"يوميات إداريٍّ بمنطقة باليسترو"

حقائق من أرض المعركة

حقائق من أرض المعركة
  • القراءات: 2171
نور الهدى بوطيبة نور الهدى بوطيبة
يُعد هذا الكتاب الذي خلّفه الإداري الفرنسي جون نويل وحازت "المساء" على نسخة منه، ذخيرة تاريخية وثراء للشعب الجزائري ومصدرا لأبحاثه، وهو يوميات كرونولوجية بعنوان "يوميات إداريّ بمنطقة باليسترو"، يروي من خلالها بعض التفاصيل التي عاشها داخل المكتب الثاني "لاصاص" بمنطقة الأخضرية ـ "باليسترو" سابقا ـ خلال الفترة الممتدة ما بين 1956 و1957.
إن محاولة كتابة مقالات تاريخية ليست بالأمر الهيّن؛ فهي أمانة ننقلها بأقلامنا حول ما عاشه من ضحوا بحياتهم من أجل استقلال بلدهم الحبيب، والذين صبروا على طغيان وبشاعة المستعمر الفرنسي، الذي مارس مختلف أساليب التعذيب والتخريب الوحشية.
وقد قطعت كتابة تاريخ الثورة الجزائرية أشواطا واسعة؛ مما جعل بعض الحقائق تُرصد لتعيد رسم الصورة الحقيقية التي عاشها الشعب الجزائري خلال تلك الفترة، وهذا كان نتيجة عوامل كثيرة، منها دمقرطة الحياة السياسية، وازدياد الوعي بأهمية التاريخ لدى المهتمين بالبحث وجمع الحقائق، وثمرةَ اهتمام وحرص الجهات الوصية، منها وزارة المجاهدين، بالموضوع؛ حيث سعت لتوفير الوثائق، وساعدت على خروجها من رفوف السرية إلى دور النشر والإعلام، لتكتمل الذخيرة التاريخية للثورة جمعا وكتابة وتدوينا.
أمام أيدينا كتاب لم يضعه مؤلفه للنشر، وإنما كانت رسالة كتبها على شكل يوميات لصديقه المقرب "جون ازولاي"، تفاصيل نقلها له يوما بعد يوم حول الأحداث التي كان جزء منها في منطقة الأخضرية. ويُعد هذا الكتاب نادرا، جاء ليضفي ثراء على مكتبتنا التاريخية، ليبقى مرجعا للباحثين حول حقيقة نقلها المؤلف بتلقائية عن بشاعة المستعمر الفرنسي.
وكان الكتاب الذي يضم مائة وثلاث صفحات، ردا على سؤال صديقه ازولاي، الذي قال له: "ماذا يحدث في الجزائر؟؟"...
ميزة هذا الكتاب أن صاحبه أدلى بشهادته ومشاهداته والأفعال التي قام بها في حينها؛ أي وقت وقوعها، ولم ينتظر سنوات ليدلي بها بعد أن وضعت الحرب أوزارها، مثلما فعل الكثيرون؛ مما يعطي لهذا الكتاب مصداقية أكثر؛ لأنه كُتب من قلب الحدث واللهيب مشتعل والصراع قائم والحرب جارية دون هوادة..
هذا الضابط قضى 8 أشهر وسط منطقة ساخنة ضمن مناطق الولاية الرابعة، في منطقة سي لخضر، الشهيد الذي "دوّخ" فرنسا وأثار حيرتها..
يرسم لنا صاحب المذكرات صورة دقيقة عن وقائع الثورة بكل تفاصيلها؛ قسوتها وشدتها في قرى الجزائر ومدنها، على أساس أن الثورة كانت شاملة وعنيفة. وينقل لنا على مدى ثمانية شهور عمل فيها كمسؤول على مكتب "لاصاص" في الأخضرية (باليسترو) PALESTRO، أن المجاهدين كانوا على الأقل في هذه المنطقة يبادرون بالهجوم، وكانت القوات الفرنسية تضطر اضطرارا للرد.. فلا يكاد يمر يوم واحد بدون أن يوقّع المجاهدون والفدائيون عملا ثوريا ما، وكمثال على ذلك، سجل صاحب اليوميات حوادث متتالية طوال شهر جانفي من سنة 1957، من بدايته إلى نهايته.
