«مسجد المدرسة» بأعالي بلوزداد

صرح صان الهوية الوطنية

صرح صان الهوية الوطنية
  • القراءات: 2808
 مريم.ن مريم.ن

تمتد عبر حي بلوزداد العتيق تفاصيل التاريخ الذي وقعه أبطال ورجال دين وهبوا حياتهم لخدمة الجزائر، لكن رغم كل ما كان من أمجاد لا يزال هذا التاريخ مغمورا لا تدركه العامة خاصة من جيل الشباب.. هنا بحي بلكور وبـ«عقيبته» يرقد التاريخ عبر النوادي والمقاهي والمساجد وغيرها ليحكي عن أحداث مرت وعن أجيال توالت.

توقفت «المساء» بمسجد «المدرسة» بأعالي بلكور الذي كان يدرس فيه العلامة الشهيد العربي تبسي، حيث كان يزرع الوعي الوطني إلى أن تم اعتقاله.

يدخل الزائر إلى المسجد وفي نفسه شيء من الرهبة، حيث تتزاحم الجدران والفناءات لتشهد على رجال مروا وتركوا أمجادا، وفيه التقت «المساء» بإمامه الشيخ عبد الحق شباط الذي أكد أن الشيخ أحمد حفيظ كان أول إمام للمسجد، وقد سمي بعدها باسمه وسمي بمسجد المدرسة،  إذ كان به مدرسة.

تبليغ رسالة الإسلام السمحة

يذكر المتحدث أن من بين أهل بلكور المساهمين في المسجد، نجد بن عدودة وعائلة بوحصان، وبعد الاستقلال تداول عليه كبار العلماء منهم الشيخ الزبير مفتي الرئيس الراحل هواري بومدين، ولا يزال المسجد حريصا على تبليغ رسالة الإسلام السمحة وتعليم القرآن الكريم للبنين والبنات. كما يشد المسجد المارة من خارج الحي، حيث يدخله كل من يمر بجانبه، لذلك قال الإمام «يقع المسجد بجانب عيادة نصيرة نونو المعروفة،  بالتالي فإن الوافدين على العيادة للزيارة غالبا ما يأتون للصلاة ويقولون بأنهم يجدون راحة نفسية كبيرة». وهنا أكد المتحدث أن المساجد برجالها وتاريخها وليس بجدرانها، مستشهدا بالمسجد الأخضر بقسنطينة الذي كان متواضعا لكن قيمته كبيرة بفضل شيخه ابن باديس.

ولد الشيخ أحمد حفيظ عام 1899 في بلدة «أمدّوكال» بباتنة، وقد عاش حياته الزوجية من دون أبناء، وفي سن مُبكّرة باشر في تعلُّم القرآن كاملا في زاوية جده «سيدي عبد الحفيظ» المتواجدة في «أمدّوكال. تابع دراسته في مدينة «بريكة»، كما واصل مختلف المناهج الدراسية بمدينة قسنطينة وفي جامع الزيتونة بتونس.

كان مُتواجدا بالجزائر (العاصمة) خلال الاحتفالات الكبرى الّتي أقيمت عام 1930 من أجل إحياء الذكرى المائة لاستعمار الجزائر، تلك الذكرى التي احتفل بها المُتطرفون بكل زهو ووقاحة واستفزاز، وفيها تمّ تهديد وبشكل علني الهوية العربية الإسلامية للجزائريين على يد أنصار الجزائر فرنسية، وقد عمدوا إلى إظهار رضاهم بكل صراحة عن كونهم تسبّبوا في انتكاس وتأخر اللغة العربية والإسلام، كذلك عزمهم على مواصلة سياسة «التثاقف».

و كان قد كتب رئيس تحرير صحيفة «لونيفير» (ل. فييّو) وهو عضو في الكاثوليكية، ويُعد أيضا كاتبا صحفيا عنيدا، يقول: «لقد حلت الأيام الأخيرة للإسلام، وفي غضون عشرين عاما لن يكون للجزائر إله آخر إلاّ المسيح وحده، ولن يُصبح العرب فرنسيين إلا باعتناقهم المسيحية».

الوجه الآخر لمقاومة أبناء بلكور

ضمن البرنامج الّذي وضعته جمعية العلماء حيز التنفيذ، والمرتكز على المُبادرة وتعزيز بناء مساجد ومدارس،  والتي كان يتمثل هدفها الأوّل والعاجل في التعليم الصحيح للدين الإسلامي.

