يباع فيه القديم والجديد، سوق ”الرومبلي” بقسنطينة

معلم مميّز يأبى الاندثار

معلم مميّز يأبى الاندثار
  • القراءات: 1394
زبير. ز زبير. ز

أصبح سوق الرومبلي بقسنطينة، أسفل جسر سيدي راشد، من معالم مدينة قسنطينة؛ حيث أضحى يشكّل ديكورا مميزا بوسط المدينة، كما أصبح محط اهتمام العديد من السياح الذين يعبرون الجسر إلى الضفة الأخرى، فيقودهم الفضول إلى اكتشاف هذا المنظر، الذي يبدو في الوهلة الأولى كحركة النمل أسفل الجسر على ضفاف واد الرمال، ويستهويهم التقاط صور تذكارية لهذا السوق، الذي بات من المناظر المألوفة بعاصمة الشرق، خاصة أنه يتخذ من أحد معالم قسنطينة المشهورة، مكانا لتواجده، وأبى الزوال رغم مرور أكثر من 100 سنة على إنشائه وظهور العديد من الأسواق الحديثة، بل أصبح يضاهي في الشهرة العديد من الأسواق المحلية، على غرار سوق العاصر ورحبة الصوف وسوق الخروب.

أكّد العديد من شهود عيان تحدثت ”المساء” إليهم، أنّ عمر سوق ”الرومبلي”، يعود إلى أكثر من قرن من الوجود، حيث كشف عمي الشريف مراوني صاحب 89 سنة، أنه منذ فتح عينيه على الحياة وهو يعرف سوق الرومبلي. وقال عمي الشريف الذي امتهن الجزارة بالسويقة إبان الثورة التحريرية، إنّ هذا السوق كان يستقبل الباعة من مختلف أنحاء المدينة، ففيهم من يبيع الحطب، وفيهم من يبيع الملابس المستعملة التي تعرف إقبالا كبيرا بالنظر إلى القدرة الشرائية للجزائريين آنذاك، والتي كانت متدنية خلال سنوات الأربعينات والخمسينات في ظل المستعمر الفرنسي، مضيفا أنّ السوق كان يستقطب بالدرجة الأولى الجزائريين وبعض الفرنسيين، لكن مع اندلاع الثورة التحريرية أصبح مقتصرا فقط على الجزائريين، بسبب عزوف الفرنسيين؛ خوفا على حياتهم في ظل العمليات الفدائية التي كانت تنفَّذ من وقت إلى آخر.

وحسب عمي الشريف فإنّ السوق كان يمتد إلى غاية عمارات شارع زعبان (بومارشي سابقا)، حيث كان العديد من الباعة يقصدون السوق لعرض منتجاتهم وسلعهم، على غرار التبن الخاص بتغذية المواشي والبيض والدجاج وحتى الأغنام والمعز.

الأتربة المتراكمة.. أصل التسمية

يؤكد السيد ”العيد.ز” (72 سنة)، أنّ تسمية سوق الرومبلي مستمدة من اللغة الفرنسية من فعل ”Remplir”، بمعنى ملء. وقد أخذ هذه التسمية بسبب الأتربة التي تم وضعها في ذلك الوقت، من أجل ردم مجرى الوادي الذي كان يمتد من منطقة باردو (رحماني عاشور) عبر شارع بن بولعيد أو ما يعرف عند القسنطينيين بباب الواد، بين حديقة بن ناصر وساحة دنيا إلى أسفل حي المنية، ليعود مجددا ويصب في واد الرمال. وأكد محدثنا أنّ المنطقة وبعد ملئها بالأتربة، تحولت إلى ساحة كبيرة، وكانت تستقطب أعدادا كبيرة من سكان قسنطينة التي كانت تضم في خمسينيات القرن الماضي، حوالي 100 ألف ساكن، لتتحول إلى سوق، نزح مع الوقت ليكون أسفل جسر سيدي راشد، الذي تم تدشينه سنة 1912 بعد أربع سنوات من الأشغال.

