تيزي وزو

ترحيب بعام الخير

ترحيب بعام الخير
  • القراءات: 2520
س. زميحي س. زميحي

يحتفل اليوم سكان منطقة القبائل والأمازيغ، وكل الجزائريين أينما وُجدوا، برأس السنة الأمازيغية الجديدة 2971، وهي المناسبة التي تصادف تاريخ 12 يناير من كل سنة، حيث تنتظر العائلات قدوم هذا التاريخ بكثير من الحماس والتحضيرات المكثفة للاحتفال به في جو بهيج؛ تعبيرا، من جهة، عن فرحتهم التي يصاحبها إحياء عادات وطقوس موروثة منذ عصور، ولأهمية هذا التاريخ ورمزيته في الذاكرة الجماعية التي تعبر عن مجد وعظماء الأمازيغ والحضارة الأمازيغية العريقة، من جهة أخرى، آملين أن تكون سنة خير وفألا حسنا لهم وللمحاصيل الزراعية.

شهدت كل أرجاء الولاية من قرى ومدن، منذ أيام، حركة غير عادية؛ استعدادا لهذا الحدث الهام، الذي يكن له السكان وزنا وقيمة كبيرين، حيث يُعتبر بمثابة ميلاد جديد لهم، وهو ما جعلهم يحرصون على الاحتفال به، في جو مميز يختلف عن باقي الاحتفالات الأخرى، حيث تعم الأرجاء أجواء من الفرحة والتضامن والأخوة والصداقة التي يشترك فيها الجميع؛ في لمة مليئة بالدفء والمحبة، غايتها إحياء العادات والتقاليد والترحيب بعام جديد، وكلهم أمل في الخير والصحة والرزق الوافر.

شيشناق.. مسيرة زعيم ورمز القوة والعظمة

عند الحديث عن يناير والاحتفالات المصاحبة له، لا يخلو الاحتفال من ذكر البطل الأمازيغي شيشناق، الذي استطاع أن يتولى حكم مصر ويحمل لقب ”فرعون”، ليؤسس بذلك لحكم أسرته، الأسرة الثانية والعشرين في عام 950 ق.م، التي حكمت قرابة قرنين من الزمن، وبعدما عرفه الإغريق، سموه ”سوساكوس”.

خلال حكم الأسرة الحادية والعشرين، عصفت بمصر أحداث داخلية وخارجية؛ كانت وراء انتشار الفساد في الدولة وكثرة الضرائب التي أثقلت كاهل الشعب، ولم يجد الفرعون حلا، وبدا في محاولة حل المشاكل سلميا، واضطر إلى المهادنة مع مملكة بني إسرائيل أيضا، التي كانت قوتها تتعاظم في فلسطين تحت حكم النبي داود، عليه السلام. وفي هذه الفترة، كان ظهور شيشناق واقترانه بابنة الفرعون بسوسنس الثاني، آخر ملوك هذه الأسرة، فأعلن عن قيام الأسرة الثانية والعشرين، وكان ذلك حوالي عام 940 قبل الميلاد.

في عهده، كتب في إحدى الصخور في وادي الملوك بمصر، أقوى المعارك التي قادها منتصرا. وتم التعرف على هذا الملك الأمازيغي بعد اكتشاف مقبرته من قبل الفرنسي البروفيسور مونيته سنة 1940م، والتي وُجدت بكامل كنوزها ولم تتعرض للنهب. وكان الاكتشاف على أعتاب الحرب العالمية الثانية، فلم ينل التغطية والاهتمام، كما حدث عند اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون. ونظرا لحجم الفضة التي عُثر عليها بمقبرته، سمي ”شيشناق” بـ"الفرعون الفضي”.

انتصار وبداية التقويم الأمازيغي

يعتبر التقويم الأمازيغي من بين أقدم التقويمات، حيث يستعمله العنصر الأمازيغي منذ 2971 سنة. وعلى خلاف التقويمين الميلادي والهجري، فإن التقويم الأمازيغي غير مرتبط بحدث ديني أو عبادة، إنما مرتبط بحدث تاريخي يعود إلى 950 قبل الميلاد، تاريخ انتصار الزعيم الأمازيغي شيشناق على الفرعون رامسيس الثالث وجيوشه، الذين حاولوا عدة مرات غزو بلاد الأمازيغ عبر الحدود المصرية الليبية، غير أن قوة جيوش شيشناق العظيمة قهرت فرعون مصر، ليكون أول ملك في عصره يقهر الفراعنة ويترأس مملكة الأمازيغ في مصر، ومنذ ذلك الحين، بدأت الرزنامة الخاصة بالأمازيغ في عد أيامها، ليصبح هذا التاريخ يوم احتفال، يعود كل سنة لتمجيد العظماء الأمازيغ.