وبناء على تعليمات جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وتحديا لتصريحات الاستعمار الفرنسي، فتح الشّيخ أحمد حفيظ عام 1934 مدرسة «السعادة» وهي مُتواجدة بشارع «كومبري» (نهج شعال حاليا) في مرتفعات حي «العقيبة»، غير أن ذلك لم يكن بالأمر السهل، لأن إدارة المُعمّر فرضت شروطا صارمة، منها أن المدرسة لا تستقبل أكثر من عشرين (20) تلميذا، ولا تفتح أبوابها إلا في أيام الخميس والأحد، أي  في عطلة نهاية الأسبوع وكذا عطلة الصيف التي كانت مدتها ثلاثة أشهر.

وقد عمد الشّيخ إلى تفادي هذا الضغط بكل وضوح من خلال تشكيل مجموعات تشمل عشرين تلميذا، مقسمة على وقت النهار كاملا في عام 1937، عينته مرة أخرى جمعية العلماء المسلمين الجزائريين مسؤولا عن لجنة التعليم عبر كامل محافظة الجزائر العاصمة.

وفي نفس العام أيضا، قام أحمد حفيظ بفتح مدرسة ثانية سماها «مدرسة التّهذيب»، وهي متواجدة في زقاق «مورييه» (طريق التّوت) ببلكور، وتحمل الرقم (20)؛ وقد تم الشروع في تدريس المواد الأساسيّة في هذه المدرسة ذات التنظيم الجيّد، وتدرس القرآن الكريم والدين، القواعد واللغة العربية، الإنشاء والخط، الحساب والهندسة، الإملاء والقراءة، التاريخ والجغرافيا. وكان الشّيخ أحمد حفيظ يستقبل في هذه المدرسة الشّيخ بشير الإبراهيمي الذي أصبح خلال تلك الفترة رئيسا لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين بعد وفاة الشيخ عبد الحميد بن باديس عام 1940.

وتوجد هناك صور للإبراهيمي بالمدرسة وفي أثناء هذه اللّقاءات، اِتُّخذ قرار بناء المسجد الّذي يحمل في الوقت الحاضر اِسم أحمد حفيظ.                                              

شارك الإبراهيمي بنشاط في عمليّة تشييده، بالإضافة إلى كونه الإمام الأول لهذا المسجد في تلك الفترة.

يقع مسجد أحمد حفيظ الذي شُرع بناؤه في شهر أفريل عام 1947 في مرتفعات حي بلكور، وهي ناحية ذات كثافة عالية من الأوروبيين واليهود آنذاك، وعلى بعد يقل عن خمس مائة متر بالنسبة لمعبد يهودي (حاليا مسجد صلاح الدين الأيوبي)، وكذلك الكنيسة (حاليا مسجد سيف الله)؛ إذ ينتصب بعظمة ويُشعّ في جميع ضواحي بلكور.

مسجد أحمد حفيظ هو جوهرة الهندسة المعماريّة العربية الإسلامية، وهو في غاية البساطة، كما يُعدّ تجسيدا لإرادة السّكان المسلمين في هذا الحيّ الكبير.

بالإضافة إلى ذلك، وبناء على نصيحة الشّيخ بشير الإبراهيمي التي كانت بمثابة تنبيه، فإن المسجد وكلّ ما يتبعه من المنزل، الحمام، الأرض والمدرسة قد تم وقفهُ (حبسهُ) وفقا لمذهب مالك بن أنس رضي اللّه عنه، من أجل منفعة تقتصر على طائفة المسلمين المُقيمين أو الذين يعيشون في حي بلكور ومما جاء فيه:

«أمام الأستاذ شنظارلي إبراهيم سليمان بن محمّد، قاضي محكمة الجزائر، أشهد المشترون (المحبوسون طوعا وبكامل قواهم العقليّة على أنّهم حبسوا وأوقفوا وكرسوا إلى الأبد في سبيل الله تعالى ما يمتلكونه (فيلا مريم، وقطعة الأرض التّابعة لها)، لأجل المنفعة التي تقتصر على طائفة المسلمين الذين يعيشون أو يُقيمون في حي بلكور، قصد إقامة مسجد حر، أين يتم فيه أداء الصلوات اليومية وصلاة الجمعة ومدرسة يتمّ فيها تعليم اللغة الوطنيّة لفائدة الأطفال المسلمين من الفتية والفتيات».