وقال السيد العيد إنّ السوق كان يستقطب العديد من الزوار، سواء من داخل قسنطينة أو حتى من المدن المجاورة لها، وكان به كلّ ما يحتاجه المواطن البسيط؛ من أثاث وحيوانات أليفة وخردوات وآلات فلاحية صغيرة.

والد الشهيد حملاوي كان بائعا بالسوق

وأكّد السيد ”سالم.ز” (79 سنة) أنّ سوق الرومبلي من بين أقدم الأسواق الشعبية بعاصمة الشرق الجزائري، مضيفا أّنه منذ فتح عينيه على هذه الدنيا وهو يعرف هذا السوق. وقال إنّ العديد من الأشخاص من خارج قسنطينة، كانوا يقصدون هذا السوق، ويتركون أحمرتهم وبغالهم بإسطبلات كانت موجودة بمحاذاة السوق وبالمكان الموجود عليه الآن ساحة ”كركري”. وقال إنّ جلّ القسنطينيين كانوا يقصدون هذا السوق للتبضّع أو من أجل معرفة أخبار المدينة وما جاورها في ظل وجود عدد كبير من التجار المتجولين الذين كانوا مصدرا للأخبار، مضيفا أن تحوّل ساحة كركري حاليا أسفل عمارات بومرشي ”شارع بن بولعيد حاليا” إلى محطة للحافلات بعد الاستقلال، ساهم بشكل كبير، في رواج هذا السوق، في ظل اهتمام عدد كبير من قاصدي المحطة بالتبضع في السوق أو حتى التجول به. 

وحسب محدثنا فإنّ والد الشهيد دوادي سليمان المدعو ”حملاوي” والمعروف بالرجل الزئبق في الثورة، كان من التجار الذين يعرضون سلعهم بسوق ”الرومبلي”، لبيع مختلف السلع من أجل توفير لقمة العيش لأبنائه، في ظل الفقر والحرمان الذي كان يعيشه الشعب الجزائري إبان الفترة الاستعمارية.

سلع جديدة، خردوات.. وحتى النعامة دخلت السوق

المتجول في سوق ”الرومبلي” يجد ضالته في هذا المزيج من السلع بين الجديدة والقديمة والمحلية والمستوردة، حيث يجتهد التجار في الترويج لسلعهم من ألبسة مستعملة للكبار والصغار، وأوان قديمة وعلامات أصلية لـ ”ماركات” عالمية، وأشرطة نادرة أو ما يعرف بأشرطة ”الكاسيت” التي اختفت من جلّ البيوت. كما وقفت ”المساء” خلال تجوّلها بالسوق على عرض سلع لأدوات منزلية، على غرار آلات كهربائية جديدة، أغلبها ”ماركات” صينية وأخرى قديمة، قدمت من أوروبا، بالإضافة إلى الخردوات الحديدية التي يكثر عليها الطلب، وحتى هناك باعة يروّجون لروائح وأكسسوارت للتجميل بعلامات مشهورة لكنها من صنع صيني. ويجد من يتجول بالسوق كذلك أغراضا مدرسية وكتبا قديمة، تضمّ روايات لأشهر المؤلفين العالميين، كلّ هذه السلع تُعرض بأثمان مغرية وفي المتناول، حتى إن التجار الذين ألفوا عرض سلعهم بهذا السوق يحاولون جلب الزبائن؛ من خلال تأكيد أنّ سلعهم صفقة مربحة، وثمنها لا يوجد في أيّ مكان آخر.

«من كان لديه حاجة قديمة يريد بيعها ما عليه إلا التوجه إلى سوق ”الرومبلي”، هي مقولة متداولة بين القسنطينين، فهذا السوق إضافة إلى بيع مختلف السلع القديمة والجديدة والتحف النادرة خاصة النحاسية منها، يُعرف أيضا ببيع الحيوانات، خاصة العصافير التي يكثر عليها الطلب، على غرار طائر الحسون (المقنين) الذي تشهد تجارته رواجا كبيرا، وأصبح ”الرومبلي” من بين الأماكن المعروفة ببيع هذا الطائر.