تُعتبر هذه المرحلة التاريخية الهامة، أهم محطة في تاريخ الأمازيغ من بلاد القبائل والشاوية والتوارق وبني ميزاب وغيرهم، الذين يحتفلون بهذه المناسبة، من جهة. ومن جهة أخرى، يُعتبر تاريخ 12 يناير بداية العام الفلاحي وانطلاق خدمة الأرض، مما يؤكد ارتباط السكان بالزارعة التي عشقوها دوما، ويكرس فهمهم الخاص للحياة، حيث أن الملاحظ للعادات والتقاليد التي تقام خلال رأس السنة الأمازيغية، يظهر له جليا الارتباط الوثيق للسكان بالأنشطة الفلاحية، من زراعة وتربية الماشية، وهو ما يعكس علاقة هذا اليوم بانطلاق الموسم الفلاحي، وحضور التبرك والاستبشار بموسم جيد يجلب الخير والرخاء للجميع.

يقول عمي أرزقي، من واضية، إن 12 يناير يعد فاصلا بين عام قديم وعام جديد، وبداية سنوية لإنجاز أعمال الفلاحة وكل ما يتعلق بالزراعة، إذ لهذا التاريخ علاقة وطيدة بموسم الحرث والبذر وغرس الأشجار، فهو بمثابة نقطة انطلاق كل العمليات الفلاحية. وعلى هذا الأساس، تم تقسيم الفصول في السنة البربرية وفقا لموسم الزرع، الحصاد والجني، والتي تسمى، حسب الرزنامة الأمازيغية، بمواسم ”إملالن”، ”إزقزاون”، ”إقورانن”، ”سمايم ن لخريف”، ”أضرف 30”، ”أضرف 90”، ”أحقان”، وغيرها من الأسماء التي تقوَّم بها أشهر السنة الأمازيغية، والتي لا زالت إلى حد اليوم، رزنامة السكان للفصل بين فصل وآخر، وبها يحددون موعد زرع محصول وآخر، وغيرها من المراحل التي تصاحب خدمة الأرض.

"يناير” كلمة منقسمة إلى شقين؛ الأول ”ينا” والذي يعني الفاتح أو أول أو بداية، والشق الثاني ”ير” يعني الشهر، ليتشكل بذلك معنى الفاتح من الشهر أو بداية الشهر للسنة الأمازيغية، كما يسمى ”أمنزو نيناير” أو ”تابروث أوسقاس”؛ أي بداية السنة الجديدة.

”أسفل” لإبعاد العين وفرصة للتراحم

يولي سكان منطقة القبائل وعديد مناطق الوطن أهمية كبيرة ليناير، حيث يعتبرونه مناسبة لتجديد القوى الروحية، من خلال ممارسة بعض الطقوس التي يُرجى منها إبعاد شبح الجوع، والتماس أسباب الخير والسعادة التي لا تكون إلا بوفرة المحاصيل، لذلك يستعد الجميع، من نساء ورجال معا، لهذا الحدث أياما قبل حلوله؛ من خلال اقتناء وتوفير كل متطلبات ومستلزمات إحياء عادات وطقوس يناير، التي تطبعها الولائم والأطباق التقليدية، في جو يسوده التراحم والتضامن والاستبشار بفأل خير للجميع، حيث يظهر ذلك من خلال ما تجسده الطقوس الموروثة والخاصة بهذه المناسبة، وما تتركه من انطباع جيد في نفوس السكان.

ترى العائلات أن بداية السنة يجب أن تكون جالبة للخير والإنتاج الوفير، حيث تكون بداية السنة الجديدة نهاية مؤونة العام الماضي، ليجتمعوا في هذا اليوم من أجل إحصاء ما أُنفق من مدخراتهم من المؤونة، والاستعداد للاستبشار بعام جيد، بالعمل معا في إطار الأخوة، التضامن والمحبة ونشر الفرحة عبر اقتناء أجمل الملابس للأطفال، ليستقبلوا السنة بحلة جميلة، مع تنظيف البيت وتدعيمه بكل حاجياته؛ من جلب الماء، الأغصان وكل ما يحتاجونه حتى يمر ”يناير” ويجْهز كل بيت ليبارك له الوفرة وعدم النقص على مدار سنة.

