التاريخ لن ينسى همجية الاستعمار الاستيطاني

مئات المجازر، ملايين الشهداء .. والجزائر حرّة مستقلة

 مئات المجازر، ملايين الشهداء .. والجزائر حرّة مستقلة�
  • القراءات: 7665
 جميلة.أ جميلة.أ

نقف اليوم، عند مجازر الثامن ماي، لنعود بالتاريخ إلى بداية الاحتلال الفرنسي الذي دشنه جنود المستعمر بمذبحة سطاوالي في جويلية 1830، ومذبحة البليدة على عهد الجنرال كلوزيل، ثم مذبحة العوفية  في عهد الدوق دي ريفيقو، التي كشفت طبيعة الإبادة الجماعية، كأسلوب لسياسة فرنسا في الجزائر، وتلتها مذابح كان أشهرها مذبحة غار الفراشيش على يد العقيد بليسييه، ناهيك عما اقترفه المجرم كافينياك في حق قبائل الشلف، الذي طبّق طريقة تشبه الإعدام عن طريق الاختناق، فكانت مجزرة قبائل السبيعة، ولم تنحصر عملية إبادة العنصر البشري على منطقة محددة في الجزائر، بل أصبحت هواية كل قائد عسكري فرنسي، أوكلت له مهمة بسط نفوذ فرنسا ورسالتها الحضارية حسب ادعائهم، وأفاضت مجازر ماي 45 كأس الهمجية الاستعمارية التي أتت على أزيد من تسعة ملايين شهيد على مدار قرن ونصف القرن.

هل تساءلنا يوما عن حقيقة أرقام شهدائنا؟ وهل فعلا قدمت الجزائر مليونا ونصف مليون شهيد فقط في الوقت الذي استمر فيه الاستعمار الفرنسي أزيد من قرن ونصف القرن؟، ثم من هم هؤلاء الشهداء؟، هل أولئك الذين سقطوا في ميدان الشرف منذ معارك جويلية 1830، في منطقة سطاوالي والمتيجة؟، أم أولئك الذين تمت إبادتهم في مدينة الجزائر العاصمة، حيث بقرت بطون النساء وقطعت أرجلهن من أجل خلاخلهن ومعاصمهن ومن أجل أساورهن وحتى آذانهن من أقراطهن؟، من أين نبدأ العد والجزائر لم تتوقف عن إحصاء موتاها الذين سقطوا في ميدان الشرف منذ أول شهيد سقط في أول مواجهة وهي معركة سطاوالي، إلى آخر شهيد سقط قبل ساعة الصفر بلحظات لوقف إطلاق النار في 19 مارس 1962.

 

إبادات، محرقات.. وإعدامات بالجملة

تدّعي فرنسا في تزويرها للتاريخ أنها جاءت برسالة حضارية، غير أن كل الوثائق التاريخية تؤكد وتثبت أن الحملة الفرنسية التي اجتاحت من خلالها الجزائر إنما كانت حملة عسكرية صليبية ناقمة، الغرض منها إبادة الشعب الجزائري بأكمله انطلاقا من إبادة القبائل في أراضيها مثل القبيلة التي كانت تسكن شرق العاصمة، وتحديدا بمنطقة الحراش حاليا، وهي التي كانت تضم ما لا يقل عن 20 ألف مواطن.. لتنتقل بعدها فرنسا إلى نظام المحرقات أو "الهولوكست" والذي ابتدعته قبل المحرقة النازية بأكثر من مائة سنة في مغارة الظهرة، وهي شاهد آخر على غزو استعماري ارتكب عن وعي أفظع الجرائم في حق الجزائريين من سلب وقتل جماعي لا تصنّف إلا ضمن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.

وبعد ما يقارب القرن عن مرور المحرقة تبنّت فرنسا الاستعمارية نموذجا آخر من الإبادات والتصفيات الجسدية تمثل في الإعدامات التي راح ضحيتها شهر ماي 1945، أزيد من 45 ألف شهيد ومثل هذا العدد من المفقودين ممن لم يتم إسقاطهم إلى غاية اليوم من سجلات الحالة المدنية، مما يعطي أزيد من 80 ألف شهيد فقط في أحداث 8 ماي التي استمرت قرابة الشهر من الزمن، وهو ما يؤكده المجاهد صالح قوجيل، الذي وصف الأحداث بالمهمة والفريدة من نوعها في ذلك الزمان، مضيفا أن الأحداث تخللتها إبادات وعمليات تهجير قصرية ونفي إلى مناطق مختلفة من العالم، قبل الدخول في حرب التحرير التي مكّنت أجيالا أخرى من جنرالات فرنسا من ممارسة أبشع وسائل التعذيب والقتل.

وأكد المجاهد صالح قوجيل، أن الجزائريين تعرضوا لحرب إبادة وليس إلى استعمار، بدليل تراجع عددهم بين سنة وأخرى رغم أن الجزائريين أمة "ولودة" وكثيرة النسل منذ القدم، مضيفا أن المجازر المتتالية، والتجنيد القصري لهم ساهم في اختفاء نسبة كبيرة منهم خاصة بداية القرن العشرين، وعلى هذا الأساس لم يتغير التعداد السكاني للجزائريين والذي توقف في حدود العشرة مليون نسمة عكس باقي دول المعمورة، قبل وبعد الحرب العالمية.

