المؤرخ الدكتور فؤاد سوفي لـ"المساء":

المعرفة الأكاديمية هي من تنقذ تاريخنا الوطني من مخالب السياسة ومؤامرات الأعداء

المعرفة الأكاديمية هي من تنقذ تاريخنا الوطني من مخالب السياسة ومؤامرات الأعداء
  • القراءات: 487
حاورته مريم . ن – ت: أ. ياسين حاورته مريم . ن – ت: أ. ياسين

يقف المؤرخ الدكتور فؤاد سوفي عند قضايا مختلفة تتعلق بتاريخنا الوطني، مثمنا دور الذين سبقوا من جيل المؤرخين في تسجيل هذا التاريخ، كما حذّر من أي مغالطات أو تشكيك يستهدف ذاكرتنا، كما حيا في هذا الحوار جهود الشباب في التنقيب في عمق الأحداث التاريخية مؤكدا أن هناك مدرسة تاريخ جزائرية تأسست خاصة منها الأكاديمية.

ماهي علاقتك بالتاريخ ولماذا ظلّ هذا الارتباط وثيقا؟

❊❊منذ صغري كان اهتمامي بالتاريخ كمادة علمية وكنت أقرأ كتاب التاريخ للموسم الدراسي الجديد قبل أن أدخله، ثم بعدها عانيت من عدم تكويني في اللغة العربية الفصحى، لكن كان عندي أساتذة جزائريون وفرنسيون من المستوى العالي غرسوا فيّ الالتزام بالمعرفة والنقد والبحث حتى مع انتهاء الامتحانات والشهادات ..أنا أسمع وأقرأ وأرى لكن ليس من حقي السكوت وإذا ما كنت مخطئا أتحدّث مع غيري وأصحّح فكرتي وإذا ما كان العكس أواصل إسماع كلمتي لتصل..هناك أمور وأطروحات حفّزت فيّ البحث لتقديم الحقيقة، منها أنّ وهران لم تقدّم شيئا عند اندلاع الثورة كما أنّني قدّمت دور وهران في أحداث 5 جويلية 1954 وغيرها من الأحداث ناهيك عن اهتمامي بتاريخ الحركة الوطنية بين الحربين.

هل ترون أنّ لكلّ جيل من المؤرّخين تساؤلاته التي يبني عليها أطروحاته؟

❊❊لكلّ جيل تساؤلات، وبالنسبة لجيلي من المؤرّخين كان الاتجاه يتبع مسار أساتذتنا الذين سبقونا، خاصة ممن لهم تكوين في مجال الأرشيف، وطبعا فإنّ لكلّ جيل الحقّ في أن يكتب التاريخ تماشيا وتساؤلاته وراهنه، فمثلا جيل التسعينيات وما بعدها كان منقسما لفئتين، واحدة تميل إلى جمعية العلماء المسلمين مع إعطائها مفهوم أو شعار “النوفمبرية الباديسية”، وهنا أقف لأذكر أن جيلنا قام بدوره في إبراز دور العلامة ابن باديس وتفرّده بجمع كلّ الحساسيات السياسية والأحزاب الوطنية الناشطة والشخصيات اليسارية منها خاصة بعد الحرب العالمية الثانية، في حين أنّ فئة أخرى من المؤرّخين تخرّجت من حزب الشعب أي قبل جيلنا كانت تقدم مصالي الحاج كرائد وزعيم وطني علما أنه لم يكن معروفا وزعيما قبل سنة 1936.

طبعا، لكلّ جيل اهتماماته وظروفه وخصوصيات مجتمعه وبالتالي فإنّ زمن اليوم ليس هو نفسه في فترة الخمسينيات، زد على ذلك متطلّبات المعرفة التاريخية واهتمام الجمهور أيضا، فهذا الأخير قد يطلب المزيد عن بن مهيدي أكثر من ايمدغاسن مثلا والبعض الآخر يطلب تاريخ الحركات السياسية أو غيرها.

هناك أيضا بعض الكتب التاريخية لا يتم الالتفات إليها وتنسى رغم أهميتها وهذا تفريط في العلم والبحث، وهنا أشير إلى دور المؤرّخ محفوظ قداش الذي لا يقرؤه الكثير من الطلبة ويكتفون بمؤرخين جزائريين آخرين لم يتكوّنوا في مجال التاريخ وهو ما أعتبره “غلطة”، لكني أثمن أيضا جيل الروّاد رغم عدم اختصاصهم العلمي في التاريخ منهم عبد الرحمن الجيلالي والميلي، الذين ساعدوا المؤرخين من خلال أبحاثهم.

