المؤرخ محمد غرتيل يتحدث إلـى “المساء” عن “فحلات” غليزان

تعذيب وقتل وتنكيل ببطلات أرعبن الاستعمار لتحيا الجزائر!

تعذيب وقتل وتنكيل ببطلات أرعبن الاستعمار لتحيا الجزائر!
  • القراءات: 1236
أحلام محي الدين أحلام محي الدين

عاد الباحث والمؤرخ محمد غرتيل للحديث عن بطولات مجاهدات وشهيدات ولاية غليزان، في دردشة خص بها “المساء”، أعاد، خلالها، فتح جرح لطالما أدمى القلوب، وارتعشت له الفرائص من هول وقعه، واصفا هؤلاء البطلات بـ “الفحلات”، قائلا: “إن الفحلة الجزائرية التي كانت تهرع للإسطبل كلما اقتحم جنود الجيش الفرنسي القرية فتمرّغ نفسها بروث البقر حتى لا يقربها العدو وينال من شرفها، هي التي جاعت، ومزّقت ثيابها، وتَقطع جسدها بالعذاب ولم تتفوه بكلمة لتخون زوجها وأخاها المجاهد. كما كانت تطلق الزغاريد المدوية عند سقوط الغالي، لترعب العدو”، موضحا أنهن كثيرات، أسماؤهن خلّدتها الذاكرة الوطنية، على غرار “معروف العالية، وبوعبد الله فاطمة، وبوطالب زينة، وويس فتيحة، وحاج عابد عتيقة، ومغيش يمينة، وبلحيلالي الزهرة، ومغوفل فاطمة”.

قال المؤرخ في تصريخ خص به “المساء”: “شهيدات غليزان كافحن بالنفس والنفيس من أجل أن تحيا الجزائر حرة مستقلة في كنف الكرامة والشموخ، فهن نموذج للمرأة الجزائرية التي لم تتوان ولم تتردد في تحمّل المسؤولية تجاه وطنها، فناضلت، وقاومت، وكافحت المستدمر الغاشم منذ أن وطئت أقدامه هذه الأرض الطاهرة، بكل الطرق والوسائل، وأخلصت للقضية الوطنية بشجاعة جنبا إلى جنب أخيها الرجل عبر مختلف مراحل النضال والكفاح، خاصة أثناء الثورة التحريرية”، مواصلا: “تحمَّلن مهمات كثيرة ومتنوعة بما فيها شؤون الأسرة والأولاد، خاصة إذا ما علمنا أن أغلب أزواجهن كانوا في الجبال، إلى جانب التموين بالمؤونة، والخياطة، والرعي، والري، والفلاحة، والاعتناء بالجرحى من المجاهدين داخل المستشفيات السرية. كما شاركن بفعالية في القتال، وجمع المعلومات، والتبرعات، ورفع معنويات المجاهدين، وتشييع الشهداء عن طريق الزغاريد والأغاني الحماسية”.

نماذج للتضحيات الجسام

ومن بين نماذج تضحية وبطولة المرأة الغليزانية، ذكر محمد غرتيل الشهيدة مغيش يمينة (دليلة)، التي تُعد من أوائل الملتحقات بصفوف جيش التحرير بمنطقة الونشريس الغربي كممرضة، التي عُرفت، ثوريا، باسم دليلة. وُلدت في 21 ديسمبر 1941 بجديوية من عرش قرواو بأولاد عائشة. ثم انخرطت في الثورة وعمرها 16 سنة. تزوجت النقيب زناسني عبد القادر “النقيب أبو الحسن”، قائد المنطقة الرابعة من الولاية الخامسة التاريخية، فأنجبت منه ابنها الحسن. سقطت في ميدان الشرف رفقة ابنها الحسن، الذي لم يتجاوز سنه 6 أشهر، في معركة شراطة الكبرى بجبال الونشريس. في فيفري 1959 م، كانت شرسة على أرض المعركة، حملت ابنها على ظهرها، وبيمناها حقيبتها الطبية، وباليد الأخرى أمسكت برشاشها، ليلحق بها زوجها النقيب أبو الحسن شهيدا يوم 19 فيفري 1962 م. هذه المرأة البطلة قدّمت زوجها وابنها ونفسها عربونا لحرية هذا الوطن، وسطرت، بذلك، أسمى مظاهر الفداء.