تكتمل الفرحة بيناير بتجسيد العادات التي تقتضي تقديم ”أسفل”؛ من خلال نحر الدواجن؛ بذبح ديك عن كل رجل، ودجاجة عن كل امرأة، وديك ودجاجة معا عن كل امرأة حامل من العائلة. تقول ”نا الجوهر”، من واسيف، إن التحضير ليناير هذه السنة بدأ منذ العام الماضي، نفس الشيء بالنسبة ليناير العام المقبل، حيث يتم تربية الدواجن في البيت خصيصا لهذا اليوم. كما تخرج النساء على مدار السنة إلى الحقول، لجمع كل ما يمكن وادخاره لهذا التاريخ، حتى يتم الاستعانة به في تحضير الطبق التقليدي ليناير الشهير بسبعة بقول، مع تحضير أطباق أخرى لتنويع مائدة يناير.

لقد حرص سكان القرى على استمرار هذه العادة؛ من خلال ترسيخ مبادئ التضامن والتآزر، باقتناء دواجن لتنظيم وليمة أو وعدة كبيرة، يكون الجميع مدعوين إليها لتناول عشاء يناير معا؛ في أجواء من الفرحة والبهجة تعزز أواصر المحبة، وتضيء قلوب الفقراء والمساكين نورا، بمشاركتهم نفس الطبق الذي يتساوى فيه الجميع من الفقير والغني، ويبقى الأساس هو التفاؤل بعام مليء بالخيرات والرزق والسعادة والهناء.

”إيمنسي ن ناير”.. ”سكسو ن سبعا إيسوفار”

تأتي في إطار الاحتفالات بيناير، المرحلة الأهم التي يلتم بفضلها شمل كل أفراد العائلة؛ من خلال تجمعهم حول مائدة واحدة لتناول عشاء يناير ”سكسو ن سبعا إيسوفار”، حيث يتم طهي لحم الدجاج مع الكسكسي، بإضافة سبعة بقول؛ منها الفول، الحمص، الفاصولياء، العدس، الشعير، القمح وغيرها.

وتنص العادات على ضرورة احتواء الطبق على لحم الدجاج والبقول السبعة؛ لما لذلك من أهمية في حماية العائلة من الأمراض وإبعاد الحسد والعين عنها طيلة السنة، حيث تقول السيدة ”جقجيقة” من إعكوران، إنه حسب ما تذكره المتقدمات في السن، يكفي تناول مرق هذا الطبق حتى يشفى المريض من مرضه، وهذا دليل على منافع هذا الطبق الغني والمتنوع في محتواه. كما أن عادة تقديم ”أسفل” مهمة عند العائلات القبائلية، لأنها تفتح باب الرزق والسعادة، كما أنها تقي أفرادها من المخاطر طيلة أيام السنة.

تحرص النساء خلال التحضير لعشاء يناير، على أن لا ينقص المائدة أي شيء، وأن يكون كل ما حُضر لهذه المناسبة يكفي وبزيادة للجميع، حيث تعمل على أن تكون المائدة متنوعة، من خلال إعداد المعجنات ومختلف المأكولات التقليدية، مثل المسمن، ”تغرفين”، ”ثيحبولين”، ”أعمام القاضي”، ”امزوغ”، ”ثمتوت أوضاجين”، ”ثمتوت نزيث”، ”ثحياست”، وغيرها من المأكولات الشعبية، مع إعداد مأكولات محضرة بالخميرة؛ تعبيرا عن أمنية تضاعف أرزاق العائلة، وحرص ربات البيوت على تنوع الأطباق في تلك الليلة؛ على اعتبار أن قلتها لها تأثير كبير على باقي أيام السنة، لهذا تحرص على ضمان الوفرة في كل شيء.

تقول ”نا وردية” من عين الحمام، في هذا الصدد، إنه وحسب العادات، يتم تقديم الأطباق كل على حدة، في حين يتم وضع عشاء يناير ”سكسو ن سبعا إيسوفار”، في طبق من الفخار ويتناول منه الجميع. وبعد الانتهاء من العشاء، تُترك كل الأطباق كما هي على المائدة طيلة ليلة كاملة، كي يجد يناير الأكل والخير متوفرا، مشيرة إلى أنه يتم وضع بطبق ”آمنسي يناير” ملاعق كل أفراد العائلة الذين يتواجدون بالبيت، وملاعق بأسماء المغتربين، إذ تحرص ربة البيت على أن يضم الطبق ملاعق كل أفرادها أينما وُجدوا.

