لقاء رئيس البرلمان الكيني بالسفير الصحراوي يُجهض المقترح المغربي
انتصار دبلوماسي صحراوي في نيروبي

- 155

لطالما جسّدت جمهورية كينيا حضورًا مبدئيًا وصلبًا في دعم قضايا التحرّر الوطني في إفريقيا، مستندة إلى سجلها التاريخي في مقاومة الاستعمار البريطاني، والذي خلّده نضال مقاتلي "الماماو" الذين سطّروا ملحمة كينية خالدة في سبيل الحرية. هذا الإرث الكفاحي لم يكن لحظة عابرة، بل شكّل مرجعية أخلاقية والتزام سياسي حاضر في توجهات الدولة الكينية ومواقفها الخارجية، وخاصة تجاه القضايا التي تهم تقرير مصير الشعوب وتكريس سيادة الدول.
وقد تجسّد هذا الالتزام الكيني تجاه الكفاح التحرّري الصحراوي منذ وقت مبكر، بدءًا من دعم نيروبي سنة 1963، لإدراج إقليم "الصحراء الإسبانية" ضمن قائمة الأقاليم غير المحكومة ذاتيًا، مرورًا بمواقفها الرّافضة للغزو المغربي منذ عام 1975، ومعارضتها إحالة ملف "الصحراء الإسبانية" إلى محكمة العدل الدولية، حيث طالبت كينيا القوة الاستعمارية حينها إسبانيا، بضرورة إجراء استفتاء فوري لتمكين الشعب الصحراوي من تقرير مصيره. كما كان لكينيا دور محوري في صياغة القرارين 103 و104 اللذين أسّسا لانضمام الجمهورية الصحراوية إلى منظمة الوحدة الإفريقية عام 1983، وهي قرارات تم تبنّيها خلال رئاسة كينيا لدورة المجلس التنفيذي للمنظمة، كما شكّل مؤتمر نيروبي سنة 1981، لحظة فارقة حين أعلن الحسن الثاني لأول مرة قبوله بمبدأ الاستفتاء.
وتوجت كينيا هذه المواقف المشرّفة باعترافها الرسمي بالجمهورية الصحراوية واعتماد سفير صحراوي في نيروبي سنة 2005، كما كان لها موقف قوي وداعم للقضية الصحراوي خلال عضويتها في مجلس الأمن (2021–2022)، وهي الفترة نفسها التي قامت فيها بتعيين سفير لها لدى الجمهورية الصحراوية، إلى جانب مواقفها المتقدمة والمتكررة داخل الاتحاد الإفريقي ومواقع العمل الدبلوماسي متعدد الأطراف.
في هذا السياق التاريخي والرمزي جاء اللقاء الذي جمع يوم 19 جوان 2025، رئيس البرلمان الكيني، الدكتور موسيس ويتانغولا، بالسفير الصحراوي المعتمد في نيروبي، السيّد محمد ليمام محمد عالي سيد البشير، ليشكّل محطة مفصلية تعيد تثبيت الموقف الكيني الداعم، وتوجه صفعة مباشرة للرواية المغربية التي تسعى إلى تشويه الحقائق.
اللقاء الذي جرى بمبنى البرلمان الكيني، لم يكن مجرد زيارة مجاملة أو محطة بروتوكولية عابرة، بل تحوّل إلى رسالة سياسية قوية تعكس تجذّر الدعم الكيني الرسمي، وعلى أعلى مستوى تشريعي لحق الشعب الصحراوي في تقرير المصير، وتفنّد مجددًا الادعاءات المغربية التي تحاول الترويج لمزاعم دعم كينيا للمقترح الاستعماري الذي تروّج له دولة الاحتلال المغربي وحلفاءها.
السياق السياسي للقاء
على مدى الأسابيع الماضية، حاولت الآلة الدعائية المغربية الترويج لرواية مضلّلة مفادها أن كينيا أصبحت من داعمي ما يسمى بـ"مبادرة الحكم الذاتي"، مستندة في ذلك إلى تصريحات منسوبة زوراً لجهات داخل السلطة التنفيذية الكينية. ولتدعيم هذا الزعم عمدت الرباط، إلى إعداد مسودة بيان مشترك داخل أروقة وزارة خارجيتها، وقامت بتوزيعها على وكالات الأنباء الدولية على أنها بيان موقّع من الطرفين، في حين لم يصدر أي إعلان رسمي كيني يحمل توقيعاً مشتركاً، كما تم تسويق هذا التضليل الإعلامي أيضاً من خلال مقالات جاهزة نُشرت بتكليف مغربي مباشر في بعض المنصّات الإعلامية.