وفي السياق، تشير مصادر تاريخية أن فرنسا وخلال معركة الأغواط مثلا، تعمّدت ترك النساء لاستغلالهن جنسيا وإشباع حاجيات جنودها في حين أعطيت أوامر بقتل كل طفل ذكر وهو ما دفع بالنساء الأغواطيات إلى إلباس الصبيان "تنانير" وثقب آذانهم لوضع أقراط ومن هنا جاءت تسمية "العياشة" لكل رجل يحمل قرطا في أذنه، ونجحت هذه الحيلة واستمرت طويلا مما دفع بإعادة بعث الجنس الجزائري عبر العديد من القرى والقبائل التي تعرضت للإبادة.

 

أزيد من تسعة ملايين شهيد منذ 1930
إلى غاية 1962

وفي الحديث عن مجازر فرنسا وشهداء الجزائر، تشير محامية الثورة السيدة فاطمة الزهراء بن براهم، أن الأرقام المتداولة عن شهداء الثورة لا تمثل ربع الرقم الحقيقي الذي تخفيه كتب التاريخ والأرشيف الفرنسي في حد ذاته، والذي لم يفوت أية مرحلة أو حادثة تاريخية، إلا ودونها وذلك طيلة فترة تواجده بالجزائر فالشهداء هم أكثر من ثلث الشعب الجزائري الذين سقطوا من أجل افتكاك الحرية، بحيث لم يكن يمر شهر على تواجد فرنسا إلا وسقط فيها ما لا يقل عن 1000 شهيد خلال معارك أو إبادات واعتقالات ثم إعدامات وغيرها...

واستنادا إلى سلسلة من المعارك غير المتكافئة والإبادات الجماعية فقد اعتبرت المحامية فاطمة بن براهم، أن فرنسا الاستعمارية من أكبر الجناة كونها لم تكتف بإصدار أحكام بالإعدام ضد المجاهدين الجزائريين خلال سنوات حرب التحرير السبعة، بل لأنها استعملت "الإعدام" من سنة 1830 إلى 1962 كوسيلة حرب ضد الثوار الجزائريين الذين كانوا يطالبون بالحرية والاستقلال، وإنها اتبعت سياسة إبادية لا استعمارية لأن الغرض الأسمى لها هو مسح الشعب الجزائري والقبائل المنتشرة على أراضيه، واستبداله بأجناس مختلفة يتم استحضارها من أوروبا وهي عبارة عن خليط من الإيطاليين والإسبان والبرتغاليين بالإضافة إلى الفرنسيين...

 

53 سنة بعد الاستقلال.. جنرالات فرنسا وضباطها يعترفون..

إن العقلية العسكرية للجيش الفرنسي قد غلبت عليها النزعة العدوانية الوحشية، إلى درجة أن القائد السفّاح مونتانيك،  أطلقها على جنوده صفة شبه رسمية، وهي مشاة الموت، وافتخر سانت أرنو، في رسائله بأنه محا من الوجود عدة قرى وأقام في طريقه جبالا من جثث القتلى، كما أن كبار الضباط والمؤرخين كانوا يطلقون على طوابير التخريب التي سلطها بيجو على الجزائر، تسمية شبه رسمية وهي الطوابير الجهنمية، ولما لام البرلمان الفرنسي الجنرال بيجو، عن الجرائم التي مارسها ضباطه وجنوده على الجزائر، رد على وزير حربيته قائلا "وأنا أرى بأن مراعاة القواعد الإنسانية تجعل الحرب في إفريقيا تمتد إلى ما لا نهاية.

ولم يهدأ ضمير جنرالات فرنسا وجنودها الذين ارتكبوا في حق الجزائريين أبشع الجرائم وأشنعها فراح يؤنّب السفّاحين والمجرمين في آخر أيامهم ليشرعوا في اعترافات تاريخية عفوية كشفت عن أعداد إضافية من الشهداء آخرها شهادة الجندي الفرنسي كلواراك، واعترافاته بارتكابه لجرائم قتل نزولا عند أوامر بيجار، وقد عبّر كلواراك، عن استعداده لتقديم وثائق وشهادته الشخصية عن كل ما تم اقترافه خلال فترة تواجده بالجزائر، تحت إمرة عدد من الجنرالات والضباط الفرنسيين.

