سلال قرر تحويل الملف إلى ولاية العاصمة

24 مليار دينار في 10 سنوات لم تغير «وجه» القصبة

24 مليار دينار في 10 سنوات لم تغير «وجه» القصبة
  • القراءات: 3052
 نوال جاوت / دليلة مالك نوال جاوت / دليلة مالك

يعود اليوم الوطني للقصبة مجددا، ليعيد معه فتح ملفات كثيرة تتعلّق بالحي العتيق، لعل أبرزها هذه السنة تجسيد قرار الوزير الأول عبد المالك سلال،  بتحويل ملف الترميم من وزارة الثقافة إلى مصالح ولاية الجزائر، حيث وقع الاختيار على مديرية التجهيزات العمومية للإشراف على العملية.

القصبة التي تئن في صمت، رصد لها غلاف مالي إجمالي قدّر بـ92 مليار دينار جزائري لإعادة الحياة لأزقتها ودورها، خصّص 24 مليار دينار منها للمرحلة الأولى من عملية الترميم، التي تعدت عقدا من الزمن ولم تظهر ثمارها بعد. وإذا ما استثنينا عددا من القصور والمساجد وكذا نسبة من قلعة الجزائر أو «دار السلطان»، فإنّ لا شيء تقريبا تمّ على مستوى هذه المدينة التي احتار كل من تعاقب على ترميمها وأوكلت له مهمة الإشراف عليها، كيف يتعامل معها. 

الخبراء والمختصّون أجمعوا على إمكانية إنقاذ ما تبقى من المدينة العتيقة، وجعلها في مصاف التجمعات الرائدة، لما تزخر به من مقوّمات وتاريخ يؤهلها لأن تكون موردا اقتصاديا بامتياز ينافس الوجهات السياحية العالمية. لكن بين القول والفعل لا تزال القصبة بمثابة تلك الصبية الفاتنة التي يغازلها الجميع ويطلب وصالها، إلا أن لا أحد عرف سر الوصول إلى فؤادها.

القصبة كنسيج عمراني تتهاوى أجزاؤه من فينة إلى أخرى، كما يزداد عدد الدخلاء فيها، وبين جاهل ومتجاهل لقيمتها التاريخية والأثرية، هناك من يدمي قلبه وهو يرى حاضنته تصارع من أجل البقاء، فيما يتّخذها آخرون محطة عبور للسكن اللائق، وهناك من يعتبرها مطية للربح المادي وآخرون حقل تجارب لدراساتهم النظرية والأمثلة كثيرة.

انتقال ملف ترميم القصبة من وزارة الثقافة إلى مصالح ولاية الجزائر، جاء بعد ما أثير من لغط واستفهامات حول ما آل إليه الحي العتيق، رغم مرور 10 سنوات على إطلاق المخطط الاستعجالي لترميمه، ثم المخطط الدائم، واعتبر جميع من تحدّثت إليهم «المساء»، أنّ عودة عملية الترميم إلى أحضان مصالح الولاية تحصيل حاصل وتطبيق لقانون حماية التراث، فضلا عن أنّ «أهل مكة أدرى بشعابها» فيما يتعلّق بحيثيات الحياة اليومية للقصباويين.

في هذا الملف، حاول صحفيو القسم الثقافي أن يرصدوا عملية تحويل الملف إلى مصالح الولاية، وجالوا في أزقة القصبة، كما تحدّثوا إلى الباحث في التاريخ عبد الرحمان خليفة، وقدّموا إصدارا لبن مدور حول الحي العتيق، كما تناولوا تصريحات وزير الثقافة عز الدين ميهوبي حول الموضوع.

"المساء" تتجول بين أزقتها وتتحدث إلى ساكنيها  ... سكان القصبة ينذرون بنهاية مدينتهم

ليس من باب القسوة أن يكون عنوان هذا المقال بهذا الشكل، لكن عندما تتجول بين أطلال القصبة وما تبقى منها من شبه مساكن ودكاكين بدائية، وتسمع من ناسها أن القصبة انتهت وأن روحها ذهب مع أهلها، ستدرك حتما أن وضعها المأساوي ينبأ بخطر كبير، وإرث حضاري يضيع يوما بعد يوم، فضلا عن أن القصبة تدرك هلاكا قريبا، وكل المشاريع والمخططات الذي رضخت لها الوصاية أموال طائلة لم تضف أي تحسن في حال لؤلؤة الجزائر العاصمة.