غير أن هذه المحاولة سرعان ما تهاوت بعدما امتنعت السلطات الكينية عن إصدار أي بيان مشترك، واكتفت بنشر بلاغ رسمي مقتضب حول الزيارة، مما شكل في حد ذاته، تفنيداً ضمنياً للرواية المغربية. كما أشار عدد من الصحفيين الكينيين والدوليين إلى أن مسؤولين في الخارجية الكينية رفضوا الإدلاء بأي تصريحات تدعم تلك المزاعم، الأمر الذي كشف هشاشة الدعاية المغربية وافتقارها لأي أساس دبلوماسي أو قانوني.
لكن اللقاء البرلماني الأخير جاء ليشكل الرد الصارم والمؤسساتي على هذا الالتباس المصطنع، ويعيد توضيح موقف كينيا الحقيقي والثابت إلى جانب الشرعية الدولية، وقرارات الاتحاد الإفريقي ومطالب الشعب الصحراوي غير القابلة للمساومة.
ففي أجواء رسمية اتسمت بالود والوضوح، استقبل رئيس البرلمان الكيني السفير الصحراوي بحضور عدد من مستشاريه وكبار موظفي البرلمان. وخلال اللقاء قدم السفير محمد ليمام، إحاطة شاملة حول آخر مستجدات القضية الصحراوية، وجهود الجمهورية الصحراوية داخل الاتحاد الإفريقي لتفعيل قراراته المتعلقة بتصفية الاستعمار من الصحراء الغربية وتنفيذ أجندة إفريقيا 2063.
كما نقل تحيّات رئيس المجلس الوطني الصحراوي، السيّد حمة سلامة، إلى نظيره الكيني، داعيًا إلى تقوية التعاون البرلماني الثنائي ومُشدّدًا على التزام القيادة الصحراوية ممثلة في الرئيس إبراهيم غالي، بتعزيز علاقات الأخوة والتضامن مع كينيا باعتبارها شريكًا إفريقيًا تاريخيًا للقضية الصحراوية.
يتانغولا:
لا للحلول المفروضة، نعم لتقرير المصير
لم يترك رئيس البرلمان الكيني، مجالاً للغموض بل صرّح بوضوح في بيان نُشر عبر حساباته الرسمية: "أكدتُ لسعادة السفير أن كينيا، كعضو ملتزم في الاتحاد الإفريقي، تقف متضامنة مع الجمهورية الصحراوية، وتظل ثابتة في دعمها والدفاع عن مصالحها كدولة ذات سيادة، كما جددت التأكيد على أن للشعب الصحراوي حقًا أصيلًا في تقرير المصير والاستقلال."وذهب إلى أبعد من ذلك، حين دعا الاتحاد الإفريقي إلى "تولي مسؤولياته التاريخية والأخلاقية تجاه الصحراء الغربية، والعمل على تعزيز النّمو والسلام في هذه الدولة الفتية".
تغطية إعلامية كينية واسعة تكشف زيف الرواية المغربية
اللقاء لم يمر مرور الكرام في المشهد الإعلامي الكيني. إذ غطّت القنوات والصحف الكبرى الحدث بتوصيفه كـ"تأكيد رسمي على التزام كينيا بموقفها التاريخي" (KBC News). فيما نشرت صحيفة Daily Nation تحليلاً وصف اللقاء بأنه "الضربة القاضية لرواية الحكم الذاتي"، معتبرة أن: "البرلمان الكيني كمؤسسة سيادية، أعاد تأكيد موقع كينيا في طليعة المدافعين عن التحرّر الإفريقي، بعيدًا عن الانحياز أو المساومات السياسية التي تُفرض من الخارج".
أما صحيفة The Star فقد نقلت عن خبير الشؤون الإفريقية البروفيسور جون ماريمبا، قوله "اللقاء هو بمثابة إعلان سياسي مضاد، لقد سدّ المنافذ أمام المحاولات المغربية لإقناع العالم بأن كينيا غيّرت موقفها".
