حسين آيت احمد..
آخر التسعة المفجّرين للثورة

- 11213

يُعتبر الراحل حسين آيت احمد آخر زعيم ثوري يلقى ربه بعد 51 سنة من الاستقلال، ليلتحق برفاقه الثمانية؛ العربي بن مهيدي ومصطفى بن بولعيد ومراد ديدوش الذين سقطوا شهداء في ميدان الشرف، ومحمد خيضر وبلقاسم كريم، اللذين اغتيلا بعد الاستقلال. أما محمد بوضياف فاغتيل بعدما أصبح رئيسا للجمهورية، وتوفي اثنان بصورة طبيعية، هما رابح بيطاط وأول رئيس للجزائر المستقلة أحمد بن بلة.
بعد انتهاء اجتماع مجموعة الـ 22 في جوان 1954 واختيار بوضياف وديدوش وبن مهيدي وبن بولعيد وبيطاط قبل أن ينضم إليهم كريم بلقاسم للتحضير للعمل المسلح، كان العمل يتم بالتنسيق الكامل مع قادة المنظمة الخاصة المتواجدين في القاهرة بن بلة وآيت احمد وخيضر. وبالاتفاق معهم تم تحديد قادة المناطق وتاريخ اندلاع الثورة، والأهم من كل ذلك مضمون بيان أول نوفمبر الذي يحكم عمل جبهة التحرير الوطني.
صحيح أن الاستعمار الذي كان يلاحق قادة المنظمة الخاصة منع القادة الثلاثة في القاهرة من المشاركة في اجتماع المدنية بالعاصمة إلا أن التنظيم الجيد والعمل المنسق للرئيس الراحل محمد بوضياف، مكّن من إطلاع الغائبين بكل التفاصيل، في ظل الاتفاق على وأد الزعامات والقيادة الجماعية للنضال المسلح.
صحيح أن عضوي مجموعة الـ 22 بن مصطفى بن عودة وعثمان بلوزداد أطال الله عمرهما، لهما من الفضل في اندلاع الثورة ما لهما، إلا أن إنكار فضل القادة الذين خططوا ونظموا، إجحاف في حقهم، وآيت احمد آخر من توفي منهم.
آيت احمد إذن من مؤسسي جبهة التحرير، وأحد قادة العمل المسلح منذ تأسيس المنظمة الخاصة إلى جيش التحرير، دوره البارز تجسد في مشاركته في مؤتمر باندونغ مع زعماء بارزين من إفريقيا وآسيا في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، من أجل رفض الاستعمار والتنديد بالعنصرية وعدم الانحياز إلى أي من القطبين الشرقي أو الغربي اللذين يتنازعان قيادة العالم على حساب الشعوب المقهورة.
آيت احمد هو أيضا الناطق باسم الجزائر في هيئة الأمم المتحدة وحامل نضالها أمام محفل الدول، وليس غريبا عنه ذلك؛ فهو ينحدر من عائلة جذور شجرتها مغروسة في أطهر أرض مسقية بدماء الأحرار، وأغصانها تعانق السماء.
عندما تكون شابا ناجحا تحصل على البكالوريا في الجزائر المستعمرة المخنوقة بقهر العنصرية الفرنسية، تنفتح لك الدنيا من أجل أن تحقق كل ما يحلم به أي شاب، لكن الرجال من طينة آيت احمد تعدّوا البيولوجيا وألغوا مرحلة المراهقة من حياتهم؛ فكأنهم وُلدوا رجالا، سخّرهم الله للدفاع عن شرف شعب، وليضحوا بأرواحهم في سبيل الوطن.
التحق الشاب حسين مبكرا بالنضال السياسي في حزب الشعب الجزائري سنة 1943 وهو تلميذ في الثانوي، ليرتقي بسرعة في المسؤوليات حتى أصبح عضوا في اللجنة المركزية، ثم في المكتب السياسي مكلَّفا بهيئة أركان المنظمة الخاصة في 1947 مع محمد بلوزداد وبن بلة وديدوش مراد، والمنظمة هي الذراع العسكري للحزب (حركة انتصار الحريات الديمقراطية) التي قامت بأول عملية مسلحة منظمة ضد المستعمر الفرنسي.قد يبدو الأمر بسيطا بل وبديهيا وهو يروى هكذا في الكتب والصحف أو الأفلام، لكن لو أن التاريخ أعاد نفسه لشهدنا كم كان شجاعا هذا الذي كان يمكن أن يعيش مرتاحا في باريس أو نيويورك أو جنيف واختار النضال، لينتهي به الأمر ضحية قرصنة جوية مع رفاقه قادة الثورة.