مع المدخل السفلي للقصبة حيث جامع كتشاوة العتيق تبرز أعمال الترميم التي تعكف عليها شركة تركية، ومع المضي يمينا مرورا على دار الصوف تغيب كل الأشغال التي طالما كثر الحديث عنها من طرف المسؤولين، الأمر الذي جعل سكانها يتدبرون أمرهم في بناء عشوائي لا يليق بالمعلم سواء هندسيا أو جماليا، فضلا عن أن البلدية والولاية معا لم يفصلا بعد في أمر ترحيل السكان الذين يعيشون في ضيق وخطر الانهيار في أي لحظة.

يقول السيد بوعلام شرشام أول القصبويين ممن التقتهم "المساء" جده من مواليد القصبة في عام 1900، وعائلته تنحدر من أزفون في تيزي وزو، ويؤكد أن القصبة ذهبت مع ناسها بعد أن تم ترحيل العديد منهم، ورحيل شيوخها الوقورين، ويضيف أنه من الأهمية ترحيل الناس خوفا من خطر انهيار الدويرات (البيوت)، والعيش في سكنات لائقة، لكنه شخصيا يفضل البقاء في القصبة لقرب مكان عمله من بيته وظروف تسهل حياته وحياة عائلته. 

القصبة التي كانت مدينة الجزائر في العهد العثماني تم بناؤها على الجبل المطل على البحر الأبيض المتوسط لتكون قاعدة عسكرية مهمتها الدفاع عن القطر الجزائري كله، وشكلها يشبه المتاهة، غير أن المتجول بين جناباتها غالبا ما يجد طريقه بسهولة، وبقيت مع الأزقة التي تقاوم الزمن لكنها لن تجد حلا مع المطر، إذ يؤكد السيد شرشام أنه في كل مرة ينزل فيها الغيث تتهاوى جدران من القصبة، فهي أشبه بروح تحتضر.

الراغبون في العيش تحت سقف من الزنك القادمون من جهات أخرى من الوطن هم القابعون في دويرات القصبة، فكلما رحلت عائلة ما تقتحم عائلات دخيلة تلك الدويرة طمعا في الحظوة لمساكن اجتماعية توزعها عليهم السلطات المحلية.

الحرفيون يكبرون ولا وجود للخلف

خلال هذه الجولة لم ألمح غير فتاة أجنبية واحدة سائحة تزور المكان، وهو أمر مثير حقا، هل هناك من يهتم بهذا المعلم المترهل أم أنهم لا يعلمون الحقيقة المرة؟، وخلال صعودي للسلالم وجدت نفسي ألج دكانا للحرف التقليدية وصناعة الجلود بالتحديد، استقبلني الحرفي وهو أستاذ متقاعد، توجه إلى إرث أبيه في ممارسة هذه الحرفة البديعة، فتطرق بشكل خاص لغياب سوق للحرفيين في الجزائر بما في ذلك القصبة، بالإضافة إلى تقلص عدد الحرفيين فيها بسبب الموت أو لأن الجيل الحالي لا يبالي بهذه الصنعة، معتقدا أنها لا تؤكل الخبز. 

يروي هذا الحرفي أنه في الماضي كان الحرفيون يتعاونون مع محلات في شارعي العربي بن مهيدي وديدوش مراد، ومع الولاية لكنهم استغلوا الحرفيين استغلالا بشعا، حيث يقدر المنتوج بثمن صغير وصاحب المحل يبيعه بأسعار خيالية، وأضاف "نحن لا نحاسبهم ولا يهمنا في أمرهم شيء، وفي العائلة الحرفية الكل يشتغل أطفال ونساء وننتج هذه المصنوعات التي ترينها، وما حدث لنا سابقا جعلنا نبحث عن فضاءات أخرى وكنا نبيع مع التجار غير الشرعيين الذين يهربون من الشرطة، وروى كيف أنه في إحدى المرات في سنوات الثمانينات، قام شرطي بتوقيف أخيه، وقال له أنت حرفي لا تهرب فقط عليك باستخراج تصريح من بلدية  الجزائر الوسطى، وأضاف أنه منذ ذلك الوقت انطلقوا في إيجاد فضاء يجمع الحرفيين، حيث أنشأوا سوقا في البريد المركزي في 1992 لكن بعد 6 سنوات، توقف بسبب دخلاء على المهنة يبيعون سلعا صينية، ثم فتح فضاء بسوق بور سعيد التابع لبلدية القصبة الذي استلمته مؤخرا بلدية الجزائر الوسطى لتهيئته حديقة عمومية".

