زخم ضخم نهشه الاستعمار وأحيته الذاكرة

التراث الأمازيغي ... حياة أخرى تبعث فيه

التراث الأمازيغي ... حياة أخرى تبعث فيه
  • القراءات: 9872
  رشيدة بلال   رشيدة بلال

تكتنز منطقة القبائل تراثا ضخما، يعود إلى قرون اكتسحت به العالم الإسلامي، وساهمت في نهضته بأعلامها الذين استوطنوا كل البقاع لنشر العلم والدين، ورغم هذا السجل الحافل، لا يزال هذا التراث مهملا، يشكو التهميش وقلة البحث والاستغلال.

عُرفت منطقة القبائل بتاريخها الحافل المرصع بالإنجازات العلمية والمعرفية، التي سبقت في أحيان كثيرة عصرها، وبقيت تراثا مهما، بعضه يعيش اليوم في الشتات، والآخر حبيس المكتبات القديمة أو الزوايا، يحتاج للتفعيل ونفض الغبار عليه، كي تتوضح أمور عديدة يجهل عنها الكثير في أيامنا هذه.

جاء في كتاب “أعلام من منطقة القبائل” للأستاذ الفاضل محمد الصالح صديق، “أن منطقة القبائل، جزء من هذا الوطن التاريخي العزيز، وتاريخها تاريخه، فإذا نشرنا صفحة عنها، فإنما نشرنا صفحة من التاريخ العام لهذا الوطن العزيز المفدى، وإذا كانت صفحات هذه المنطقة في تاريخ الجزائر كثيرة ومتنوعة، كل صفحة تغري وتفتك الإعجاب، ويدعو جمالها إلى العرض والنشر والإشادة والتنويه، فإن صفحة أهل العلم تحوز السبق، وتفرض نفسها بقوة، تهم الذين احتفظوا بالجذوة المقدسة في القلوب، وحافظوا على الثوابت بكل ما أوتوا من علم ومعرفة”.

كما أشار الأستاذ محمد الصالح صديق، إلى أن العلماء في المنطقة ـ كل حسب طاقته وظروفه ـ هم الذين أناروا الطريق أمام الناس وعلموهم كيف يسيرون فيه، رغم الظروف القاسية التي تحاصرهم من كل جهة، وهم الذين كانوا بالمرصاد لكل المحاولات التنصيرية والتبشيرية التي تحاك وتنصب في المنطقة، ويرى أنه من الخطورة بمكان أن ننسى هؤلاء أو نتجاهلهم، فإن ذلك إساءة للتاريخ، فجهاد هؤلاء الفكري والتربوي يجب أن يظل على الدوام في ضمير الأمة، يحفزها للمضي في طريقهم، ولا يتأتى ذلك إلا بنشر تاريخهم، ووضع أعمالهم أمام الشباب بالخصوص، حتى يترسموا خطاهم.

يعيد ويؤكد الكاتب أن هذه المنطقة من أرض الجزائر غنية بالعلماء في مختلف العصور، خدموا وطنهم بخدمة الإسلام والقرآن واللغة العربية، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل ذلك، وما ضعفوا وما استكانوا بل كانوا دوما في مستوى المسؤولية تخطيطا وعملا.

من بين هؤلاء العلماء، هناك يحيى بن معطي الزواوي الذي ترجم له ياقوت الحموي في كتاب “معجم الأدباء”، وألف ألفية في النحو، أشار إليها ابن مالك الأندلسي- أبو موسى عمران بن موسى المشدالي نزيل تلمسان- تخرج على يديه ابن خلدون، كما يوجد العالم منصور بن عبد الله الزواوي أبو علي الذي ترجم له ابن الخطيب، وقال عنه “ما رأيت قبله ولا بعده في قطر من الأقطار”، وهناك أيضا عيسى ابن أحمد الهندسي البجائي وعبد الرحمن ابن أحمد الوغليسي وغيرهم. أسماء أخرى منها؛ الطيب شنتير ومحمد القاضي الصدوقي، ومحمد البشير آيت صديق ومحمد الشريف السحنوني ومحمد امقران آيت صديق ومحمد كتو ومحمد نسيب ومحمد ابن عمارة. عموما، فإن هذا البحث يصور عمق الهوية في منطقة القبائل، والتفاني المطلق في حب الإسلام والقرآن ولغته والتضحية في سبيل كل ذلك، إنه تاريخ مشرف للمنطقة.

