عين بوشريط يٌحدث ثورة في علم الحفريات

إضافة تاريخية وكسر لشوكة النزعة الاستعمارية

إضافة تاريخية وكسر لشوكة النزعة الاستعمارية
  • القراءات: 2578
مريم.ن مريم.ن

أثبتت اكتشافات موقع عين بوشريط بمنطقة عين الحنش بولاية سطيف بما لا يدع مجالا للشك، أن الإنسان استوطن هذه الأرض الجزائرية منذ فجر التاريخ، وأن هذا الوجود يعود إلى 2.4 مليون سنة، أي أنه ثاني أقدم تاريخ بشري على وجه الأرض، بالتالي فإن الجزائر مهد للبشرية وليست مقصدا للهجرات، كما كان يعتقد، فهي عامرة منذ الرجل البدائي الأول، ونتيجة هذا الاكتشاف الذي أحدث ثورة في علم الحفريات والآثار في الجرائر وعبر العالم، بدأت حملات التشكيك والجدل ذي خلفيات سياسية أكثر منها علمية، قصد النيل من هذا الإنجاز، إلا أن الخبراء كانوا بالمرصاد مزودين بالحجة العلمية وفصلوا في أهمية هذا الفتح العلمي الهام خلال حديثهم لـ«المساء.

البروفيسور ياسين رابح حاجي (مدير حفرية تاهودة ببسكرة): ما تحقق في عين بوشريط اكتشاف علمي ريادي

يرى البروفيسور حاجي أن ما تحقق في عين بوشريط، اكتشاف علمي ريادي يستحق التنويه من كل العلماء والخبراء الأثريين، على اعتبار أنه عمل أثري يحمل إضافة للتاريخ الجزائري، ويثبت للعالم أنها بحق مهد البشرية.

كما أشار المتحدث إلى أن موقع عين بوشريط مهم جدا من جانب المعطيات العلمية الأثرية، مثمنا دور البروفيسور محمد سحنوني، صاحب المشروع وصاحب الملكية العلمية لهذا الموقع الهام على المستويين الوطني والدولي، وقال إنه سبق له أن اشتغل مع هذا العالم لمدة عشرين سنة، وعمل معه في موقع عين الحنش بسطيف، وكان يستدعي الخبراء المختصين الأجانب من الولايات المتحدة، ومن إيطاليا وفرنسا وبريطانيا.. وغيرها.

كان في كل مرة يتم التوصل إلى معطيات علمية دقيقة ومتعددة التخصصات، أي أن لكل خبير تدخله المباشر في اختصاصه، حيث أن حياة ما قبل التاريخ تتجاوز علم الآثار وتتطلب اختصاصات في علم الطبيعة والأحياء وفي النبات والمناخ وغيرها، بالتالي كل هؤلاء الخبراء دعموا الاكتشاف الذي أطلق سنة 2018، والذي يثبت أن عين بوشريط أقدم ثاني موقع للحياة البشرية على كوكبنا، علما أن البحث مستمر والحفريات لا تزال تنزل للأسفل أكثر فأكثر.

أكد المتحدث أن بعض المواقع والحفريات تستمر في الحفر والبحث لأكثر من 50 سنة، ويطلق عليها تسمية حفرية علمية مبرمجة. وذكر أيضا أن موقع عين الحنش انطلقت الحفريات به سنة 1920، وفي كل مرة هناك اكتشاف يخضع للعمل حسب خصوصية الموقع وبنقاط وطبقات أثرية عديدة.

فيما يتعلق بالتشكيك في هذا الإنجاز العلمي من طرف جهات أجنبية غير علمية،  رد الروفيسور حاجي أن الاكتشاف كان مهما وقلب المعطيات، خاصة تلك التي رسختها المدرسة الكولونيالية، حيث تأكد أن الإنسان لم يهجر أرضه إفريقيا ليستوطن أوروبا، بل أن العكس هو الذي حدث، وهو ما عرف بعدها بالاستعمار الأوروبي، هذا الأخير الذي سعا إلى خدمة مصالحه من خلال معطيات تاريخية يحاول تكريسها بعوامل إيديولوجية استعمارية، أو ما يعرف اليوم، بالغزو الثقافي الجديد للهيمنة على إفريقيا وعلى الجزائر بالخصوص، والتشكيك في كل ما لا يخدم مصالح هذا المستعمر الطامع على كل الأصعدة من ثقافة واقتصاد وسياسة.