فرنسا أدركت بعدها أن الثورة تتعدى فعلا قادتها بما أنها اندلعت وجزء منهم في الخارج، واستمرت بعد سجنهم بل وحتى تم تعيين بعضهم في الحكومة المؤقتة حتى يدرك العالم أن هؤلاء سجناء سياسيون وليسوا قادة عصابة من الفلاقة.
النضال وليس المناصب
ورفض آيت احمد كل المناصب التي عُرضت عليه منذ الاستقلال رغم أنه كان وزيرا في الحكومة الجزائرية المؤقتة بين 1958 و1962، ثم عضوا في المجلس التأسيسي المنتخب في سبتمبر 1962.
لم يدم بقاؤه في أول برلمان جزائري طويلا؛ حيث ما فتئ أن نشب الخلاف بينه وبين رفاقه، فانسحب ليؤسس جبهة القوى الاشتراكية في 1963 لمواجهة حكومة أول رئيس للجزائر أحمد بن بلة، الذي قضى معه عقدين من الزمن في النضال في الداخل والخارج وفي السجن وكذلك في زراعة أولى بذور الدولة الجزائرية الفتية..
ولم يكتف آيت احمد بالمعارضة السياسية، ولكنه قاد تمردا عسكريا في منطقة القبائل التي ينتمي إليها، وأنهى الجيش الجزائري التمرد بالقوة، فأُلقي القبض عليه وحُكم عليه بالإعدام قبل أن يعفو عنه بن بلة في 1964 ويستبدل عقوبته بالسجن، لكنه فر من سجن الحراش سنتين بعد ذلك نحو أوروبا، ليبدأ رحلة طويلة في المنفى لم تنته فعليا إلا بوفاته الأربعاء الماضي.
معارضة آيت احمد لم تكن أبدا من أجل منصب؛ فلو كان كذلك لقبل العروض الكثيرة التي تلقاها والتي كانت ستفرش أمامه السجادة الحمراء أو أنه كان بقي في المجلس التأسيسي، وهو القائد الثوري والوزير في التشكيلات الثلاث للحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية.
نضاله السياسي أرقى من أن يكون كذلك؛ فهو لم يفعل شيئا سوى الدفاع عن مبادئ بيان أول نوفمبر دستور الجزائر الأول ومرجعيتها في بناء الدولة. كان يريد دولة ديمقراطية تسود فيها الحريات، ولم يقبل أبدا مبرر أولئك الذين قالوا إن الدولة الفتية تحتاج إلى نظرة أحادية حتى يقوى عودها. والتاريخ أثبت أن جزائر التعددية السياسية والإعلامية بكل سلبياتها، أفضل بكثير من جزائر الحزب الواحد والنظام الاقتصادي الموجّه والمفلس.
تسليم المشعل
في 2012 قرر الزعيم التخلي عن رئاسة جبهة القوى الاشتراكية، معتبرا أن "الوقت حان لتسليم المشعل" بعد 50 سنة من تأسيس أول حزب معارض يتواجد اليوم في البرلمان بنواب شباب يكملون الطريق الذي شقه الدا الحسين، لكن هذه المرة بالاعتماد فقط على ما تعلّموه منه بدون حكمته ونظرته التي لم تخطئ إلا نادرا.كان الزعيم يريد تجسيد التدوال على القيادة من خلال حضور مؤتمر حزبه، ليسلّم المشعل بنفسه، لكن المرض أقعده في منفاه، فالزمن وقهر المستعمر فعلا فعلتهما في جسده الضعيف المنهك بهموم بلد لم يعش ليراه كما حلم به.القادة الكبار والشخصيات الشامخة مثل حسين آيت احمد ومحمد بوضياف وأحمد بن بلة وخيضر وكريم بقاسم وهؤلاء قادة الثورة الذين عاشوا بعد الاستقلال، لا يمكن إلا أن نحيي نضالهم مهما كانت زلاتهم.
سبعون سنة من النضال والتضحية كفيلة بأن تشفع لحسين آيت احمد، وتجعل الجزائر تنصّب له تذكارا وتدرس مسيرته في المدارس، في زمن نخر فيه الفساد السياسة وتحوّل المناضلون عن الحق إلى عملة نادرة.
آيت احمد ليس فقيد حزب أو منطقة أو جماعة، بل فقيد الجزائر بأكملها، الجزائر ستودّعه بجنازة تليق به وبرفاقه من الشهداء والمجاهدين.