بين مخطّط التهجير وتوازنات الصمت العربي

رفح.. بوابة الجحيم القادمة؟

رفح.. بوابة الجحيم القادمة؟
  • 32
 بقلم: بن معمر الحاج عيسى بقلم: بن معمر الحاج عيسى

في الوقت الذي ترتجف فيه غزّة تحت نيران القصف، وتتهشّم البيوت على رؤوس الأطفال، ويذوب الوقت في حرارة المجازر المتواصلة، تتحرك الخيوط الخفيّة لمخطط أكثر فتكًا من القنابل: التهجير الجماعي.

 ليس من قبيل التهويل أن نتحدث اليوم، عن نكبة جديدة تُنسج في ظلال الصمت الدولي المريب، ولكن من قبيل الاستقراء العاري للواقع والقراءة الجادة في نوايا الكيان الصهيوني التي تتجلّى يوما بعد يوم في سياساتها وتصريحاتها. بنيامين نيتانياهو، الذي يركب موجة الدم من أجل البقاء السياسي، لا يخفي رغبة جامحة في إعادة تشكيل الجغرافيا والديموغرافيا في القطاع عبر هندسة جهنمية تنطلق من سياسة الأرض المحروقة وتنتهي إلى ترحيل الأهالي إلى الجنوب، فإلى محور فيلادلفيا، ثم رفح، ثم… مصر.

المشروع ليس جديدًا، لكنه يعود الآن بنَفَسٍ أكثر وقاحة مدعومًا بخطاب أمني ملفّق عن "حماية الحدود"، وبتواطؤ صامت أو متواطئ من قوى تدّعي الحياد بينما تبرر الإبادة الجماعية تحت لافتة الدّفاع عن النّفس. السيناريو الأكثر رعبًا الذي تتداوله بعض التقارير الاستخباراتية المسرّبة، هو محاولة إسرائيل خلق "منطقة أمنية" خالية من الفلسطينيين على طول الحدود مع مصر، تمهيدًا لدفع مئات آلاف المدنيين إلى المعبر، وتشكيل ضغط إنساني ودولي على القاهرة لفتح الحدود، وإبقاء المهجّرين في ما يسمى بـ"المنطقة العازلة".

الخطير في هذا السيناريو أنه لا يستند فقط إلى رؤية أمنية إسرائيلية، بل يلقى صدى ضمنيًا في دوائر غربية ترى في قطاع غزّة عبئًا إنسانيًا يجب التخلّص منه بأي وسيلة، حتى ولو كانت جريمة تطهير عرقي جديدة، من جهة أخرى، يراهن نيتانياهو على المعادلة القديمة: الضغط بالدمار لإجبار السكان على النّزوح، ثم فرض الحل على الأرض كأمر واقع، بينما تتولى الآلة الإعلامية الكبرى تسويق الحدث كـ"إعادة تموضع" أو "إخلاء مؤقت". لكن ماذا عن رد الفعل الفلسطيني؟ الواقع أن غزّة، رغم الجراح أثبتت أنها ليست سهلة الكسر، وأن سكانها الذين عاشوا كل أشكال الحصار والدمار لم يرفعوا الراية البيضاء بل تمسّكوا بترابهم كما يتمسّك الجذر بالحياة.

الفلسطيني اليوم أكثر وعيًا من أن يقع في فخ الخديعة، وقد بات يدرك أن الخروج من غزّة هو باب نحو التّيه الأبدي، أما رد الفعل العربي، فهو ما يزال يتأرجح بين بيانات الشجب ونوبات الغضب الموسمية، فيما تلتزم بعض العواصم الصمت الثقيل خوفًا من تداعيات الفوضى أو امتعاض العواصم الكبرى.

مصر، تدرك جيدًا أن السماح بمرور هذا المخطط هو شرارة نار قد تشتعل في خاصرتها، وتحول سيناء إلى معسكر للاجئين وغليان أمني لا يمكن احتواؤه. وعليه، فإنها تحاول فرض معادلة معقّدة: منع الانهيار الإنساني دون أن تُستدرج إلى أن تكون شريكًا في التهجير القسري. في المقابل، يبقى موقف الشعوب النّقطة المضيئة الوحيدة في هذا المشهد الكابوسي، حيث تتصاعد موجات الغضب والمظاهرات في العواصم، والوعي المتنامي بحقيقة ما يحدث في غزّة كجريمة مكتملة الأركان لا مجرد حرب. 

إن ما يُحاك لغزّة اليوم، ليس مجرد معركة عسكرية بل معركة وجود، معركة إرادة شعب في مواجهة آلة نفي جماعي، وإذا ما تحقّق هذا السيناريو المرعب فإننا سنكون أمام لحظة تاريخية سوداء تشبه ما حدث في دير ياسين وصبرا وشاتيلا، لكنها بوسائل أكثر حداثة وبشراكة أوسع وبتواطؤ إعلامي مخجل.

إن الواجب الإنساني والسياسي والأخلاقي يحتّم علينا أن نُطلق الصرخة الآن، لا غدًا. أن نكتب ونُعرّي ونُوثّق ونُحرّك الشارع، ونفضح اللعبة قبل أن يُكتب على وجه غزّة خاتم النّكبة الجديدة. فرفح ليست بوابة خروج، بل هي خط الدفاع الأخير عن شرف القضية. وغزّة الجريحة العنيدة لن تقبل أن تُطوى خريطتها في ملف لجوء جديد، ولن تسمح للتاريخ أن يُكتب بمداد النّسيان.