كما يقصد السوق بعض الشباب المهتمين ببيع وشراء الكلاب ذات السلالة، على غرار الراعي الألماني والكلب البوليسي، وحتى القطط باتت سلعا تباع أسفل جسر سيدي راشد، خاصة منها المشهورة على غرار القط السيامي، بل حمل أحد الباعة في سيارته طائر النعام، واعتقد الناس أنه يبيعه، وعند الاستفسار أكد أنه يبيع أعشابا طبيعية وأدوية تقليدية مصنوعة من مواد طبيعية، على غرار بيض النعام وبعض أجزاء جسمه، في محاولة لإقناع الزبائن.

يغلَق في منتصف النهار والأوساخ أكبر هاجس

يشتهر سوق ”الرومبلي” بنظام توقيت خاص؛ فهو يشبه كثيرا النظام المعمول به في الأسواق الباريسية، حيث يبدأ التجار في عرض سلعهم مع الساعات الأولى للصباح. وبمجرد ظهور أوّل أشعة الشمس يغادر التجار السوق قبل حلول منتصف النهار، حيث يصبح المكان مهجورا تماما، وربما هي عادة استمدت من التجار القدماء الذين كانوا يقصدون السوق إبان المرحلة الاستعمارية وحتى في السنوات الأولى من الاستقلال، إذ يجمعون لوازمهم وسلعهم ويغادرون في وقت مبكر؛ بسبب سكنهم البعيد في ظل نقص وسائل النقل وقتها.

وكان تجار سوق ”الرومبلي” يشتهرون بحمل حقيبة فوق ظهورهم، وهي الحقيبة التي تضمّ السلع المراد بيعها، لكن مع مرور الوقت أصبح السوق يجلب إليه تجارا متنقلين، يبيعون سلعهم في سيارات نفعية، تجد ضالتها أحيانا، وأحيانا تجد الطريق المؤدي إلى السوق من جهة رحماني عاشور، مغلقا بحواجز إسمنتية بقرار من البلدية، ليعودوا خائبين من حيث أتوا.     

ورغم أنّ المكان تأثر بانتشار النفايات والأوساخ، إلاّ أنّ ذلك لم يثن التجار عن عرض سلعهم، بل أكثر من ذلك هناك من يبيع الشواء و«البيتزا”، وهم أشخاص اعتادوا على بيع المأكولات الخفيفة لقاصدي السوق من زبائن وحتى من التجار بأثمان تنافسية. وتوجد أكلة مميزة داخل هذه السوق، وهي ”سندويش” البيض المسلوق مع زيت الزيتون والتوابل الحارة، التي تلبي الغرض وتقضي على الجوع.

ظروف عمل صعبة وإصرار على البقاء

يعيش تجار سوق ”الرومبلي”، حسبما وقفت عليه ”المساء”، ظروف عمل صعبة جدا، حيث يتعرضون لأشعة الشمس صيفا، ما يجعل الكثير منهم يستعينون بشمسيات تقيهم حر الصيف، في حين يلجأ البعض للاحتماء من لفحات الشمس، إلى رفع مطريات، أو اللجوء إلى أسفل الجسر، حيث يعرضون سلعهم في الظل، كما أنّ الأمطار هي الأخرى، تكون عائقا أمام هؤلاء الباعة الذين ينشطون في الخفاء بعيدا عن أعين الرقابة.

ورغم هذه الظروف الصعبة في ظل عدم وجود مرافق ولا حتى دورات مياه، إلاّ أنّ هناك إصرارا وعزيمة من طرف باعة سوق الرومبلي، الذين بمجرد قدوم يوم جديد تجدهم يحملون سلعهم ويقصدون السوق، علهم يحصلون على رزق حلال، خاصة بالنسبة للذين لا يعملون ولا يحوزون على حرفة أو بالنسبة للوجوه التي أضحت مألوفة داخل هذا السوق من كبار السن ومن الشباب، أو حتى من بعض الأشخاص الذين يشترون سلعة وبعد مدة من استعمالها يرغبون في التخلص منها ببيعها، ولا يجدون مكانا أحسن من سوق ”الرومبلي”.