لا يقل كتاب “علماء من زواوة” الطبعة 3 للأستاذ محمد الصغير بلعلام، وتقديم الشيخ الطاهر آيت علجت أهمية، وقد كتب المجاهد بن لعلام “كلمة زواوة أصبحت نادرة التداول اليوم، وأصبحت تعرف بالقبائل الكبرى والصغرى معا، وأنا لا أحبذ هذا المصطلح، بل أنفر منه، لأنه مصطلح استدماري فرضه ورسمه في إطار فرق تسد، ولن تجد هذه التسمية (أي القبائل) في كتب التاريخ قبل الاستعمار أي أثر، إنما ستجد زواوة”.

يعتبر هذا الباحث أن جهلنا المطلق بعلماء المنطقة، مع أنهم كانوا قمما في زمانهم، وكانوا المرجع في ميادين الفكر والثقافة والعلوم، واكتسبوا التقدير في القاهرة ودمشق والقدس والحجاز، وبعض تراثهم لا زال حبيس المكتبة الظاهرية بدمشق، أو دار الكتب المصرية بالقاهرة، أو مكتبة الأزهر، أو في المغرب الأقصى، ولم يكن عددهم باليسير، وبلغ بعضهم 14 قاضيا بدمشق في ظرف قرنين. كان هؤلاء يعشقون الرحال للمشرق والمغرب والأندلس، ويحبون المغامرة، وكانت لهم عزة النفس وسمو الروح وسعة العلم وحرية الفكر وجرأة الرأي.

يرى المجاهد بلعلام أن المثقفين يجهلون أو يتجاهلون هذا التراث الفكري الضخم لمنطقة بجاية، والزواوة عموما، ويعطي مثالا عن الملك الظاهر بيبرس الذي، عندما أحدث منصب القضاء المالكي سنة 664 هـ، لم يجد في علماء الشام من يصلح لهذا المنصب سوى شيخ القراء العلامة أبو محمد زين الدين الزواوي، ومن قبله كان ابن معطي الفراوسني الزواوي شيخ العربية، ويقول الذهبي في كتابه “وعندما عقد مجلس علمي في القاهرة تحت رئاسة ابن قالاوون لابن تيمية، لمناقشته في بعض آرائه، لم يجدوا من علماء المذاهب الأربعة من هو أكفأ وأقدر لمناقشة ابن تيمية إلا العلامة القاضي شرف الدين عيسى بن مسعود أبو الروح المنجلاتي الزواوي، وكان علماء الزواوة سادة الحلقات في الجامع الأموي وفي الأزهر والقدس الشريف، تاركين تراثا ضخما، كما أكد المتحدث أن هؤلاء الشيوخ كان لهم دور في تأسيس الدولة الفاطمية في القاهرة.

أشار الأستاذ بلعلام خلال حديثه لـ"المساء”، إلى أن علماءنا بصفة خاصة، كانوا في القرون الماضية سادة العلم في العالم الإسلامي، مذكرا بسيد المذهب المالكي المنجلاتي المفتي الأول للديار المصرية، وفي الشام (توفي سنة 770هـ)، كما تحدث عن ألفية بن معطي، وهي أول ألفية في النحو، شيخ القراء وأول قاضي مالكي في الشام، والكثير من العلماء الذين لا أول ولا آخر لهم، واستحضر محدث “المساء”، بعضا من تاريخ السيدة رقية ابنة عبد القوي البجائي، التي كان لها حلقة في الحرم المكي ويأتيها العلماء في صفوف، منتظرين إجازتهم.