يعترف الكاتب في البداية بأن الصفحات التي دوّنها لم تكن موجهة أصلا للنشر، وأنه جاء إلى الجزائر وهو معجب "بغاندي" وبفلسفته الداعية إلى "اللاعنف"، متسلحا، كمثقف، بسلاح خبير نفساني؛ في محاولة "ترويض" الجزائريين والقبول بمهمة تمدينهم؛ فقد ذكر في صفحة 103، أنه كان مقتنعا جدا بالمهمة الحضارية لفرنسا في الجزائر.
حرب شاملة..
كان يترقب؛ باعتباره ضابطا ومثقفا وسياسيا متورطا في الحرب الاستعمارية ضد الجزائر، ما سيخرج من القاهرة، فيكتب يوم 6 سبتمبر أن الصمت مازال مطبقا حول محادثات القاهرة، التي دخلت مرحلة الحسم مع زيادة في كثافة الانفجارات التي تحدث في جميع أنحاء الجزائر، وهو يشير، بذلك، إلى بداية العدوان الثلاثي على مصر.
وأكد في مقام آخر أنه لا يستطيع أن يمتنع عن التفكير في الجملة التي قالها "روبير لاكوست" (ROBERT LACOSTE)، وهي أن "الجزائر لن تضيع من أيدينا في الجزائر"، ويقصد، بذلك طبعا، أن ما يحرك الجزائريين يأتي من الخارج؛ أي من مصر وموسكو وبكين.
ولما كان شديد الاهتمام بكل صغيرة وكبيرة مما يدور في الجزائر، سجل المؤلف يوم 26 سبتمبر، موقف عبد الرحمان فارس رئيس الجمعية الجزائرية السابق، باستغراب، حينما ندّد هذا الأخير بعمليات "التهدئة"، وصرح بأن الوقت قد حان للتفاوض مع جبهة التحرير الوطني، وسبب هذا الاستغراب هو أن عبد الرحمن فارس كان يُعد صديقا لفرنسا.
ويكشف لنا الكاتب أن الحكومة الفرنسية كانت تعيش حالة من الخوف من النقاش الذي سيجري داخل أروقة الأمم المتحدة حول القضية الجزائرية، كما لا يفوته التحاق المحامي "شكال" بالوفد الفرنسي، ليدافع عن وجهة نظر فرنسا حول البقاء في الجزائر.
فضيحة.. وفشل
لم يغفل ضابط "لاصاص" باعتباره خبيرا نفسانيا، العلاقات الاجتماعية السائدة في الجزائر المستعمرة، فيقول، مثلا في الصفحة 34 من الكتاب، "إن كراهية صماء ـ حسب تعبيره ـ كانت تميّز العلاقات الإنسانية، وكان كل فرد من "قاطني" الجزائر يبحث عن سبب لكره الآخر؛ فالمعمر مكروه من الجميع؛ حيث يرى الليبيراليون أنه يستحوذ على جميع الامتيازات، وهذا غير مقبول، في حين يرى الضابط والإداري في المعمّر غباء وأنانية وعدم الشعور والإحساس، مع أن المعمر يعيش، حسب المؤلف، مأساة حقيقية؛ حيث تتعرض مزارع البرتقال والكروم دوما للتخريب من طرف الفدائيين، ويصعب عليه بيع أراضيه، والكثير من هؤلاء عادوا إلى فرنسا بحثا عن وضعية مهما كانت متواضعة. أما مأساة الجزائريين الحقيقية، فقال عنها جون نويل إن الكثير منهم يبكون داخل مكاتبهم من شدة ألم الوضع الذي يعيشونه.