ترافق جلسة العشاء عادات جميلة، خلقت في نفوس سكان القبائل حبا لهذا التاريخ وأملا في لقاء جديد العام المقبل، ليتم إحياء نفس العادات؛ لما لها من معان وتجسيد قوة التمسك بالموروث عن الأجداد. وتحرص ربات البيوت على أن يأكل كل فرد إلى غاية الإحساس بالشبع. وبعد الانتهاء من العشاء، تقوم الجدة أو الأم بطرح سؤال على كافة أفراد العائلة؛ حيث تقول لهم بالقبائلية ”ثرويض؟” (هل شبعت؟)، فيجيبها كل فرد على حدة ”إيه رويغ” (نعم شبعت). وحسب المعتقدات فهذا الجواب هو فأل بالنسبة للعام الجديد، ويكون مليئا بالخيرات والأرزاق، وإن كان العكس، فإن مصير ذلك الشخص أو العائلة الفقر طيلة العام.

تُعتبر الغاية الأسمى من الاحتفال برأس السنة الأمازيغية الجديدة لدى سكان منطقة القبائل، لمّ الشمل وصلة الرحم، حيث يجتمع كل أفراد العائلة حول مائدة العشاء. كما تقوم العائلات بتبادل الزيارات فيما بينها، وتبادل الأطباق المختلفة والمحضرة؛ تفاؤلا بأيام مليئة بالخير والبركة، وتجنبا للمصائب وسوء الحظ؛ لتعميم البهجة والفرحة، وترسيخ مبادئ الأخوة والتراحم بين الجميع.

”ثيموشوها” راسخة في الذاكرة الجماعية 

اختلفت الحكايات والأساطير حول يناير، لكن الأسطورة الأكثر تداولا والمعروفة بقوة، والتي تناقلتها الذاكرة الجماعية لسكان القرى، لتصل إلينا اليوم، تتناول قصة عجوز يحكى أنها كانت ترعى الأغنام والماعز، لكنها لم تخرج طيلة أيام يناير الممطرة من المنزل، ومع اقتراب حلول فيفري، خرجت ترعى وكانت تغني وتستهزئ بيناير على أنه ذاهب، و"فورار” (فيفري) على الأبواب، فغضب يناير وطلب من فيفري أن يعيره يوما واحد، قائلا له ”أتخليك أعمي فورار رظليي يباس ذا رطال، اثمغارث اذقراغ اخميس ذي النار”، وخرجت العجوز ترعى وهي تنتظر يوما مشرقا، لأنه أول يوم في فيفري، وفق حسابها، لكن فجأة انقلب الطقس وأصبح باردا مصحوبا بثلوج وبرد، وماتت العجوز وتحقق انتقام يناير.

في منطقة إعكوران، تضع النساء كومة أغصان فوق صخرة مسطحة ويضرمن النار، وعندما يتصاعد الدخان ويغنين ”رو رو ما تسروظ انبڤاون ذا ڤخام أولا يتشان أولا يسوان”، تطلق الأغصان قطرات ماء على شكل دموع، يستعين بها العازبات لتكحيل أعينهن بغية الزواج، والمتزوجات من أجل الإنجاب، مع ذكر الغرض والدعاء معا.

كما تصاحب احتفالات يناير، إحياء العادات القديمة المتجذرة في قلوب سكان القبائل، حيث يتم إخراج الطفل الصغير الذي يبلغ عاما، وتزيينه بلباس جميل، ليتم حلق شعره وإعداد وليمة كبيرة له بنحر أضحية، ودعوة كل سكان القرية للعشاء على مائدة يناير، ليكون الاحتفال احتفالين، أولهما ببلوغ الطفل عامه الأول، والثاني بمناسبة يناير.

يتم وضع الطفل داخل ”جفنة” كبيرة، ترمي فوقه جدته مزيجا من الحلويات والمكسرات والسكر والبيض، التي توزع فيما بعد على كل السكان، مع الدعاء بالصحة والخير الوفير، شاكرين الله عز وجل على نعمه.