القصبة تحيي يومها الوطني

حالة متـفرّدة تبحث عن الاستثناء

حالة متـفرّدة تبحث عن الاستثناء
  • القراءات: 1334
مريم. ن / نوال جاوت مريم. ن / نوال جاوت

 أثار ترميم القصبة الكثير من اللغط والاستفهامات، فوضع هذا الحي الرمز يدمي القلوب لما يعيشه من انهيارات متواصلة تنخر جدرانه وتهدّد بزواله، رغم إطلاق المخطط الاستعجالي لترميمه عام 2007، ثمّ المخطط الدائم، إلا أنّ العمل الذي وجد من اجله هذا المخطط يسير بوتيرة ا تساعد على تدارك ما فات أمام عوامل الدهر والبشر.

فكل يوم يمضي دون الانطلاق الفعلي في ترميم ما يجب أن يرمّم أمام التغيّر المستمر للقوانين، يمرّ جحيما على كلّ غيور على ممار وفلسفة حياة مصنّفة للإنسانية على أنّه تفرّد يحتاج إلى استثناءات في التعامل على جميع الأصعدة، إذا ما أردنا لها أن تنهض من تحت الركام الذي يؤثث شوارعها وأحياءها.

في هذا الملف الذي أعده القسم الثقافي لجريدة "المساء"، نحاول تسليط الضوء على ما تمّ في هذا الحي العتيق الذي كان ولا يزال ملهم الجزائريين، ويعدّ الانتماء إليه مفخرة باعتباره رمزا للفتوة، الأصالة، الأنفة ونبل الأخلاق والتمسّك بالوطن، فجالت "المساء" في زوايا وأركان قلعة الجزائر وبلغت الأجنحة والأماكن البعيدة عن الزيارات الرسمية، ووقفت عند تقدّم أشغال الترميم، مثلما استنطقت الذاكرة بالحديث عن الجانب غير المادي للقصبة، وما تحمله من تميّز وذاكرة.

ولاستعراض ما يعيق تألّق القصبة، استضاف منتدى "المساء" السيد عبد الوهاب زكاغ، المدير العام للديوان الوطني لتسيير واستغلال الممتلكات الثقافية المحمية، للحديث عن أمور ترتبط بهذا المعلم الرمز، ما تمّ انجازه، ما المرجو مستقبلا، حيث رافع الضيف على ضرورة تقديم تسهيلات واجتهادات قانونية تعمل على الارتقاء بتاريخنا وتثمّنه كحالة متفرّدة.

عن تراث القصبة غير المادي

ترقد القصبة على تراث ثقيل يتجاوز جدران قصورها وقلاعها، وتتذكّر عبر أجيالها خصائص هويتها الثقافية والحضارية، ويكفيها فخرا أنها كانت "دار الإسلام" التي واجهت المستعمر والتنصير، وضربت بيد طائلة كلّ أعدائها برا وبحرا. كما حاولت لقرابة قرن كامل أن تستعيد الأندلس من جديد، لكن القدر وصيرورة التاريخ كانا الأقوى، ومهما يكن فإنّ المحروسة ظلّت من خلال هذا التراث غير المادي هي نفسها التي توارثتها الأجيال والتي تعمل جهات مختلفة سواء من الوصاية أو المجتمع المدني على أن ترمّم أيّة شروخ تطال الذاكرة التي لم تترك فرنسا فرصة إلا وضربتها في العمق كي تسحق الانتماء وتكسر المقاومة.

لا تكفي كلّ سجلات التاريخ لتملأ ماضي هذا المكان الذي لا يزال يفرض وجوده كرمز للحضارة والمقاومة، ويذكر أبناء القصبة ممن التقتهم "المساء" أنّ ملكة بريطانيا إليزابيت عندما رست باخرتها في ميناء الجزائر بداية الثمانينيات، خاطبت الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد قائلة "بحارتكم استطاعوا الوصول حتى اسكتلندا" وهذا اعتراف للبحرية الجزائرية التي شقّت عباب البحار قبل احتلال الجزائر سنة 1830، كما بقيت مدينة الجزائر واسطنبول حامية ديار الإسلام وحاملة لواء الجهاد. تكفّل أكبر المؤرخين والسياسيين الجزائريين بتوثيق هذه الذاكرة في كتب كي تصل للأجيال وللآخر الذي يشطب اسم الجزائر من التاريخ والهوية، ولقراءة بعض من هذا التاريخ زارت "المساء"، "مؤسسة القصبة" بأعالي المدينة القديمة وتحدثت مع بعض المدافعين عن هذه الذاكرة والمهتمين بترسيخها على الساحة الوطنية .