بالنسبة لقداش فقد تبع حزب الشعب وتوفيق المدني كان بحزب الدستور وبحزب الشورى التونسيين ثم أمينا عاما بجمعية العلماء، والفرق أنّ قداش اطلع على الأرشيف ودرس بالجامعة وكان مؤرخا، في حين أنّ الميلي مثلا كان يجهل الفرنسية وتترجم له الكتب التي يأخذ عنها ومع ذلك فقد كان سبّاقا في الرجوع لتاريخ الجزائر القديم وكان أوّل من فتح الباب في هذا المنحى، تماما كما فتح توفيق المدني الباب للتأريخ العثماني أي فترة ما قبل 1830، فيما ركّز سعد الله على جمعية العلماء ودورها الأساسي في الحركة الوطنية وهو ما قال عنه قداش إنّه رغم جهود الجمعية فإنّها لم تكن رائدة في فكرة وطرح تغيير النظام الاستعماري.

هناك أيضا محمد حربي الذي يعدّ أوّل من أرّخ للثورة، علما أنّه كان فاعلا فيها ومؤرّخا أيضا وكتاباته ذات أهمية، وهو أوّل من قدّم أرشيف الثورة ولم يخفه، وبالتالي كلّ من يكتب عن الثورة لابدّ له أن يقرأ له، أمّا المذكرات فهي شهادات خاصة يجب أن تنحصر في التجارب والشهادات ولا تمتد للتأريخ، فهناك فرق شاسع بين المذكرات والتاريخ، لأنّ هذا الأخير هو طرح أسئلة وقراءات معمّقة ومصطلحات ووثائق وأرشيف مع التدقيق في كلّ ذلك وإلاّ كان أكبر المؤرّخين هم رجال الشرطة الفرنسية إذا كانت الشهادات والتقارير هي وحدها من تكتب التاريخ.

هل تملك الجزائر اليوم مدرستها التاريخية؟

عندنا جامعات وطلبة وباحثون ومؤرّخون، وبالتالي عندنا مدرسة تاريخية جزائرية تسأل التاريخ ولا تكتفي بالسرد والكلام وتثمّن الدليل، رغم أنّ الحقائق المطلقة هي عند الله وحده، وأرى أنّ كلمة “أنا” هي الخطأ الكبير فلكلّ رأي رأي يقابله ولابدّ من تبادل الآراء ومن حقّ كلّ إنسان أن يخطئ بشرط أن يتدارك الأمر ويصحّحه.

كيف هي عملية استغلال الأرشيف الموجود داخل الجزائر؟

❊❊أشير إلى أنّ كتابة التاريخ تتطلب الأرشيف وعلم الآثار، وأرى أنّه لا بدّ من سياسة تسمح بالمحافظة على هذا الأرشيف وعرضه، علما أنّنا نملك ترسانة من القوانين “خير وبركة” لكن التطبيق “؟”..، وعلينا فتح الأرشيف منه أرشيف الثورة خاصة وأنّ فرنسا فتحت أرشيفها واستقبلت مؤرّخينا منهم الباحثون الذين يحضّرون رسائلهم الجامعية، ولنا أن نتصوّر كيف يكتب أبناؤنا تاريخنا بأرشيف العدو، كما أطالب طلبة اليوم بالتمكّن من اللغة الفرنسية للولوج إلى الأرشيف وحتى لقراءة كتب تاريخ الثورة والمذكرات.

ما رأيك في تجارب المؤثّرين الذين دخلوا مجال التاريخ؟

❊❊من الذين شاهدت فيديوهات لهم السيد محمد دومير الذي أعتبره كيانا خاصا ومستقلا بذاته، يحسن التحدّث وواضح في طرحه وأفكاره وأنا أتّفق معه، لكن يبقى الكثيرون يعتمدون على الكتب وليس على الأرشيف.

من الأمور التي تابعتها مسألة الحدود والعلاقة مع المغرب علما أنّ وجدة مثلا كانت تابعة للدولة الزيانية ثم لبايلك معسكر  وكذا حدود واد ملوية التي كانت سنة 1797 وبعد تحرير وهران قام البايلك فيها بجلب العائلات من وجدة  وتلمسان وقسنطينة وقدم بعضا من المساحات بوجدة لسلطان المغرب.