تهيئة حظيرة باردو شملت جزءا من السوق

وإذا كانت المصالح البلدية أغفلت لسنوات تهيئة هذا السوق وهمشت تجاره رغم أنهم فرضوا أنفسهم فرضا وأبوا الاندثار مقاومين كل أشكال المنافسة، وكان من الأحرى من باب المحافظة على التراث وثقافة المدينة القديمة، الالتفات إلى هذه المنطقة وتنظيفها وجعلها على الأقل تبدو جميلة كونها صورة من صور المدينة العتيقة، إلاّ أنّ تهيئة حظيرة ”باردو” الكبيرة التي جاءت في إطار مشاريع ”عاصمة الثقافة العربية 2015”، امتدت لتشمل تهيئة جزء من السوق، حيث تمّ تخطيط الطرق ووضع الأرصفة وفتح منفذ من الجهة العلوية عبر ساحة كركري، ليصبح السوق بثلاثة مداخل من جهة أسفل الجسر ومن جهة حي رحماني عاشور، ثم من جهة ساحة كركري.

ويبقى تجار هذا السوق ينتظرون استكمال عملية التهيئة إلى غاية أسفل جسر سيدي راشد، وهم يتساءلون في قرارة أنفسهم عن إمكانية تهيئة السوق على نموذج الأسواق الباريسية؛ باستمرار نشاط السوق بعد تدشين حظيرة باردو، أم أنّ المصالح البلدية ستقوم بإغلاق هذا المعلم الذي فرض نفسه طوال قرن من الزمن. 


أستاذ علم الاجتماع رشيد بوعيشي: رمزية الأسواق الشعبية تجعل الناس تتعلّق بها

في محاولة لمعرفة سبب تعلّق الناس بالأسواق الشعبية على غرار سوق ”الرومبلي” رغم عدم توفرها على ظروف التسوق المحترمة في ظل وجود أسواق حديثة بها كلّ ظروف الراحة واستقطاب الأسواق الشعبية مختلف شرائح المجتمع من أناس بسطاء وحتى إطارات في الدولة، اتصلت ”المساء” بالأستاذ الجامعي مراد بوعيشي أستاذ محاضر يحضر لمناقشة رسالة الدكتوراه مختص في علم الاجتماع بجامعة ”عبد الحميد مهري” (قسنطينة 2)، فربط تعلّق الناس بهذه الأسواق الشعبية، برمزية المكان، مؤكّدا أنّ هذا النوع من الأسواق يحمل ذكريات عند كلّ شخص. وقال إنّ هذه الأسواق تعدّ فضاء اجتماعيا قبل أن تكون تجاريا، حيث يتم فيها التلاقي، وتنتشر فيها ثقافة التبادل، ويُربط فيها علاقات نسب جديدة.

وأكد الدكتور مراد بوعيشي الذي يحضر لمناقشة رسالة دكتوراه حول الاحتجاجات في المدن، أن سوق ”الرومبلي” أصبح من رموز قسنطينة نظرا لجذوره التاريخية؛ فهو يحكي قصة وذكريات المدينة خلال حقبة زمنية ماضية، مضيفا أن مصداقية الأسواق الشعبية تجعل الإقبال عليها متواصلا؛ كونها فضاء خصبا للتواصل، وتدغدغ في الناس الشعور بالحنين إلى كل ما هو ماض ويحمل ذكريات جميلة. ويرى الأستاذ المحاضر مراد بوعيشي أنّ عفوية التجار وبساطتهم بالإضافة إلى الأسعار الرمزية للسلع، تحفّز الناس على قصد هذه الأسواق الشعبية، حيث يجدون راحتهم وسط ديكور مميز ورائحة الماضي الجميل الذي يستهوي كلّ شخص، خاصة من كبار السن.