اسم آخر من العصر الحديث يتعلق باسم طاهر الجزائري، صاحب الـ 30 مؤلفا بدمشق، وباعث النهضة العربية، وهو أبو التعليم بلا منازع. وقال الأستاذ بلعلام، إنه يحاول من خلال كتبه، إيقاظ النائمين، داعيا وزارتي الثقافة والتعليم العالي الالتفات لهذا التراث الزاخر، ثم أشار إلى أنه في كل معرض دولي تقدم كل الكتب، إلا في التراث والثقافة الجزائرية، خاصة تلك التي تعنى بالثقافة واللغة والفكر والتاريخ.

أكد المتحدث أيضا، أن من نتائج الاستعمار الفرنسي ومخططاته، ضرب الشخصية الجزائرية ومسخها، وبعدما كان الشعب الجزائري متعلما سنة 1830، أصبحت الأمية تمثل عنده 93 بالمائة سنة 1962، ويضيف “للأسف ما زلنا نسير بالعقلية الاستعمارية، ولا نهتم بالشخصية الجزائرية، مما يتطلب التحسيس ورفع هذا الانشغال للمسؤولين”.

ارتبطت منطقة القبائل كغيرها من مناطق الوطن أيضا بالزوايا وانتشارها الواسع فيها، وما تمثله من أعراف اجتماعية قبائلية أصيلة، ودورها في محاربة الانحراف وكذا الخصومات وغيرها، وموقفها من حرمان ميراث المرأة وباقي حقوقها الشرعية، وكذا قضايا الطلاق وإكراه النساء.

يعد كتاب “أوضح الدلائل على وجوب إصلاح الزوايا ببلاد القبائل” لابن زكري محمد السعيد الجنادي، وتحقيق الدكتور محمد عبد الحليم بيشي مرجعا في هذا الشأن، فهو توثيق مهم للصورة الاجتماعية التي كانت تحياها المنطقة، ينفض الغبار عن أثر من الآثار الجليلة للتراث الأمازيغي، بل لتراث الجزائر، لما لها من إنتاج ضخم بقي حبيس الأدراج والصناديق.

تبقى الدعوة قائمة لحمل هذا التراث من طرف الشباب، لإخراجه إلى الطبع والنشر ويمنحوه حياة أخرى، فالتراث الأمازيغي العريق يؤرخ لفترة قلت فيها المصادر، وعزت فيها الكتابة بفعل الاستعمار الذي جفف الينابيع، وقضى على العلماء بالقتل والنفي والتشريد، وهدم المدارس والزوايا والكتاتيب، وحاول محو الشخصية المسلمة لهذه المنطقة المعتزة بدينها.

مريم. ن


مديرة مخبر اللغة والمعرفة نادية صام لـ”المساء”:

نحو جعل احتفالية يناير ذات بعد اقتصادي وبحثي علمي

ترى نادية صام، مديرة مخبر اللغة والمعرفة بكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بجامعة البليدة “2”، مهتمة باللغات والثقافات في الجزائر وبالتراث الامازيغي “بأن الطريقة التي يجري بها الاحتفال بالسنة الأمازيغية الجديدة، حادت في السنوات الأخيرة عن طريقتها الصحيحة، باستثناء المعارض التي تبرز التراث، وأنها بحاجة لأن تأخذ شكلا جديدا يغلب عليه الطابع الاقتصادي، من خلال جعلها تظاهرة تجارية، وكذا علمية وفكرية، بالبحث في التاريخ حول كل ما يتعلق باحتفالية يناير، التي تعد من أقدم الاحتفاليات، حسب ما تشير إليه الحقائق التاريخية التي تؤكد وجوده قبل 300 سنة، مما يستلزم حتمية البحث عن الأسباب التي جعلته يقاوم، رغم كل التطورات التي عرفها المجتمع.