فاكتشاف بمستوى هذا الحجم والأهمية، يؤكد أهميه إفريقيا والمنطقة في أن بدايات البشرية كانت فيها، وبها تم اختراع الكتابة والزراعة والصناعة والحضارة، وهذا ما سيساهم في كسر العقدة التي عززها المستعمر عند الأفارقة، بالتالي يتحرر الإنسان الإفريقي من مستعمره، ليفاخر بجذوره وينطلق نحو الحضارة من جديد. كما يرى المتحدث أن المكسب هو دفعة قوية للجزائر وأبنائها، لضمان استقلالهم الثقافي وتعزيز سيادتهم الوطنية، بالتالي عليهم الافتخار بما تحقق وتعزيزه.

من جهة أخرى، أكد البروفيسور حاجي أن الدولة الجزائرية ثمنت ما تحقق، وأن وزارة الثقافة تقوم بدورها كهيئة رسمية، لذلك يجب إبلاغها وإعلامها بما يتم تحقيقه عبر المواقع والأبحاث لتأخذ التدابير اللازمة، وفي حال ما لم تطلع على كل ذلك، خاصة من مديري الحفريات، فإنها لا تتحرك.

كما دعا المتحدث إلى الارتقاء بعلم الآثار إلى المستوى الذي هو عليه في الدول المتقدمة، وتعزيز أثره في المجتمع ليعطي ثماره، خاصة من الجانب الثقافي والهوية، بالتالي الافتخار بمختلف الحقب بدون عقدة تجاه الاستعمار، خاصة إذا علمنا أن ما شيد من عمران مثلا، كان بأيدي الجزائريين.

ألح محدث المساء على مسألة حيوية، وهي توفير دفتر شروط يحدد مسار كل موقع ومعطياته الأثرية، بالتالي ضبط مسار القطعة الأثرية من موقع اكتشافها حتى وصولها إلى المتحف (مثل التحاليل المخبرية، المعاينة الهندسية وغيرها)، والملاحظ أن الاتفاقيات مع المراكز العلمية ومخابر التحاليل وبعض القطاعات معطلة، حيث من المفروض أن يرسل الباحث الأثري القطعة التي يكتشف للمخبر، كي يؤرخها، لتقديم نتائج ذات مصداقية، بعدها يستفيد منها الجمهور العام بالمتحف، بالتالي يتم سد الطريق أمام أي تشكيك أو تبعية للغير، وتصبح كل معطياتنا الأثرية ثابتة، ولن يتحقق ذلك في غياب دفتر الشروط هذا.

يضيف محدثنا أن دور الباحث الأثري، هو اكتشاف القطعة الأثرية وتقديمها، والباقي من اختصاص خبراء آخرين، وأن كل هذه المساهمات ستعمل على  انتشار التاريخ بخلفية أثرية ملموسة ومضمونة لا تشكيك فيها، وهذا ما يناضل من أجله الأثريون، ومن هنا فإن موقع عين بوشريط الأثري نموذج لعينة أوصلت الجزائر إلى القمة، فكيف بباقي المواقع؟ يتساءل المتحدث، ويضيف أن الدولة إذا وفرت دفتر الشروط، سيكون هناك العجب، ليحيي في الأخير البروفيسور سحنوني، الذي استغل طاقاته وعلاقاته للتعاون مع خبراء أجانب لبوا دعوته.

الدكتور السعيد تريعة (خبير في علم الآثار): الاكتشاف سيعيد النظر في قراءة  تاريخ البشرية

قال الدكتور تريعة، إن اكتشاف عين بو شريط يثبت أن الجزائر مهد الإنسانية،  وهي ثاني أكبر وأقدم موقع أثري في العالم بأكثر من مليوني سنة، مما يثبت أن المنطقة عرفت استقرارا بشريا منذ ملايين السنين، وتثبت أيضا أن الإنسان الجزائري متأصل ومترسخ في أرضه، وأن وجوده ليس نتيجة هجرات، بل قديم قدم البشرية نفسها، وهو ما يعتبر شرفا لإفريقيا كلها.

يرى المتحدث أن هذا الاكتشاف سيعيد النظر في قراءة تاريخ البشرية، والتواجد البشري على يد باحثين جزائريين وأجانب. علما أن الاكتشاف ثمنت مصداقيته المجلة العلمية الأمريكية الشهيرة التي لا شبهة علمية عليها، فهي مرجع معتمد ومحترم وملتزم بالمعايير العلمية، وهذا يرد بنفسه على المشككين.

بالنسبة للتشكيك في الاكتشاف والتقليل من أهميته العلمية، أكد الدكتور تريعة أن الأمر نابع من النظرية الاستعمارية التي عززها الطرف الفرنسي، من خلال البحث أكثر في الآثار الرومانية في الجزائر، على حساب التاريخ المحلي الضارب في أعماق التاريخ، للتأكيد على أن الجزائر منطقة هجرات ولم تعرف عبر تاريخها الاستقرار السكاني والحضاري، ومنه الترويج للفكر الاستعماري وتبريره وتعزيز فكرة أن الفرنسيين جاؤوا بالحضارة لهذه الأرض، كما كان الحال مع الرومان، بينما الدلائل الأثرية تفند ذلك جملة وتفصيلا.