ويتابع المتحدث "كل العالم له ساحات عمومية ينشط فيها الحرفي من كل التخصصات في الجلد والنحاس الفضة والخشب والطين" وأوضح أن له العديد من الشهادات والجوائز، ويشتغل مع السينمائيين في إعداد الإكسسوارات".

وأكد الحرفي أنه عندما استطاع مع زملائه الحرفيين إنشاء الأسواق، ظهر الانتهازيون أصحاب النفوذ للظفر بتصاريح وأصبح كل من هب ودب يبيع وسط الحرفيين الحقيقيين، ولهذا السبب تم الانسحاب من هذه الأجواء، وحاليا ليس هناك سوق للصناعات التقليدية والحرفية.

وأوضح أن حرفيي القصبة يعدون على الأصابع، العديد منهم أصبح يشتري ويعيد البيع، وهم يتجاوزن سن الـ60 وليس هناك خلف لهم، لأن الجيل الحالي لا يرى في هذه الحرفة مصدرا للعيش، وهي حقيقة أكدها المتحدث، مستشهدا بحال دكانه، الذي أقل ما يمكن القول عنه أنه بدائي أسواره هشة ومساحته ضيقة جدا، خصصها لعمله وكذلك للبيع. وتكرم هذا الحرفي عليّ وسمح لي بدخول ورشته، وتحدث عن تفاصيل صنعته وقد بدا حريصا عليها. 

كما التقيت بالسيدة فتيحة (العقد السابع)، وعند سؤالي لها كيف حال القصبة اليوم، تنهدت عميقا وقد بدا عليها تعب المشي أيضا، "ياحسرا على القصبة،.. القصبة كانت نوارة"، ثم رافقتها إلى بيتها حيث لاحظت تغيرا في شكل البناء رغم وجود وسط الدار، واستسمحتني لتمضي إلى بيتها متأسفة عن عدم تحضير وجبة الغداء.

هناك أيضا دكان صغير آخر لصانع الأحذية أو الاسكافي، الذي دخل مباشرة في الموضوع، وهو ابن منطقة بئر جباح (أعلى القصبة)، وقال أن القصبة كانت تغسل يوميا من ماء البحر من الثامنة إلى الحادية عشر صباحا ويعاد غسلها في الرابعة مساء، لذلك حافظت على نظافتها، لكن البلدية اليوم توقفت عن هذه العملية.

وذكر مستضيفي أنه في 1985 صدر قرار ترحيلهم لكن على الورق فقط، والسبب هو تفشي الفساد، وأضاف أن الوضع مازال على ما هو عليه، مضيفا أمرا خطيرا وهو أن البلدية تحضر مقاولين لا يعرفون عن أمور الترميم شيئا ويمنحونهم مشاريع ترميم.

وعن السياح، أفاد أنهم يأخذونهم فقط إلى الجهات النظيفة وعندما يكون هناك وفد أجنبي يتم فورا تنظيف المكان ودهنه.

لم تفصل بعد في مُرافق مصالح زوخ  ... لثقافة تنفض يديها نهائيا

أكد مصدر من وزارة الثقافة لـ«المساء»، التحويل التام لملف ترميم القصبة لمصالح ولاية الجزائر، مشيرا إلى أنه لم يفصل بعد في من سيرافق مديرية التجهيزات العمومية بالولاية في العملية، والأمر محصور بين مديرية الثقافة واللجنة الوطنية للقطاعات المحفوظة. وأضاف أنّ هذا التحويل أرجع «المياه إلى مجاريها» فيما يخص ترميم القصبة، لأن مصالح الولاية هي الأكثر قدرة على تسيير أي مشكل يتعلّق بالعملية من خلال المديرين التنفيذيين. 