أكدت المهتمة باللغات والثقافات في معرض حديثها مع “المساء”، أنه على الرغم من الاختلاف في تاريخ الاحتفالية بالسنة الأمازيغية الجديدة، بدل شمال إفريقيا من 12 إلى 15 جانفي، واختلاف ارتباطه تاريخيا بين الأرض وانطلاق الموسم الفلاحي، واعتباره بوابة لدخول فصل الشتاء والشروع في خدمة الأرض، التي كان لها أهمية كبيرة للفرد الأمازيغي قديما، سواء كملكية أو مصدر رزق، وبين تاريخ انتصار شيشناق  بالأراضي المصرية، هذه المحطة في حد ذاتها لا تزال، حسبها، بحاجة  إلى البحث فيها والوصول إلى معرفة حقيقة الاحتفالية، وكيف انطلقت وما هي العوامل المصاحبة لها، خاصة أن لها بعد مرتبط بثقافة الشعوب  ودياناتهم وطريقة عيشهم، وأهم التحديات التي واجهتهم.

ما يدعو إلى إعطاء هذه التظاهرة التاريخية الأهمية العلمية والبحثية التي  تستحقها، حسب المتحدثة، “هو الوقوف فقط على طريقة مقاومة هذه الاحتفالية، التي ظهرت منذ أكثر من 300 سنة لدى الأمازيغ، ومع هذا لم تندثر وظلت متوارثة جيلا بعد جيل، ولم تتمكن الحروب والتطورات الحاصرة عبر الأزمنة، وكذا تأثير الاستعمار في محاولة طمس التراث والهوية، من تغيرها، باستثناء بعض التغيرات في الطريقة الاحتفالية التي لم تمس بخصوصيتها، مشيرة إلى أنه في الجزائر، وبعد صدور المرسوم وترسيمه يوما وطنيا مدفوع الأجر، زاد من أهميته وأعطاه بعدا وطنيا ورسميا.

وبالعودة إلى ما قبل الترسيم، تشير المتحدثة “كان يجري الاحتفال به بطريقة تقليدية، من خلال تنظيم المهرجانات وتحضير وليمة العشاء بالسبعة حبوب الجافة، خاصة بمنطقة القبائل، من أجل الاحتفاظ عن طريق الاحتفالية بالذاكرة الجماعية وترسيخها لدى الأجيال”، توضح: “وبعد ترسيمه، أصبحت الطريقة الاحتفالية تأخذ طابعا أكثر رسمية،  حيث أصبحت حتى المدارس توليه أهمية كبيرة، من خلال البحث في هذه الاحتفالية وتنظيم أيام لترسيخها في الأذهان، لاسيما أنه تراث شعبي ويمثل ذاكرة شعب”، تقول: “في اعتقادي الشخصي، بدأت الاحتفالية تحيد نوعا ما على الطريقة الصحيحة للاحتفال، من خلال تحويله إلى مناسبة للرقص والغناء، في الوقت الذي يفترض أنه ذاكرة وتراث وثقافة شعب بحاجة إلى أن يفهم بطريقة صحيحة”.

على صعيد آخر، أكدت المهتمة بالتاريخ الأمازيغي “بأن ترسيم الـ12 من شهر جانفي يوما لبداية السنة الأمازيغية، كان له فضل كبير في إعطاء روح جديدة للتاريخ الأمازيغي، وسمح  بالتعرف أكثر فأكثر على طريقة الاحتفال به في كل منطقة من ربوع الوطن، هذا الاختلاف في الطريقة الاحتفالية في حد ذاته، بحاجة إلى البحث فيه، لإثراء الذاكرة التاريخية.

وحول الطريقة الصحيحة التي يفترض أن يتم الاحتفال بالسنة الأمازيغية الجديدة، أكدت المتحدثة “أنه لا وجود لطريقة معينة، لأن تاريخ الاحتفال منذ القدم، كان يتم بتحضير وجبات تقليدية، تعبيرا عن الفرح باستقبال  السنة الجديدة، ومحاولة إظهار التراث الذي تتميز به المنطقة، من خلال اللباس والأواني.