وكان المؤلف كإداري، يوقّع في اليوم الواحد على حوالي 500 وثيقة هوية؛ كي يتسنى لشباب باليسترو الانتقال إلى سهل متيجة، لعرض قوة عملهم في جني ثمار مزارع المعمرين.
ويسجل لنا الكاتب في الفاتح سبتمبر، صورة قاتمة لا تُحتمل في نظره، وهي قيام مئات "الفلاقة" بإجبار مئات المسلمين على تخريب بساتين المعمرين، ليقوم الجيش الفرنسي بعدها، بضرب حصار على المنطقة؛ في محاولة القبض على الفاعلين، لكن دون أن يفلح ـ في أكثر الأحيان ـ في القبض على أحد، وهذا ما كان يجعل الجيش الفرنسي يعتقل المدنيين ممن يشتبه فيهم، ويعرّضهم لأقصى أنواع التعذيب.
حيلٌ لم تُجدِ
لقد طوّر الجيش الفرنسي من أساليب مواجهة ثوار جبهة التحرير الوطني، وحاول أن يتكيف مع مستجدات الأوضاع، فيذكر لنا المؤلف أن العسكر كان يلبس زيّ جيش التحرير الوطني تماما، وكان عليهم حمل "شارات" تتغير ألوانها كل يوم حسب مقتضيات الوضع، وبناء على أوامر تتغير من يوم إلى آخر، ويتنقلون مرة على الشاحنات، ومرة سيرا على الأقدام، في محاولات روتينية مرهقة لتأمين السكان الأوربيين والحيلولة دون وقوع العمليات الفدائية.
وكشف الإداري الفرنسي أسلوبا آخر لجأت إليه فرنسا في محاولة القضاء على الثورة، وهو تجنيد عدد من الجزائريين تطلق عليه اسم "الجماعة"، للقيام بعملية الحراسة والمراقبة، مع الإبقاء على أسمائهم سرية؛ خوفا من انتقام الجبهة منهم (في الصفحة 52). وكانت السلطات الاستعمارية تفرض في فصل الشتاء حظر التجوال ابتداء من الساعة السادسة والربع مساء. والحقيقة أن هذه الإجراءات كانت ترمي إلى الحد من الأعمال الفدائية.
الواقع أن الجزائر تحولت على سعتها إلى ميدان حرب، ويصف ممارسات الجيش الفرنسي الذي يحاصر القرى ويراقب كل حركة، ويشتبه في كل إنسان... وامتدت ممارسته إلى مداهمة البيوت ليلا. ويقول في هذا المقام إنه من النادر أن يداهم الجيش الفرنسي بيتا من بيوت المسلمين ولا يجدون مذياعا، وكان جون نويل من قوة ملاحظته، يقرأ الثورة في عيون الشباب.
لقد فضح الكاتب نفسه دون أن يدري حينما كتب ليلة 11 ديسمبر قائلا: "لقد جاءني ضابط بزي مدني يعمل مع "لاكوست"، ليستطلع الوضع في باليسترو، فقلت له: "إن معنويات سكان البلدة قد تأثرت بسبب تصريحات "لاكوست"، التي قال فيها (إننا انتصرنا في معركتنا العسكرية). وقلت لمبعوث هذا الأخير إن الجزء الجنوبي من البلدة يوجد تحت سيطرة المتمردين ما عدا "دوّارين" هما تحت مراقبة الحركة الوطنية الجزائرية "المصالية"، وإن ضباط "لاصاص" لا يعملون في شمال البلدة سوى لمحاولة الوقوف ضد تأثير ونفوذ الخارجين عن القانون؛ بمعنى أن جهود هذا الضابط الذي يُعد خبيرا نفسانيا، ذهبت في مهب الريح.
بعد مرور بضعة أشهر من تواجد نويل بمنطقة باليسترو، بالضبط يوم 25 جانفي، عبّر المؤلف عن نفاد صبره بعد تأزم الوضع بالمنطقة؛ حيث قال: "لا يسعني انتظار موعد تحويلي من المنطقة؛ فلقد تعبت من لؤم الإنسان وتفاهته في آن واحد، ومللتُ من إراقة الدماء التي بلّدت مشاعرنا وحاصرت وجودنا".