ويُشهد، من جهة أخرى، للشهيدة البطلة ويس فتيحة المعروفة ثوريا بـ “نصيرة” التي وُلدت سنة 1939 م، يُشهد لها بشجاعتها، وثباتها في أرض المعركة، حيث لعبت دورا هاما في التخطيط لاغتيال السفاح النقيب “جاكو”، من خلال جلبها رفقة زوجها، المجموعة الفدائية التي أُسندت لها عملية التنفيذ من وهران، فسقطت في ميدان الشرف، ولم تترك بندقيتها حتى الرمق الأخير، لتنال الشهادة مع رفاقها سنة 1961م.

كما تفخر غليزان بإنجابها المجاهدة بدرة جلول عبو، أول امرأة مارست مهنة التعليم في مدينة غليزان (1948 - 1953) بمدرسة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين شعبة غليزان، لما زار الشيخ البشير الإبراهيمي القسم الذي كانت تدرّس به، قال لها: “أنت، إن شاء الله، امرأة المستقبل”.

اعتُقلت أثناء حصار مدينة غليزان في 02 أوت 1958، وقد تعرضت لأبشع طرق التعذيب بمركز الحرس المتنقل. المجاهدة أرملة الشهيد بن دادة المدعو (سي يونس)، بعد الاستقلال انخرطت في سلك التعليم، وهي أول امرأة تنتخب سنة 1967م، بالمجلس الشعبي لبلدية غليزان.

ذكر المؤرخ، أيضا، المجاهدة البطلة بن دلة خضرة التي وُلدت بتاريخ 12 أوت 1924م بجديوية والمعروفة ثوريا بلقب “القرعة”، كان أول اتصال لها بالثورة سنة 1957م، حيث كان البيت العائلي لوالديها مركزا للثورة، وكان يُعرف بمركز بن دلة، فقامت الحاجّة خضرة بتحويل بيتها إلى مركز راحة للمجاهدين، عُرف بمركز قاسم. وحفرت داخله مخبأ رفقة ابنها قاسم امحمد سنة 1961 م. وتم تكليفها بمهمة تأمين كل الضروريات لقادة الثورة عند النزول عندها في المركز بقيادة الشهيد الرائد كرزازي عبد الرحمن “سي طارق”، حيث كانت تعجن الخبز، وتطهو الطعام، وتخيط ملابس الجنود، وتحرسهم، وتنقل الوثائق السرية. كانت عبقرية في التخطيط، حيث إنها كانت تغرس النعناع وكل أنواع الأزهار فوق المخبأ حتى لا تستطيع الكلاب البوليسية شم رائحة من بداخله. تعرضت الحاجّة خضرة للتعذيب بأساليب جهنمية خلال استنطاقها إلى درجة أن أحد الجنود الفرنسيين ضربها بأخمص بندقيته وكانت حاملا. بقيت شامخة صابرة محتسبة. وبرز دورها، أيضا، في علاج جروح المصابين باستعمال الأعشاب الطبية.

الاغتصاب وبقر البطون... وحشية مارسها المستدمر!

تصدت المرأة الجزائرية لكل الممارسات الرامية إلى طمس الشخصية الوطنية، والقضاء على مقومات شعبها وتاريخها. ورغم القهر والتعذيب الشنيع يقول حيالها المؤرخ محمد غرتيل: “بقيت المرأة تؤدي دورها الأول والأساس في المحافظة على أسرتها من الذوبان والتفكك. وعوّضت غياب الرجل، لتصبح مسؤولة عن الأسرة في المدينة أو الريف، وبذلك احتلت مكانتها داخل الثورة كمجاهدة في الجبال أو فدائية أو ممرضة، تسهر على صحة إخوانها المجاهدين، أو تطبخ، وتخيط، وتجمع المعلومة كعنصر استخباراتي مهم، وترفع معنويات المجاهدين بزغاريدها القوية”.