هذا اللقاء لا يكتسب أهميته من طبيعته الثنائية فحسب، بل من أبعاده الأعمق: دبلوماسيًا، حيث أعاد الاعتبار لمكانة الجمهورية الصحراوية داخل العمق الإفريقي، خاصة في ظل محاولات العزلة التي تسعى الرباط إلى فرضها. فسياسيا وجّه صفعة واضحة للدعاية المغربية التي حاولت قبل أسابيع تصوير كينيا كحليف جديد داعم لمقترحها الاستعماري الذي تروّج له منذ سنوات، والذي لا يعدو كونه سوى مهزلة ومناورة، أما إفريقيًا فقد دعم الخط السياسي القاري القائم على "حلول إفريقية لقضايا إفريقية" ما يعيد تصفية الاستعمار إلى واجهة أجندة الاتحاد الإفريقي.
إعلام العدو:
بين التهوين والهروب إلى الأمام
اللافت أن الرد المغربي لم يتأخر لكنه جاء مرتبكًا ومتسرّعًا، فبعد ساعات من نشر رئيس الجمعية الوطنية الكينية تغريدته المؤيدة لحق الشعب الصحراوي في تقرير المصير والاستقلال، سارعت بعض الأوساط الإعلامية والدبلوماسية التابعة لدولة الاحتلال إلى محاولة تحجيم الموقف الكيني، عبر الإيحاء بأن تصريح ويتانغولا "يمثله شخصيًا ولا يعبّر عن الموقف الرسمي لكينيا". وهو كلام مردود عليه، ذلك أن رئيس البرلمان الكيني، ليس مجرد شخصية عادية في المشهد السياسي لبلاده، بل هو الرجل الثالث في هرم الدولة، ورئيس أحد أهم أعمدة النظام الديمقراطي في البلاد. كما أن اللقاء جرى داخل أروقة البرلمان بحضور مستشاريه وطاقمه الإداري، ونُشر بيانه على الحسابات الرسمية للمؤسسة التشريعية ما يُضفي الصفة المؤسسية الكاملة على موقفه.
وبدل أن يُضعف ذلك من رمزية اللقاء، فضح حجم التوتر الذي أحدثه في الرباط، التي وجدت نفسها مُحرجة أمام مشهد لا يمكن إنكاره ولا تقليص رمزيته، وهو ما يؤكد أن محاولة تشخيص موقف رئيس البرلمان لم تكن سوى اعترافا ضمنيا بخطورة الرسالة التي حملها اللقاء على الرواية المغربية الرسمية.ولم يمرّ اللقاء مرور الكرام على الصحافة المغربية. إذ سارعت وسائل إعلام رسمية ومقرّبة من المخزن، وعلى رأسها وكالة المغرب العربي للأنباء (MAP) ومواقع إلكترونية مثل "هسبريس" و"الأيام 24" و"برلمان.كوم" و"يا بلادي" إلى محاولة احتواء الصدمة النّاتجة عن التأكيد الكيني الصريح لدعم الجمهورية الصحراوية، وذلك عبر خطاب مرتبك كشف أكثر مما أخفى.فقد كان أحد أبرز ملامح التناول المغربي السعي الحثيث إلى شخصنة الموقف الكيني، من خلال الزعم بأن تصريح رئيس البرلمان موسيس ويتانغولا "لا يمثل الموقف الرسمي لكينيا"، وكأن هذا المسؤول الرفيع ـ الذي يقود أحد أهم المؤسسات الدستورية في البلاد ـ يتحدث بصفته الشخصية في مكتبه الرسمي داخل مبنى البرلمان! هذه القراءة تناقض أبسط قواعد البروتوكول السياسي، وتفضح جهلًا متعمّدًا بالبنية الدستورية والسياسية الكينية، حيث لرئيس الجمعية الوطنية دورٌ تمثيلي وسياسي وازن يوازي دور وزير الخارجية أو رئيس الحكومة في حالات معينة.