أكد المتحدث أن حفرية عين بوشريط كسرت الاحتكار الثقافي على الجزائر المنفتحة على كل العالم، من أجل البحث لأغراض علمية صرفة دون خلفيات إيديولوجية، بل الالتزام فقط بالموضوعية العلمية وحدها.

نوه المتحدث بدور الجزائر في مجال البحث، من خلال ورشات الحفريات وبأيادي باحثين جزائريين أكفاء ذوي خبرة دولية أثبتوا تمكنهم في عدة مواقع كبسكرة وبجاية وغيرهما، وكل ما يطلب الآن؛ تثمين الجهات الوصية لهذا العمل العلمي كي ينتعش البحث أكثر ويستمر، داعيا إلى ضرورة التنسيق بين وزارتي الثقافة والتعليم العالي والبحث العلمي، فالأولى ـ يضيف المتحدث- بيدها الملكية والثانية بيدها الخبرة العلمية والبحث.

كما طالب بتفعيل وتمويل صندوق دعم التراث لتدعيم الحفريات، علما أن كل ما سيتحقق سيكون قبلة للسياح، بالتالي ستنتعش التجارة والسياحة، وهو الأمر الذي يتطلب إستراتيجية لوضع قانون حماية التراث الذي من ضمنه القطع الأثرية التي وجدت بموقع عين بوشريط، التي يتطلب وضعها في بنك وعرض نسخة لها للجمهور وحمايتها والحفاظ عليها من كل المخاطر، فهي ثمينة وعمرها يتجاوز المليوني سنة، الأمر الذي يتطلب النظر في مثل هذه الإجراءات العلمية والأمنية معا.

كما أثار الخبير تريعة موضوع النقاش القانوني، كتوفير دفتر شروط ينظم الحفريات في الجزائر من أجل إثراء المتاحف، وتدعيم صاحب الحفريات من طرف وزارة الثقافة، والذي يجب ألا يقتصر فقط على التكريم، زد على ذلك، مسألة الشراكة بين القطاعات من خلال اعتماد إستراتيجية تثمين وحماية الحفريات والاستفادة منها كقيمة ثقافية للجزائر.

يضيف المتحدث أن الجزائر أصبحت مهد البشرية، مما سيبعث السياحة الثقافية ويستقطب السياح عبر العالم، علما أن هناك 15 ألف مقال كتب عن الموقع عبر العالم، وهو ما روج لموقع عين بوشريط في كل الأصقاع والبقاع. كما طالب المتحدث بضرورة تثمين جهود الخبراء الجزائريين عبر الحفريات المتواصلة وتجنب تهميشهم، كما حدث في حفريات ساحة الشهداء بالعاصمة، ومرافقة الحفريات منذ انطلاقها بالرعاية والدعم، علما أن موقع عين بوشريط يعمل منذ سنة 1990.

الدكتور فريد خربوش (مدير المركز الوطني للدراسات في علم الآثار والتاريخ القديم): التشكيك في موقع عين بوشريط كان  زوبعة إعلامية

أشار السيد خربوش إلى أن التشكيك في موقع عين بوشريط كان زوبعة إعلامية لا أكثر، بعيدا عن أي سجال علمي مختص، انطلق مع مقال صدر في جريدة لوبوان الفرنسية، ثم تداولته بعض المواقع الجزائرية، وهكذا جرى الأمر، فكان التدخل منه شخصيا ومن السيد سحنوني، ليرسلا مكتوبا للصحفي الفرنسي ويفتح النقاش بكل هدوء وموضوعية من أجل توضيح الرؤى. علما أن الصحفي المعني اعتمد على جون أوبلان الذي ليس أثريا ولا مختصا ولا علاقة ولا معرفة له بعين بوشريط، ولا عين الحنش، بالتالي كان الجواب المقنع والعلمي والمنهجي من الجزائر، وتم التأكيد على أن لجنة قراءة مكونة من أكبر العلماء والخبراء في شتى التخصصات فحصوا النتائج المتوصل إليها وأثبتوا قيمتها وتاريخها.أكد المتحدث أنه لا أثر يذكر لما ورد في جريدة لوبوان ولا تأثير له على الاكتشاف، بل كان مجرد سحابة إعلامية عابرة لم تمس قيمة ولا حتى مضمون الاكتشاف العلمي الباهر، بل اقتصر عل الجانب الإعلامي.

ظل السيد خربوش يؤكد أن كل الأبحاث والحفريات ليس هدفها أن تثبت أن الجزائر مهد البشرية، وأن هدفها الأول هو التحقيق واكتشاف التاريخ أيا كان، وأن هناك مواقع يتم تسييرها بموضوعها، وليس هدفها أن تثبت أن الجزائر مهد الإنسانية، بل هدفها علمي بحت يدقق في كل العصور. 

