ثورةٌ تتوارثها الأجيال

ثورةٌ تتوارثها الأجيال
  • 51
بقلم: محمد فاضل محمد اسماعيل بقلم: محمد فاضل محمد اسماعيل

في اللحظات التي يختبر فيها التاريخ صبرَ الشعوب وقدرتها على الاحتمال، تولدُ الثورات ليس من غضبٍ عابر، بل من غضبٍ حاشد متراكم، يشبه احتشادَ الغيم فوق سماءٍ عطشى قبل انطلاق العاصفة. وهكذا جاءت ثورةُ العشرين من ماي، الخالدة خلودَ الشعب الصحراوي، لم تكن حدثًا سياسيًا محدودًا، بل وعيًا استيقظ في الساقية الحمراء ووادي الذهب بعد نفاد صبر شعبها، كما تستيقظ الريح على هبّةٍ جديدة. وعيٌ نابع من النفوس، متجذر فيها ومرتبط بوجودها، قائمٌ بذاته ومستقل على هذه الأرض، تشكّل في ذاكرةٍ جماعية لا تُنسى، ووجدانٍ واحدٍ اجتمعت فيه أسباب المقاومة واستقامت حول قضيةٍ تتجاوز المكان الضيق إلى ما هو وطني أشمل، باقية رغم تقلبات الزمان.

كان شبابُ تلك اللحظة الشرارةَ الأولى؛ شبابٌ لم يكونوا مجرد أصواتٍ تهتف، بل صدورًا تتّسع للحلم، وأيادٍ قادرة على تحويله إلى طريقٍ مفتوح، مؤمنون بالرسالة ويتحدّون وعورة الواقع. فالحلم حين يُزال عنه غبارُ التردّد يتحوّل إلى جمرٍ يحركُ الراكد ويعيد ترتيبَ الممكن. وقد كانوا قدوةً لأنهم التحموا بشعبهم ورأوا النصر قبل أن يشرق، فصار الشعب.. حين ينهضون .. ينهض معهم؛ فتهتزّ موازينُ القوة، ويتبدّل معها ما كان يُظنّ أنه ثابت.

وهكذا يُعلّمنا الشباب أن الثورة ليست مجرد حدث، بل إرادةٌ حية تنبض في قلوب من يؤمنون بها، فتضيء الطريق للأجيال كلها.

والثورات الحيّة لا تُختزل في عمرٍ واحد، ولا تُحبس في زمنٍ محدود. إنها أمانةٌ تتوارثها الأعمار خلفًا عن سلف، وإن خبت الشعلةُ لحظةً فإنها لا تنطفئ؛ قد ينحسرُ وهجُها قليلًا، لكنه يستعيد قوّته في صدورٍ جديدةٍ تحمل الوعدَ نفسهَ والإصرارَ ذاته. يتكفّل بها السابقون ما استطاعوا، فإذا ثقل عليهم حملها بفعل الزمن، أودعوها أيدي اللاحقين بثقةٍ لا تهتزّ، ليواصلوا المسيرة متجددةً. وإذا كان الزمن — بطبيعته التي لا تُهزم — يستهلك أعمارَ من أطلق الشرارة الأولى، فإنّ ذلك ليس لحظةَ انطفاءٍ بل اكتمالُ مرحلةٍ أدّى فيها ذلك الطيفُ رسالته بصدقٍ ووفاء.

وحين يبلغُ دورُه تمامًا، يقف عند تخومِ مرحلةٍ جديدةٍ مسلّمًا الشعلةَ عن وعيٍ وثقة، ليتلقّاها من يأتي بعده، مستعيدًا من آثار السابقين ما يجعل الخطوةَ القادمة أكثر وضوحًا وصلابة. وهكذا تبقى الحركةُ الثورية فتيةً، تنتقل من كتفٍ إلى آخر، وتزداد صلابةً بما يورّثه الروّاد من خبرة، وبما تمنحه الصحراء من دروسٍ في الصبر والجلد أمام العاصفة، ليولد المدُّ الجديد وتستمرُّ المسيرة متوقدةً رغم تبدّل الأعمار.

إنّ الثورات لا تبقى لأنها ترغب في البقاء، بل لأن سبب قيامها لا يزال قائمًا، ولأنها تحمل واجبًا لم يُنجَز بعد. لا تُطوى صفحاتُها ما دام الظلم قائمًا، وما دام الاحتلال جاثمًا، وما دامت أسبابُ التهميش والهيمنة تتصاعد وتتجدد. فلا تنطفئ ثورةٌ برحيلِ جيلٍ أو غيابه، لأنّ وقودَها هو الإنسان القادر على أن يحلم ويصون العهد ويقاوم ويصنع فعلًا جديدًا في كلِّ زمن.

وهكذا تمضي ثورةُ العشرين من ماي — كما تمضي كلُّ الثورات الحرة العادلة — لا باعتبارها ذكرى تُستعاد، بل باعتبارها معنىً نبيلا يتجدّد: معنىً للكرامة حين تُنتهك، وللحرية حين تُقيَّد، وللإنسان حين يُختبر صدقه مع نفسه ومع تاريخه ووطنه. إنها نارٌ حضاريةٌ؛ قد تخبو حين يخبو الوعي، وتشتعل حين ينهض، لكنها لا تنطفئ حتى تبلغ غايتها. تبقى متقدةً فوق أرضٍ مغتصبة، وفي صدور شعبٍ يطالبُ بحقه وكرامته، وفي ذاكرةٍ لا تساوم على الحرية.

فالثورة تتوارثها الأجيال: تنتقل من حلمٍ إلى واقع، ومن إرادةٍ إلى إرادةٍ، حتى تستعيد الأرضُ حقّها ويستردَّ الشعبُ كرامته ومكانته الطبيعية بين الأمم.