الأستاذ رضا عمراني: اقرؤوا تاريخكم من الكبار

يتحدّث الأستاذ والباحث رضا عمراني (نائب رئيس مؤسسة القصبة) لـ"المساء" عن أهمية هذا التاريخ وحضوره اليوم قصد التشبّث بهذا الماضي المجيد محلّ الاعتزاز وقصد بناء حاضر ومستقبل مبني على أسس  متينة، ويقول أنّ مدينة الجزائر كانت مختلفة إلى حدّ كبير قبل الاحتلال الذي عمل على طمس هويتها المعمارية والثقافية، فاخترقها من خلال شوارع عصرية قسمتها وقضى على الجزء الجنوبي من المدينة الذي كان في المقام الأول رمزا للسلطة الجزائرية، ومنها قصر الجنينة مقر الداي وغيرها من مؤسسات الدولة، إضافة إلى 6 جزر سويت وضمت لليابسة، وعموما بقي من ضمن 3600 مبنى حوالي 1200مباشرة بعد سنة 1962.

وأكّد محدث "المساء" أنّ القصبة استطاعت أن تصمد لمدة ثلاثة قرون أمام حملات التمسيح لتبقى الدولة الجزائرية الوحيدة مع مركز الخلافة باسطنبول في العالم الإسلامي صامدة خاصة بعد مجيء الإخوة بربروس حيث بقيت المحروسة تمثّل "دار الإسلام"، كما يؤكّد عمراني أنّ الجزائر ممثّلة في القصبة ظلّت تحاول لمدة قرن كامل استعادة أرض الأندلس وذلك بالتعاون مع المورسكيين (مسلمي الأندلس)، كما يشير إلى أنّ الجزائر لم تحتل بسبب ضعفها كما حدث مع بلدان أخرى، بل لأنّها كانت دولة قوية تشكّل تهديدا على الضفة الأخرى من المتوسط وتفرض قوانينها على الجميع ولها 140 اتفاقية دولية مع القوى الكبرى .

بالنسبة لهذا التاريخ المجيد، أسهب الجزائريون في البحث فيه وحفظ ما فيه من ذاكرة وطنية بأدق التفاصيل، وهنا يذكر المتحدّث كتاب الراحل مصطفى لشرف الذي كانت والدته من القصبة وتناول فيه الرأسمال الثقافي للقصبة، حيث حفظت كنوز التراث العربي التي ضاعت من المشرق، منها كتب ابن العربي وابن سيناء وأبي مدين شعيب وغيرها وشهدت ساحة الشهداء (قصيرة سابقا) مجدا علميا، حيث كانت حومة الخطاطين والنساخين يكتبون مئات الكتب تصل حتى تومبكتو والقاهرة وتواصلت أجيالهم وصولا إلى عمر راسم الذي حكمت عليه فرنسا في وقت من الأوقات بالإعدام . القصبة أيضا هي تراث سيدي عبد الرحمن الرمز الروحي لها ولجهادها، والذي كان يلتحق أئمة المسجد الكبير للإقامة فيه بعد كبر سنهم، وهي أيضا المجد الفني ابتداء من الموسيقى علما أنه في نهاية القرن ال17، كما يذكر عمراني، جمع مفتي الجزائر كل الفنانين والمثقفين ولامهم لأن تراثنا الفني بيد اليهود وحثهم على تطويره فنقلوه من المديح إلى الأندلسي وهنا دلالة على أن الإسلام لم يحرم الفن . 