ولم ينقض يوم واحد من الحالة النفسية التي كان يتخبط فيها الإداري نويل بسبب المشاهد الشنيعة التي مرت عليه يوما بعد يوم؛ أي في 26 جانفي، انفجرت ثلاث قنابل بشارع ميشلي بالعاصمة، وفي أقل من خمس دقائق فقط،  داخل ثلاث مقاهي "أوتوماتيك"، "كافيتيريا" و«كوك هاردي"، كان ضحاياها خمسون شخصا، توفيت خلالها ثلاث أوروبيات، حسبما أعلنت عنه الصحف بعناوين بارزة، وأدت إلى اضطرابات كبيرة في حركة المرور بوسط المدينة.
وواصل المؤلف سرده للوقائع قائلا: "هنا في باليسترو تناغمت صفارات الإنذار المتواصلة لساعات طويلة، معلنة عن وقوع حادث في مستشفى، حيث أسرعتُ مستعينا بسيارتي الخاصة إلى عين المكان، لأجد "موخازني" ملقى على الأرض وسط بركة من الدماء، ووسط هذه الدماء بقعة بيضاء، سرعان ما أدركت أنها جزء من مخه.. وكان ذلك اليوم يوم زيارات، شوهد فيه دخول غريب إلى غرفة المخازني، ليقتله ويفر إلى جبل مجاور للمستشفى، لينطلق وراءه العسكر في محاولة منهم للقبض عليه، لكن دون جدوى.
بعد تلك العمليات اشتدت مخاوف العسكر من عمليات فدائية جديدة في اليوم الموالي، إلى جانب إضراب شامل؛ ما جعلهم يضعون خططا وقائية للتصدي للوضع مع تشديد الحراسة ليلا ونهارا.
ويروي كشاهد وفاعل وقائع إضراب الثمانية أيام الذي أمرت به جبهة التحرير الوطني، فيقول: "إن الإضراب كان كاملا وشاملا منذ الساعة الثامنة من صباح يوم 28 جانفي، ونزل العسكر بكثافة إلى الشوارع لحمل التجار على العمل وكانوا يحطّمون أبواب المحلات التي كان يرفض أصحابها فتحها، وإجبار الموظفين على الالتحاق بالإدارات والمؤسسات.
أما جون نويل الذي كان موظف "لاصاص"، فقد تكفّل بإجبار سائقي الحافلات على العمل. ويروي لنا أن هؤلاء ذهبوا فعلا من الأخضرية إلى العاصمة ذهابا وإيابا دون أي مسافر. وسجل أن أحد السائقين قال له: "لقد قطعت المسافة بين الأخضرية والعاصمة دون أن أصادف حشرة واحدة"، على حد تعبيره.
كما تغيَّب عدد كبير من تلاميذ المدارس في هذا اليوم، وقال إنه طلب قائمة بأسماء المتغيبين، مقترحا منع المنح العائلية عنهم، مسجلا باستغراب موقف الإذاعة الاستعمارية، التي قالت في ذلك اليوم، إن الإضراب كان فاشلا، وإن الاقتصاد لم يتأثر، وإن أغلب الخدمات قُدّمت بصفة عادية.
وحصيلة القول إن هذا المثقف الذي جاء بفكرة اللاعنف في محاولة إنقاذ "الجزائر الفرنسية" بطريقته، قد صُدم في منطقة اشتد فيها لهيب الثورة، واستعر أوارها إلى درجة أنه كان يترقب مغادرتها بأسرع ما يمكن، دون يكمل سنة واحدة...
اللاعنف كان بالنسبة له وسيلة لاستمالة قلوب الجزائريين، فيستسلمون ويسلّمون بالأمر الواقع، فتبقى الجزائر فرنسية للأبد، لكن هيهات؛ فعندما نطق الرصاص استحال الاستسلام.