ويواصل المؤرخ قائلا: “لقد كانت الفتاة الجزائرية ترفض خطوبتها أو زواجها إلا إذا كان الرجل مجاهدا. وبعض زوجات الحركى والخونة طلبن الطلاق من أزواجهن. وهناك من تركت أبناءها، والتحقت بالثورة لتمسح العار. كما هناك من كن في صراع مع أسرهن أو أزواجهن الخونة، لذلك فهمت جيدا فرنسا الدور المحوري الذي تلعبه الجزائرية في الثورة التحريرية، فقررت أن تنتقم منها أشد انتقام، إلى درجة أن هناك بعض الشهادات يعجز اللسان عن وصفها أو النطق بها، ولا يمكن أن يتصورها العقل البشري، وتُعتبر من الطابوهات المسكوت عنها، فقد كان الجنود الفرنسيون والحركى العملاء عند قيامهم بتفتيش منازل المشبوهين بانتمائهم لجبهة التحرير الوطني، حينما لا يجدون الرجال، يأخذون البنت البكر أو الزوجة أو الأم، إلى المراكز العسكرية للتعذيب والاغتصاب، وحجزهن لعدة أيام للتمتع بهن. وعند الانتهاء يتم التخلص منهن بالقتل الجماعي. ومن يتم إطلاق سراحها تعود إلى أهلها وتقدم على الانتحار. أما المرأة الحامل فقد كان هناك رهان بين العساكر والحركى حول ما إذا كان ما في بطنها ولد أو بنت، فيتم بقر بطنها وإخراج الجنين! فبعد كل هزيمة يتعرض لها العساكر الفرنسيون ينقلبون للثأر من المدنيين، فيهتكون حرمة النساء، اللواتي يفضلن الموت، فيلقين بأنفسهن من قمم الجبال؛ حفاظا على شرفهن”.

وأضاف المؤرخ غرتيل: “أما النساء اللواتي كن يتحملن التعذيب ولا ينطقن بأسرار حول الثورة مفضلات الشهادة في سبيل الله، فكان هذا الأمر يغضب الفرنسيين، ويؤدي بهم إلى مضاعفة العذاب بوسائل أخرى تختلف عن الوسائل الأولى، كاستعمال الكهرباء في الرأس والأذنين، ونزع اللحم بالكلابة في أماكن حساسة كالثدي، مع الشتم بالكلمات النابية، ونهش الكلاب البوليسية أجسادهن، ووضعهن في خزان مائي عاريات تحت برودة طقس شديدة في فصل الشتاء، ومن شدة التعذيب كان يغمى عليهن بين الفينة والأخرى، والكي بالنار، وجرح المناطق الحساسة من الجسم وملئها بالبهارات. وتستمر العملية عدة أيام، ثم حرقها بالشموع، ونزع الأظافر والأسنان، وإقعادهن على قارورات زجاجية، وملء بطونهن بالماء والصابون بغية الحصول على معلومات منهن! كما كان يتم تجريد كل أفراد الأسرة في مكان واحد من ثيابهم، وهم يتفرجون، ويتلذذون عليهم باللمس والضرب المبرح لتخويفهم وترهيبهم، فينتهك الحركى الخونة الأعراض أمام أعين أفراد العائلة، ويجبَر الابن على انتهاك حرمة زوجة الأخ تحت الضرب والتعذيب! كانت النساء يحرَمن من الأكل والشرب والنوم مدة زمنية محددة، لإرهاقهن نفسيا، وتهيئتهن للتعذيب الأشد قسوة!”.

وفي الختام يقول المؤرخ غرتيل: “كل هذه الأساليب الإجرامية التي استخدمها المستدمر الفرنسي ضد المرأة الجزائرية، كان يهدف من خلالها، إلى القضاء على النضال والكفاح لديها حتى تفشل الثورة ولكن جميلات الجزائر أجهضن كل هذه المحاولات، وتحدَّين أبشع طرق التعذيب، ليسطرن تاريخا مشرفا كُتب بدماء الشهداء “، منهيا حديثة: “شكرا لكل المجاهدات والشهيدات والأمهات، والمجد والخلود لشهدائنا الأبرار، عاشت الجزائر حرة مستقلة”.