البروفيسور عبد الرحمن خليفة (خبير أثري دولي): كل منطقة الهضاب العليا تعد مهدا للبشرية

أكد الخبير عبد الرحمن خليفة أن الحفريات بموقع عين بوشريط موجود من سنة  1948 إلى 1950، واشتغل عليها الخبير الفرنسي ديمو نوقو واكتشف به 1.8 مليون سنة من التاريخ البشري. اكتشف الفرنسيون أنفسهم وأثبتوا أن الأدوات الحضارية والقطع هي الأقدم حينها على وجه الأرض، إلى أن جاءت سنة 1970 وتم التنقيب في لومو بأثيوبيا، ووجدت آثار يقارب عمرها ثلاثة ملايين سنة،  واعتبر ذلك الموقع بشرق إفريقيا مهدا للإنسانية، ولا تزال البحوث جارية به. بالنسبة لعين يوشريط، فإن الأدوات والقطع المكتشفة تفوق 2.4 مليون سنة، بالتالي فإن الجزائر هي الثانية على مستوى العالم كله، وهو إنجاز مهم.

ثمن المتحدث عمل البروفيسور سحنوني بعين بوشريط، والفريق العامل معه من الأجانب، ونجاحهم في اكتشاف أدوات تعود إلى ملايين السنين، وهو الأمر الذي ثمنته مجلة ساينس الأمريكية الشهيرة عبر العالم، التي لا تكتب من فراغ وتعتمد عل معطيات في شتى التخصصات العلمية، يؤكد السيد خليفة. أضاف المتحدث أن منطقة الهضاب العليا بالجزائر تعد مهدا للبشرية، مما يتطلب العمل والبحث المتواصل، مشيرا إلى أنه تم اكتشاف في الطريق بين الثنية وجيجل، آثار فيل بدائي قديم عمره ثلاثة ملايين سنة، وما خفي ربما يكون أعظم وأهم وأقدم. ويقول السيد خليفة كنا نعتقد أن إفريقيا الشرقية وحدها مهد البشرية الأول، لكن يبدو أن إفريقيا الوسطى والغربية هي كذلك، وهو أمر ليس بالغريب. طالب المتحدث بدوره الدولة بتثمين البحث في هذا الاتجاه العلمي الأثري المهم،  لتعزيز تاريخنا الوطني السحيق، وترسيخ هويتنا الجزائرية المستقلة، على اعتبار أن الإنسان الجزائري موجود منذ القدم على هذه الأرض، ولم تقذفه أوطان أو أراض أخرى، كما تتداوله بعض الخطابات من أن الجزائري هو نتاج هجرات جماعية من الشرق والغرب.. بل الجزائريون وجدوا على أرضهم منذ بدايات التاريخ وكل الحفريات والآثار تؤكد ذلك، وتؤكد أن الجزائر كانت عامرة منذ فجر التاريخ.

أكد المتحدث أيضا أن علم الآثار يساهم في تغيير رؤيتنا للتاريخ، لأن كل اكتشاف يعطي الجديد، مضيفا أن النصوص التاريخية والمخطوطات موجودة مثلما هو الحال مع كتب ابن خلدون والبكري وغيرهما، لكن يبقى علم الآثار يحمل الشيء الكثير وأكثر قيمة بشهاداته الملموسة التي تسكت كل مشكك لا يقتنع إلا بالقطعة الأثرية، كدليل قاطع، ليتساءل المتحدث؛ لماذا لم يتم التشكيك في اكتشاف نهر لومو باثيوبيا وشكك في آثار عين بوشريط؟ ولماذا لم يتم تصديق ما أنجز إلى غاية الإعلان عنه في مجلة ساينس العلمية الأمريكية؟ وللأسف حتى عندنا في الجزائر؟ كان ينبغي أن تتحدث المجلة الأمريكية لنصدق ونعتبر الموضوع مهما ـ كما قال السيد خليفة ـ وذلك ليس بالعادي والطبيعي، وهنا استشهد خليفة بالمثل القائل لا نبي في بلاده، بمعنى أن التثمين والتصديق لا يكون في أغلب الأحيان للخبير المحلي، ولو توفرت فيه كل الشروط العلمية، وقال رأيت سحنوني ووقفت معه في الموقع بعين بوشريط ولا أحد كان يتفقده. ختم السيد خليفة حديثه بالرد عل المشككين في إنجاز عين بوشريط قائلا إن 2.4 مليون سنة ليس اختراعا، بل أدلة تاريخية، وقد تكون حظا سعيدا لنا، وقد تكون العكس عند البعض، لمجرد أنها وجدت عل الأرض الجزائرية.