تشير المهتمة بالتراث الأمازيغي، إلى أن الأهم من كل هذا، في اعتقادها، “أن الاحتفالية لابد أن تأخذ طابعا آخر، بجعل التظاهرة السنوية اقتصادية ومحطة لمقاسمة هذا التراث والترويج له، من خلال جعل يناير سوقا يتم فيه الترويج للتراث والاستثمار فيه، حيث تجري فيه مبادلات تجارية حتى مع الأجانب، من خلال المعارض التي يتم تنظيمها، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، لابد أيضا من التركيز على طابع البحث العلمي في هذا الحدث التاريخي الهام، لأن المعلومة المتوفرة تظل قليلة،   والسؤال فقط حول السبب الحقيقي للاحتفال لا يزل غير متفق عليه،  وبحاجة لأن يبحث فيه، لأن الأمر مرتبط بتاريخ شعب وهوية، ومنه الإجابة على عدد من التساؤلات حول كيفية تطورت الاحتفالية عبر 300 سنة، خاصة أن القراءات المتوفرة تشير إلى أن يناير من أقدم الاحتفالات التي عرفتها البشرية، ومن المهم أيضا معرفة كيف حتى بدأت هذه الاحتفالية عند الأمازيغ قديما، وكيف قاوم هذا الاحتفال وظل   متوارثا خلال كل هذه السنوات وكيف تطور، لأن الأكيد أن طريقة الاحتفال عرفت تغيرات، بحكم الاحتكاك والتبادل الثقافي بين مختلف الشعوب.

  رشيدة بلال


أمازيغ الأطلس البليدي

“ناير”... رمز للتضامن والتفاؤل والتكافل الاجتماعي

تولي العائلات البليدية، خاصة بأعالي الأطلس البليدي، اهتماما كبيرا لتظاهرة “يناير”، حيث يجري التحضير لها أياما قبل حول الموعد، وعلى الرغم من التشابه الكبير في طريقة الاحتفال مع باقي الأمازيغ في ربوع الوطن، غير أن لكل منطقة خصوصيتها التي حدثنا حولها لعمر أمين بن سونة، باحث في تاريخ وتراث الاطلس البليدي ومتيجة، حيث أكد “أن أهم ما يميزها، بعيدا عن إحياء التقاليد والتراث، هو مبادئ التسامح والتفاؤل والتكافل الاجتماعي، ووضع الأحقاد جانبا، واجتماع العائلة باحتفالية انطلاق الموسم الفلاحي”.

تمثل بداية السنة الامازيغية عند سكان الأطلس البليدي، محور السنة  الفلاحية، لأنها آخر أجل لعملية الحرث والبذر، حيث كان السكان في القديم، يشيرون إلى أنه في حال هطول المطر قبل حلول “ناير”، ازرع البذور، أما إذا لم تمطر فلا تغامر بزراعة بذورك، يقول الباحث، في تراث الأطلس البليدي، لعمر أمين، ويضيف “الاحتفال بالسنة الأمازيغية عند  أمازيغ الأطلس البليدي، يجري التحضير له، شأنه شأن رمضان، حيث يتم تنظيف المنزل وشراء عدد من اللوازم، وكانت النساء قديما تسرع في الانتهاء من النسيج، لأنها لن تنسج خلال أيام الاحتفالية، وكذا اقتناء قدر جديد الذي يخصص لتحضير وجبة عشاء يناير، تفاؤلا بسنة جديدة”، مشيرا إلى أن أهم التقاليد قديما “تغيير الفرن الذي يتم الطهي عليه، أو ما يسمى “المناصب”، وهو فرن تقليدي تستبدل حجارته وينظف مكانه.

حسب ذات المتحدث، فإن سكان الأطلس البليدي يحتفلون بحلول السنة الأمازيغية الجديدة على مدار ثلاثة أيام، وهو ما يسمى في تقاليدهم “بيوم حشيش ويوم عيش ويوم ريش”، ولكل يوم خصوصيته التي ينفرد فيها عن اليوم الآخر، فخلال اليوم الأول، يشرح الباحث “والذي يعبر عنه أيضا “ناير” القديم”، حيث يتم تحضير وجبة معدة كلها من الأعشاب والحشائش، على غرار “بطاطا فليو” أو “شطيطحة سلق” أو طبق “أحشلاف” “الذي يجمع ما يفوق السبع نباتات، حيث تخرج النسوة رفقة أبنائها لجمع النباتات، والحكمة من هذا اليوم تعليم الأبناء أسماء واستخدامات مختلف النباتات، وهي أيضا رمزية لتواصل الأجيال.