هناك مناطق ظلّ في تاريخنا الوطني سياسيا وجغرافيا فما تعليقكم ؟

❊❊المشكل يكمن في كوننا أدخلنا السياسة للتاريخ فأفسدته، وهذا الأمر ليس وليد اليوم، لكن تجب الإشارة إلى أنّ المناضلين حاربوا كلّ السلبيات، وكما قال الرائد عز الدين فإنّ مرض الجهوية مثلا لم يكن مطروحا في عهد الثورة وكان عبان رمضان بالمرصاد لكلّ تفرقة بين الجزائريين وحذا حذوه باقي المناضلين، لكن بعض المخلفات بقيت كأن تكون تفرقة بين حزب الشعب مثلا قبل وبعد الثورة، وهناك قضايا أخرى وليدة عهد الاستقلال كان لها وقعها على التاريخ الوطني، على الرغم من أنّها كانت مجرّد قضايا سياسية.

ما هو دور الإعلام في حفظ الذاكرة الوطنية؟

❊❊يؤسفني أن أرى أنّ هناك الكثير من مذكّرات التخرج والرسائل الجامعية تنجز ولا يتم نشرها ليقرأها الجمهور عكس بلدان أخرى وهو ما ينتج عنه نقص في سيرورة المعلومة التاريخية العلمية ويفتح الباب للبعض بالحديث عن موضوع دون التمكّن فيه، فالعلم عندنا لا يلعب دوره في المعرفة التاريخية لذلك مطلوب من الديوان الوطني للمطبوعات الجامعية المساهمة في النشر.

يبقى الإعلام عموما هو سلاح ذو حدين، له أن يساهم في حفظ الذاكرة وترسيخ التاريخ وتداوله أو أن يكون أداة للعبث وخلط الأوراق وتعزيز بعض الأطروحات غير البريئة، كما يطلب أيضا بتعزيز المجلات العلمية الغائبة عندنا ولا تصدر إلا كل سنة مرة ولا يجدها القارئ في السوق، وأقول إنّه ما دمنا لم ندخل إلى هذا الطريق العلمي الأكاديمي فإن تاريخنا يبقى مجهولا.

هناك ارتباط بين الظروف السياسية والزمنية وكتابة التاريخ كيف؟

❊❊طبعا هناك ارتباط، فمرحلة سياسية ما تنعكس ظروفها على الكتابة التاريخية، ففي مرحلة ما قبل سنة 1988 كان هناك أمور وحقائق لا تقال علنا وكان القليل من المؤرخين من يتناولها كمحمد حربي، علما أنّ بعض المؤرّخين كانوا يكتفون بالعموميات وكان البعض ممن يكتب عن تجربته يتناولها في إطار شامل وضمن عموميات، بعد سنة 1990 أصبح تناول تاريخ بعض أحداث وشخصيات الثورة يسير وفق مرحلة جديدة دخلتها الجزائر، أدرج تاريخ الثورة ضمن البعد الديني وأنّ الفضل يعود لجمعية العلماء فيها ثم تطوّر الأمر إلى درجة اعتبار أنّ مناضلي الجبهة بالقاهرة كانوا مع تنظيم الإخوان وهو عكس الحقيقة التاريخية وإذا ما دخل هذا الفكر إلى الجامعة في غياب رؤية  نقدية علمية وفي غياب الأرشيف فذلك هو الخطر.

بماذا نختم؟

لابدّ للأجيال أن ترعى تاريخنا الوطني وأن تتسلّح بالمعرفة وأن تستفيد من تاريخها الذي يصنع كيانها وفخرها، وهنا أشير إلى أنّ بعض المؤرّخين الفرنسيين يقدّمون أطروحاتهم المشبوهة والمسمومة التي قد يتبعها جيل الشباب اليوم، ومن ذلك مثلا القول إنّ أحداث 20 أوت 1955 هي الانطلاقة الفعلية للثورة الجزائرية وهي مغالطة تاريخية تهدف إلى ضرب 1 نوفمبر 1954 ، علما أنّه لولا نوفمبر لما كان أوت 55 ولا غيره، وهنا تظهر حقا قديسة 1 نوفمبر عندنا كجزائريين، ثم أمور أخرى كثيرة تطرح اليوم منها مسألة الحدود والحقبة العثمانية، فهذه الأخيرة هي فخر في تاريخنا الوطني ويكفي أنّها زاوجت بين بجاية وتلمسان وثمّنت دور المدن الجزائرية قبل القبائل والعروش، وهو الأمر الذي حاربه المستعمر واستبدله بمدنه الجديدة وأمثلة أخرى من التاريخ، دوري أن أفتح لها الأبواب.