الخطاب الإعلامي المغربي وصف اللقاء بأنه "زيارة مجاملة لا تعكس تغييرًا في السياسة الخارجية"، وهي محاولة يائسة لتقليل وقع الحدث على الرأي العام المغربي والدولي، رغم أن اللقاء: تمّ في مقر البرلمان وليس في قاعة استقبال عادية، أُعقبه تصريح رسمي منشور على حسابات رئيس البرلمان الكيني وتضمّن نقاشًا معمقًا حول قضية الصحراء الغربية، وأشاد فيه ويتانغولا صراحةً بـ"حق الصحراويين في الاستقلال". هذه القراءة المتهافتة تُناقض المعايير الدبلوماسية، وتؤكد أن الطرف المغربي يعيش حالة إنكار سياسي وإعلامي للواقع المتغيّر في المواقف الإفريقية تجاه القضية الصحراوية.
وكعادتها لم تجد الصحافة المغربية، مخرجًا إلا بالعودة إلى سردية "الحكم الذاتي" كحل وحيد، وهو ما يعكس فقرًا في المخيّلة السياسية، وتجاهلًا متعمّدًا للحقائق على الأرض، وقرارات الاتحاد الإفريقي التي تعتبر الجمهورية الصحراوية عضوًا مؤسسًا كامل العضوية لا يمكن تجاوزه تحت أي مسمى، وبدل أن تعترف وسائل الإعلام المغربية بتعقيد الموقف القاري إزاء الصحراء الغربية، عادت لترويج مقولات دعائية تقليدية لا تصمد أمام الوقائع والخرائط الدبلوماسية الجديدة في القارة.
من الملاحظ أيضًا أن الصحف المغربية لم تقدّم أي تحليل مستقل أو نقاش نقدي حول دلالات الحدث. فالكل اكتفى بإعادة تدوير تصريحات "مصادر رسمية" دون تحقيق أو تحقق أو حتى إعادة صياغة، ما يكشف عن مستوى التوجيه السياسي الصارم الذي تخضع له وسائل الإعلام في دولة العدو، وخاصة في كل ما يتعلق بقضية الصحراء الغربية.
حين ينتصر الحقّ وتنكشف الدّعاية
إن استقبال رئيس البرلمان الكيني، للسفير الصحراوي بهذا المستوى من الوضوح والمساندة لا يُعد فقط موقفًا داعمًا، بل هو انتصار دبلوماسي كامل الأركان للجمهورية الصحراوية، لقاء يُعيد ضبط البوصلة السياسية ويضع حدًا نهائيًا للادعاءات المغربية، مؤكدًا أن منطق الحقّ لا يمكن طمسه، وأن إفريقيا لا تزال ـ رغم الضغوط ـ ملتزمة بدعم قضايا التحرّر العادلة. ولعلّ ما بعد لقاء 19 جوان 2025، لن يكون كما قبله في مسار التضامن الإفريقي مع نضال الشعب الصحراوي وعلامة فارقة في معركة الشرعية ضد الدعاية، وفي مواجهة التضليل المغربي المستمر الذي ما إن سمع صوتًا حرًا يدافع عن حق الشعوب حتى سارع إلى محاولة تشويهه أو عزله عن سياقه.
لكن الدبلوماسية التحرّرية، لا تُختزل في تغريدة ولا تُختطف بالضغط، فقد نطق البرلمان الكيني بموقفه السيادي وأعاد رسم حدود التضامن الإفريقي على قاعدة المبدأ لا المصلحة، أما ارتباك الرباط ومحاولة التقليل من رمزية اللقاء فلم تكن سوى اعتراف غير مباشر بأن الدعاية سقطت، وأن مزاعم دعم "الحكم الذاتي" انكشفت أمام العلن.
لقاء نيروبي لم يكن لحظة رمزية فحسب، بل أعاد التوازن للخطاب الإفريقي الرسمي بشأن الصحراء الغربية، وأكد أن دعم الجمهورية الصحراوية لا يزال حاضرًا بقوة في أروقة القرار الإفريقي. أما الارتباك المغربي فلم يكن إلا مرآة لعجز الرواية الرسمية عن تحمّل ضوء الحقيقة حين يُسلّط على مشهد مُحرج.إن ما تحقّق في البرلمان الكيني هو أكثر من زيارة دبلوماسية، إنه تأكيد على أن إفريقيا لا تزال قارة تُنجب أصواتًا حرّة، ومؤسسات تقف إلى جانب الحقّ وزعماء لا تغريهم سوق بيع المواقف.