بينما يجري خلال اليوم الثاني، والذي يسمى عندهم “بنهار عيش” تحضير أكلة معدة من العجائن، سواء كانت عبارة عن “فطير أو بغرير أو مسمن أو خفاف”، تفاؤلا بسنة حلوة، فيما يخصص اليوم الثالث  والمصادف لـ12 ناير، لتحضير أكلة تقليدية من لحم الديك، الذي تكون حسبه، “العائلة قد اختارته مسبقا لهذه المناسبة، حيث يتم اختياره بعناية لذبحه وإقامة الوليمة به، وحتى يكفي الطعام كل أفراد العائلة المجتمعة، والذي يسمى بالأمازيغية المحلية “امنسي ناير”، وعادة يوضح “في وسط البليدة يتم تحضير الفطاير بمرق أبيض، أما في المناطق الجبلية، فعادة ما يحضر طبق “قطع وارمي” أو “البركوكس” أو مرق أحمر بالدجاج.

الجميل في احتفالية “ناير”، حسب ذات المصدر، “الحرص على اجتماع كل أفراد العائلة حول مائدة العشاء ، وإن تعذر على البعض المشاركة،  فإن نصيبه من العشاء يظل محفوظا، بما في ذلك تخصيص جزء من الولية للمساكين وعابري السبيل، وهي واحدة من المظاهر التي تكشف مدى التكافل والتضامن الاجتماعي، والذي يعتبر من الأهداف السامية لهذه الاحتفالية، مشيرا في السياق، إلى أن من بين العادات التي تصاحب الاحتفالية؛ تبادل الطعام بين الجيران للإبقاء على مبادئ التسامح والتواصل الاجتماعي، كما يجري أيضا حل النزاعات بين المتخاصمين، لافتا إلى “أن العائلات بجبال الأطلس البليدي، تميل إلى تربية الحيوانات في منازلها، كالقطط والكلاب، هذه الأخيرة أيضا تحضا بنصيبها من الوليمة.

الخصوصية التي تميز هذه الاحتفالية لدى أمازيغ البليدة، حسب الباحث، هو أن كل سكان القرية أو الدشرة أو الحي، ينعمون بوليمة عشاء ليلية الاحتفال بالسنة الجديدة، أما بالنسبة لما يسمى بـ"التراز”، يقول “فإن سكان الأطلس البليدي كغيرهم من باقي الأمازيغ، يجمعون عددا من الحلويات والمكسرات التي سبق أن تم اختيارها بعناية، لتقوم السيدة الأكبر سنا في العائلة بتفريغها على رأس أصغر أفراد العائلة  في رمزية لسنة حلوة.

من بين العادات التي يجري إحياؤها بجبال الأطلس البليدي، والتي تحمل بعض الدلالات التي تم توارثها؛ إقدام النساء المسنات في اليوم الثاني الخاص بالعجائن، إلى تخصيص جزء من العجين، لتعليقه بمدخل الباب، فإن وجدت في اليوم التالي جافة، فهذا يعني أن الموسم سيكون قليل الأمطار، أما إذا كانت رطبة، فهذه بشارة سارة على استقبال موسم ماطر، وحسبه، فإن التجربة علمت أجدادنا وجداتنا كيفية فهم الطبيعية وتفسير بعض ظواهرها، فالتقلبات الجوية التي يعرفها الشهر  من خلال اليوم الاحتفالي، يمكن أن تعطي صورة حول الموسم الفلاحي.

مما يجعل من احتفالية يناير حدثا مميزا، حسب الباحث، هو ذلك الاختلاف من منطقة إلى أخرى من حيث العادات والتقاليد المعتمدة في إحيائه، غير أن الأكيد “أن المغزى واحد، وهو التفاؤل بسنة جديدة والدعاء بأن يكون العام مليئا بالخير، مشيرا إلى أن “ناير” ليس باحتفالية، وإنما هو طريقة للحفاظ على التراث، ورمزية للوحدة والتفاؤل والتماسك والتكافل الاجتماعي. 

رشيدة بلال