عبد المجيد حمزة: القصبة هوية وطنية لها في التاريخ سيادة 

يتحمّس عبد المجيد (عضو بالمؤسسة) وهو يتحدّث عن قصبته التي رأى فيها نور الحياة تماما كما كان أجداده الذين اشتهروا في الحياة العامة منذ مئات السنين خاصة في الإمامة والقضاء، ويحكي عبد المجيد عن كلّ ركن في القصبة من الأبواب إلى الأحياء إلى الساحة والجنينة ومقاهيها الشعبية التي كانت مزار الفنانين إلى القلعة وكتشاوة وجامع سيدي رمضان إلى دار عزيزة ودار الصوف التي حولها المظليون سنة 1957 إبان الثورة إلى مقر للخونة (البياعين)، وهناك حمام سيدنا القائم منذ 3 قرون (لا تزال فوارته موجودة) إلى قصر مصطفى باشا الذي يشبه قصور اسطنبول ففيه يجاور المطبخ الحمام لاستغلال حطب التسخين في الطهي، يتذكّر أيضا دار القاضي بوشاشية اسطنبول الذي كان يحكم ويشرع للمسلمين المختلفين تماما عن غيرهم في العقيدة والمعاملات.

يحكي المتحدث بكثير من الحنين والتأثر عن هذا التراث المجيد، وعن هذه القيم التي غرست في الأجيال فشبعتهم بالهوية والانتماء ومكّنتهم من أن يواجهوا بها مخطّطات الاستعمار، القصبة هي التراث والتاريخ والعادات والتقاليد والفن وكل فنون الحياة التي صمدت أمام التشويه، وأشار المتحدث إلى أنّه بصدد التحضير لمعرض خاص بالبطاقات البريدية جمعها وتبلغ 250 بطاقة أقدمها يعود لسنة 1898 وكلّها تحكي تاريخ القصبة والعاصمة الجزائرية ذات الحايك الأبيض الناصح، ويرتبط محدث "المساء" بالقراءة ناصحا جيل الشباب بالمطالعة ليعرف تاريخ أجداده ومما يقرأ ذكر أنه ملتز بمكتبة خزناجي وبالمجلة الإفريقية وبكل ما كتبه الجزائريون والفرنسيس.

حسن كرار: الثورة لؤلؤة في تاج القصبة

يروي المجاهد والبرلماني السابق ابن القصبة حسن كرار بعضا من تاريخ القصبة المشرف والذي انعكس بجلاله في ثورة التحرير، حيث دفعت القصبة بأبنائها وبناتها قوافل إلى الشهادة في سبيل الله والوطن، ناهيك عن نضالها السياسي الذي لم ينقطع يوما، فكل شارع وحارة تنقش فيها الذكريات وتفوح منها رائحة الشهداء الزكية. ونظرا لهذا الثقل فقد جعلها مؤتمر الصومام منطقة حرة، ونتيجة لذلك أيضا أصبحت تعرف بمعركة الجزائر التي وصل صيتها إلى أصقاع العالم..إنّها المكان الذي جمع كل الجزائريين ووحدهم على كلمة الحق وأخفاهم عن العدو، تماما كما أخفى السلاح قبل اندلاع الثورة وكون الخلايا السرية وفصل بين المتخاصمين عند اندلاع الثورة، والحقيقة أن القصبة دفعت بالشهداء في مظاهرات 1 ماي 1945 التي سقط فيها الأبرياء العزل خاصة بشارع العربي بلمهيدي.

بالقصبة ترعرعت الجميلات الثلاث واستشهدت حسيبة والصغير علي وفيها قاوم سعدي وزملاؤه وفيها تفتقت عبقرية شعب بأكمله استطاع أن يحتال حتى على الأزقة التي فتحها المظليون داخل الحارات وأصبح يسميها بقنوات السويس ، ومن أراد أن يتعلم البطولة والفداء فعليه أن يتعلم منها. تبقى الثورة جوهرة في تاج القصبة التي صنعت لها مجدا فوق مجد . صحيح أن المعالم والجدران محتاجة للترميم لكن تتطلب الذاكرة بدورها نوعا من الصيانة والترميم، كي يستفيد منها جيل المستقبل ويتحصن بها ويكون امتدادا للريس مراد ولعلي لابوانت وعلي هارون وجميلة وغيرهم من أبناء القصبة هذه التي قهرت أعداءها بالجهاد وبدعوة الصالحين تماما كما حدث عند عدوان شارلكان بسفنه الـ300التي قهرتها الأعاصير .