغة رسمية في الدستور الجديد، الذي اعتبره الناشطون والمناضلون من أجل القضية الأمازيغية، مكسبا عظيما يرفع من مقام الأمازيغية، ويجعلها قيمة مضافة للوحدة الوطنية، وترسيمها معناه السعي لتكريس الممارسات الديمقراطية، فضلا عن اعتباره قفزة غير مسبوقة في مجال تعزيز الحريات العامة والرقي بالعمل السياسي، وكذا حصنا منيعا لإجهاض كل محاولة طمس للهوية الوطنية، واستغلال التنوع الثقافي لبلادنا من أجل زعزعة الاستقرار. كما اعتُبر قرار رئيس الجمهورية ترسيم يناير عيدا وطنيا وعطلة مدفوعة الأجر، محطة فارقة للرقي بالهوية الوطنية، وتوطيد البعد الثقافي للمجتمع الجزائري.