وتضاف إلى هذه الشهادة اعترافات أخرى بعث بها أحد الجنود إلى الجنرال شميث، والتي تحصلت عليها بن براهم، أواخر سنة 2007، ويعترف الضابط الفرنسي باقترافه جريمة قتل في حق 92 جزائريا مع تحديد أماكن دفنهم وطرق تعذيبهم، مضيفا أن الجرائم التي ارتكبها كانت بأوامر من مسؤولين سامين في الدولة ولا يمكن تعداد جرائم فرنسا في حق الجزائر والجزائريين ـ تضيف السيدة بن براهم ـ لأن فرنسا لم ولن تتخلى عن الجزائر" وآخر جرائمها هي تمجيد الفكر الاستعماري وهي أصعب من الاحتلال ذاته.· 

وتشير المحامية بن براهم، أنه ومنذ الاستقلال وإلى يومنا هذا ما لا يقل عن 50 جنرالا وضابطا وجنديا فرنسيا قدموا اعترافاتهم وشهاداتهم عن الثورة التحريرية أمثال بيجو، لاطماك تيليسيي.. مدعومة بوثائق رسمية تقر بجميع الممارسات التي قام بها جنود الاستعمار الفرنسي وقادته منذ 1830، وإلى غاية 1962 وكيف أن فرنسا لم تتردد ومنذ الساعات الأولى من تواجدها ببلادنا في استعمال أبشع الوسائل وحتى أكثرها تطورا انطلاقا من المدفعية وصولا إلى المواد الكيماوية كتلك التي استعملت في معركة الأغواط سنة 1852، وصولا إلى التجارب النووية بالصحراء الجزائرية.

وتشير التقارير الرسمية الفرنسية إلى أن فرنسا استعدت جيدا لمعركة الأغواط  بقيادة بوسكارين ولادمير وماريموش وجوسيف برايسي، هذا الأخير، أرسل أربع من الجنود ينذر سكان الأغواط بتسليم المدينة، فأقسموا أن يموتوا تحت أسوارها، فقتلوا جنديين من الأربعة وبتاريخ 04 ديسمبر 1852، تحالف الجنرالات الثالثة، وتم إعلان حالة الاستنفار في شمال الجزائر لضرب الأغواط بحشود عسكرية قدرت بـ7375 عسكري وسقطت المدينة بتاريخ 04 ديسمبر 1852، باستشهاد ثلثي السكان "2500 شهيد" من أصل 3500 ساكن وبقيت الجثث لمدة تفوق 06 أشهر قبل دفنها حتى دفنت كلها ورمت فرنسا ما يقارب 256 جثة في آبار وتم حرق ما تبقى منهم وهم أحياء. كما تشير نفس التقارير إلى أن فرنسا أجرت في الأغواط أول تجربة لسلاح المدفعية بمادة كيماوية في مدينة الأغواط في 04 ديسمبر 1852، على الساعة 07 صباحا بالهجوم بمدفعية بوضع مادة في ذخيرة المدفع وهي "الكلورفوروم" تؤدي إلى تنويم الناس وشل أعضائهم بتأثيره على نشاط الدماغ، وبعد ذلك تم وضعهم في أكياس وحرقهم أحياءً وهم مخدرون حسبما جاء في تقرير أوكسينال بودانوس الذي بعث به إلى قيادة الأركان الفرنسية للماريشال فيالاتيه، بخصوص التجربة الكيماوية والتقرير جاء في 60 صفحة كتب سنة 1853.

 

المقاومة والثورة في مواجهة الحرب والاستيطان

إن أساليب الاستعمار الفرنسي الوحشية التي كان يمارسها على الجزائريين لم تتغير ولم تنقص مثقال ذرة طيلة سنوات الاحتلال، حتى أصبح يشك في وجود شيء اسمه الإنسانية، وسجل التاريخ صفحات مخزية من انحطاط خلقي وأدبي وإنساني كتبت بأقلام قادة وجلادي الاستعمار الفرنسي.. وخلال قرن ونصف القرن من التواجد الاستعماري الفرنسي بالجزائر كاد الشعب الجزائري الموزع في شكل قبائل أن يبيد عن بكرة أبيه من خلال تبنّي فرنسا لسياسة استعمارية إبادية من جهة واستيطانية من جهة أخرى.

وارتكبت فرنسا مئات المجازر الجماعية، من التقتيل الفردي والعشوائي، حيث  استعانت بعدة وسائل وقوانين عقابية تتعارض مع القوانين الدولية وحتى الفرنسية، أطلقت عليها اسم القوانين الخاصة، كما أطلق أحد الجنرالات الفرنسيين المسمى "Bugeaud" سياسة الأرض المحروقة وحرب الإبادة على مشروع همجي لإنهاء الوجود الجزائري بكل الطرق.

وعلى هذا الأساس  عبّرت الأستاذة بن براهم، عن رفضها لاستعمال فرنسا لكلمة "حرب" عندما تتحدث عن الثورة الجزائرية، مشيرة إلى أن هذه الكلمة مقصودة تهدف من خلالها السلطات الفرنسية للتهرب من مسؤولياتها التاريخية لأن ارتكاب جرائم في حرب أخف من ارتكاب جرائم ضد ثورة لأن فرنسا-تضيف- ارتكبت جرائم ضد ثورة خرج فيها مجاهدون بسيوف وببنادق تقليدية للدفاع عن حقهم وليس لحرب فعل فيها الطرفان نفس الشئ.. لأن الحرب- تقول المحامية- تكون بجيش معترف به ويملك نفس أسلحة العدو، أما المقاومات الشعبية وجبهة التحرير الوطني فلم يكن معترفا بها آنذاك، ولم تكن تملك نفس أسلحة الجيش الفرنسي الذي كان يمثل قوة عالمية.