لقد كرّس أحمد حفيظ حياته للمعرفة، ورغم كونه لم يُرزق بأبناء من صُلبه، فقد اعتبر جميع الأطفال الذين كانوا يتدفقون لطلب العلم كأبناء له. وبعد حياة حافلة كُرّست لأجل تعليم المسلمين، انتقل الشّيخ أحمد حفيظ إلى جوار ربه يوم 09 فيفري من عام 1960 مُحاط بعائلته وذويه، وقد بكاه أولئك الذين كانوا تلاميذه وطُلاّبه؛ ويرقد جثمانه بمقبرة «سيدي أمحمد» في بلكور، وقام يومها الشّيخ عبد اللطيف سلطاني بتأبينه بحضور حشد كبير من النّاس وهم مُتأثّرون، وقد جاءوا للإشادة بإمامهم ومُرافقته إلى قبره. وكان من بين ذلك الحشد يهوديّ حضر وهو يبكي مدرارا، فقد كان الطبيب المُعالج للشّيخ وفقا لشهادة الأقارب، وغالبا ما كان يطلب من مريضه أن يُعلّمه القرآن الكريم.

ذكرى معطرة بسيرة الشهيد العربي التبسي

ارتبط هذا المكان العزيز على أهل بلكور بالشيخ الشهيد العربي تبسي  الذي قال عنه رفيقه في جمعية العلماء توفيق المدني «كان الشيخ العربي بطلا من أبطال الجزائر والإسلام، وكان مجاهدا ومثالا حيا للنضال الإسلامي الخالص التريه، ولم يكن لديه طمع في الدنيا على الإطلاق، وكان لا يقصد في جهاده إلا وجه االله وإخراج الوطن من الظلمات إلى النور، وكان عالما غزير العلم لاسيما في الفقه الإسلامي، وكان راوية لفقه مالك، ولا أرى أن هناك في العالم العربي من يجاريه في هذا المضمار... وكانت دروسه في التفسير نادرة»، وقال عنه العلامة ابن باديس «إن الأستاذ العربي ابن الزيتونة، والأزهر مشارك مشاركة قوية في علوم الشريعة والآداب، ذكي الفؤاد، صحيح الفكر والعلم، فصيح اللسان، محجاج قوي الحجة، حلو العبارة... شديد الحب لدينه ووطنه، شديد في الدفاع عنهما.»

انتقل الشيخ التبسي بأسرته واستقر ببلكور لتولي العديد من المهام، على رأسها إدارة مكتب جمعية العلماء المسلمين، بعدما رحل رئيسها الشيخ البشير الإبراهيمي إلى المشرق، إضافة إلى المدارس والنوادي والمساجد المنتشرة في أنحاء الجزائر والتي كانت تحت إشراف الجمعية، وواصل دروسه في التفسير والوعظ والإرشاد بحي بلكور، يلمح إلى وجوب الجهاد، ويدعو إلى تأييد الثورة المسلحة قصد تحرير الجزائر.

جاءت أسرة الشيخ إلى هذا الحي في أكتوبر سنة 1956 وأقامت بفيلا مريم (حي سرجان بوكلان) وراء المسجد، حولت إلى حبوس وهي تابعة للمسجد، ومنها تم اختطافه وهو مريض، ثم قتله في أفريل 1957.

جلب الشيخ أكفأ المعلمين وأغلبهم من خريجي الزيتزنة وكان يعلم أبناء العاصمة ويبث فيهم الوعي الوطني، كما كان مدعما من جبهة التحرير وتعامل كثيرا مع المناضل مسعود محي الدين.

كما استقبلت المدرسة التلاميذ الذين غادروا مقاعد الدراسة في 19 ماي 1956، وكان بها أقسام بمستويات علمية وتدرس بها كل المواد، إضافة لقسم تعليم القرآن. وقد تأثرت المدرسة باستشهاده وغادر منها التلاميذ وبقي من يتعلم العربية وتقلص التوقيت ليقتصر على نهاية الأسبوع والعطل .

مسجد المدرسة اليوم يحمل كل هذا الإرث الوطني وله مكانة خاصة عند الناس لأنه جزء من تراث ونضال العاصمة، كما يرتبط بمقام الشهيد العربي تبسي، لذلك سارع سكان بلكور في السنوات الأولى للاستقلال بتحويل كنيسة الحامة إلى مسجد وأعطوه اسم الشهيد العربي تبسي كعرفان لما قدمه لهم، ليصبح هذا المسجد منارة للعلم والدين وزاره العديد من المشايخ، منهم عبد الرحمان الجيلالي والإمام محمد الشعراوي وغيرهما. كما كان حصنا للوحدة الوطنية ووقف ضد كل التيارات الدخيلة على ديننا السمح، حسبما قاله بعض المصلين، ومنهم الإمام السابق له الشيخ إسماعيل.