المصدر أكد أيضا أن وزارة الثقافة حولت مع نهاية جانفي الفارط، ما يقارب 24 مليار دينار جزائري، (أكثر من 17 مليار و800 مليون دينار جزائري من الوزارة و5 مليارات و600 مليون دينار جزائري من الوكالة الوطنية للقطاعات المحفوظة) إلى مصالح ولاية الجزائر، بعد أن تم تسديد تكاليف كل ما أنجز عندما كان ملف ترميم القصبة في عهدة الديوان الوطني لتسيير واستغلال الممتلكات الثقافية المحمية.

المصدر أكّد في السياق، أن التحويل لا يستلزم صدور مرسوم تنفيذي، لكن تمّ وفق مقرر صادر عن وزارة المالية مؤرّخ في 14 ديسمبر 2016، موضوعه تحويل عملية واردة ضمن برنامج دعم النمو الاقتصادي من وزارة الثقافة لفائدة ولاية الجزائر، وتمّ مع نهاية جانفي الفارط ضبط جميع الحسابات وتحويل الغلاف المالي الأوّلي المرصود لعملية ترميم القصبة المقدر بـ 24 مليار دينار جزائري، من مجموع 92 مليار دينار المفرد للعملية ككل.

واعتبر المصدر أنّ قرار تحويل ملف ترميم القصبة إلى مصالح ولاية الجزائر بأمر من الوزير الأوّل عبد المالك سلال، يعتبر أفضل قرار اتّخذ لصالح الحي العريق، مشيرا إلى أنّ القوانين العضوية المرافقة لقانون 98-04 المتعلّق بحماية التراث الثقافي بالتراث، يشير إلى أنّ عمليات التدخل في أي موقع أثري أو تاريخي يوضع تحت إشراف الوالي، لكن مع إنشاء الديوان الوطني لتسيير واستغلال الممتلكات الثقافية المحمية، تمّ تكليف الديوان بعملية الترميم، لكن الواقع أثبت عجزا في تسيير الملف خاصة فيما تعلّق بإبرام الصفقات، رغم توفر جميع الإمكانيات والظروف، نافيا أن يكون لنقص مكاتب الدراسات والشركات المختصة أي دور في تأخّر عملية الترميم. 

المصدر أكّد أنّ عملية تحويل تسيير الملف من مصالح الوزارة إلى الولاية تمت بسلاسة وفي تنسيق تام، وذكر أنّ مصالح الولاية طلبت إبقاء المهندسين والخبراء الذين أشرفوا على الجزء الأول من عملية الترميم،  التي شملت الأشغال والاستعجالية ومخططات الدعم. مشيرا إلى أنّ القصبة ليست مسؤولية قطاع على حساب آخر، ولكن مسؤولية كلّ القطاعات التي عليها التّدخل حسب الاختصاص من أجل الأفضل وتحقيق غاية إعادة تأهيل القصبة وجعلها مقصدا سياحيا ومعلما أثريا وتراثيا بامتياز.

وعن مصير الديوان الوطني لتسيير واستغلال الممتلكات الثقافية المحمية، أوضح المصدر أن للديوان مهام محددة وواضحة، وله صبغة وطنية ويشرف على متابعة مختلف المعالم والمواقع الأثرية المنتشرة عبر الوطن.

للتذكير، فإن المخطط الدائم للحفاظ على قصبة العاصمة الذي اعتمد من طرف الحكومة في مارس 2012، في شكل نص قانوني لتسيير عمليات الترميم، يرمي إلى إعادة الوجه الأصلي للقصبة من خلال التركيز على المواقع التاريخية، مع اقتراح حل نهائي يجمع بين حماية هذا الحي العتيق ذو القيمة التاريخية والثقافية من جهة، والإبقاء على جزء من أبناء الحي القاطنين به عبر أجيال متعاقبة، من جهة أخرى.