"المساء" تلتقي ممتهني حرفة تصارع الزوال

القصب.. مصدر رزق مجاني حلال

القصب.. مصدر رزق مجاني حلال
  • القراءات: 1509
حنان سالمي حنان سالمي

تنتشر بقرية "آيت بلعيد" ببلدية بني عمران بأعالي بومرداس، ورشات مفتوحة على الهواء بها أكوام من القصب، تنتظر مهارة الحرفيين لتصفيفها وتحويلها عن طبيعتها، لتُستعمل كحصائر أو كسياج حول بعض البساتين أو الحدائق المنزلية، أو كسقف يحمي من أشعة الشمس؛ أي "برغولا" كما تسمى، أو توجَّه لاستعمالات أخرى مختلفة.. "المساء" صادفت بعض تلك الورشات ضمن جولتها الميدانية بجبال المنطقة مؤخرا، وسلطت الضوء على هذا النشاط الحرفي المهدد بالزوال. من بين المهن اليدوية التي تصارع من أجل البقاء بقرى بومرداس مترامية الأطراف، تصفيف القصب، وتحويله إلى حصائر بمختلف الأحجام، أو بساط يُستخدم كسياج في البساتين، أو شمسيات من الحجم الكبير، تُستعمل بالقرى السياحية القريبة من الشواطئ، لإضفاء جمالية على المكان. كما أصبح تحويل وتصفيف القصب في الوقت الراهن، حاضرا ضمن أفكار مصممي ديكورات الحدائق المنزلية لمزيد من الجمالية والإبداع.

القصب من الطبيعة.. إلى الزينة

لاحظت "المساء"، في إطار جولتها مؤخرا بقرى مترامية استفادت من مشاريع تنمية مناطق الظل بجبال بلديتي عمال وبني عمران، لاحظت رزما من القصب مكومة بطريقة أثارت الفضول، واستقطبت العديد من الأشخاص الذين راحوا يستفسرون عنها، ويسعون لجلب رزم القصب، وهو ما كان يوحي بوجود ورشات حرفية مختصة في هذا النشاط بالمنطقة. كما إن معرفتنا المسبقة بإحصاء كل المنطقة العديد من الحرف اليدوية التي يتشبث أصحابها بها بشدة لنقلها للأجيال اللاحقة، جعلتنا على يقين بأن تلك الحركة كانت تخفي وراءها حرفيين يعملون على تهذيب جزء من الطبيعة، وتحويلها إلى وسائل رفاهية.

توقفنا أمام أول ورشة تقع بمدخل قرية "آيت بلعيد"، حيث ساقنا الفضول إلى السؤال عن رزم القصب المكومة هنا وهناك، في منظر يوحي بوجود أيد ماهرة تشتغل عليها هناك .. وراء الأكوام. وبالفعل بادرنا بسؤال العاملين بأول ورشة، عما يفعلونه بالقصب، فقال محمد حرفي في تصفيف القصب، إنه يحوّل القصب من حالته الطبيعية، إلى أعواد قابلة للتشكيل، حيث يتم في المقام الأول، تنقية القصب بنزع الأوراق وكل الشوائب عن عيدانه، ثم تقطيعه إلى حوالي مترين. ويتفرع عن كل قصبة 4 عيدان، وهكذا دواليك إلى أن يتم تصفيف كمية معتبرة من العيدان، ثم تأتي عملية ربطها أو تجميعها على شكل بساط باستعمال أسلاك رقيقة من الحديد، لتتحول الرزم في الأخير، إلى بساط من 4 أمتار طولا على مترين عرضا، يتم بعدها لفها في شكل أسطوانات، وهكذا تكون قابلة للتسويق. وبشيء من التفصيل، يقول محدثنا الذي يشتغل في هذه المهنة اليدوية منذ أزيد من 3 سنوات، إن البطالة جعلته يتجه صوب تعلم هذه الحرفة، بالنظر إلى وجود عدة ورشات مفتوحة على الهواء الطلق بقريته. كما يعتبرها مهنة متعبة بالنظر إلى المجهود العضلي الذي تتطلبه، ولكنه يعترف، في المقابل، بأنها ممتعة، حيث تعلّم فنونها في وقت وجيز، ما جعله يقوم بعملية التصفيف في دقائق معدودات.

وقال الشاب إنها "حرفة تكسبه أجرا يوميا بعد أن سئم البطالة"، موجها نداء للسلطات المعنية، بالعمل على تنشيط الحياة التنموية بالقرية، من خلال استثمارات تفتح مناصب شغل لأبناء المنطقة، حيث جعلت حالة الجمود الكثير من شباب القرية، يهجرونها إلى المدينة بحثا عن لقمة العيش. كما أثر غياب الحركة الصناعية بالمكان، وانعكاسات العشرية السوداء التي عاشتها الولاية، خاصة القرى والدواوير النائية والمعزولة، على سكان القرى القاطنين بالمنطقة، من خلال عودتهم البطيئة إلى قراهم، وتشبّثهم بأراضيهم من جديد.

مهنة تمارَس في نطاق العائلة الواحدة

وغير بعيد عن الورشة الأولى بقرية "آيت بلعيد"، صادفنا ورشات أخرى مفتوحة، هي الأخرى، على الهواء الطلق، بدليل انتشار رزم القصب المكوَّمة بجل مفاصل القرية تقريبا. وحسبما فهمنا من بعض السكان، فإن الأكثرية هنا يشتغلون في هذه المهنة اليدوية، كما إن أفراد العائلة الواحدة يتعاونون فيما بينهم، لتحويل القصب من حالته الطبيعية، إلى رزم تُستخدم في استعمالات مختلفة، حتى إننا صادفنا بعض الأطفال ممن تعلّموا فنون هذه الحرفة اليدوية، كانوا منهمكين في تنقية القصب بخفة عالية، توحي بإتقانهم المسبق لهذه العملية التي يحفظونها عن ظهر قلب، بفضل ملازمتهم آباءهم أو أفرادا من عائلاتهم؛ في صورة توحي باستغلالهم أوقات الفراغ في عطلة دراسية استثنائية، جاءت بسبب ارتفاع حالات العدوى بفيروس كورونا مؤخرا..

وحسب عامل آخر كان، من جهته، بصدد تنقية أعواد القصب من الشوائب، فإنه يتم جلب المادة الأولية من الوادي على بعد أمتار من القرية، حيث ينمو نبات القصب على الضفاف بفضل توفر المياه. وتبدأ عملية جمعه خلال شهر جانفي، ويستمر ذلك إلى نهاية فصل الربيع. كما قال إن هذه المهنة "توفر دخلا للكثير من أرباب الأسر بالقرية وقرى مجاورة بالنظر إلى توفر المادة الأولية بالمنطقة"، مضيفا أن هذه الحرفة تمارَس في نطاق العائلة الواحدة، وبمجرد تعلّم فنونها تصبح سهلة جدا للعمل. أما عن عملية التسويق فإنها تتم إما حسب الطلب من جهات معيّنة، وبالتالي تصفَّف أيضا تحت الطلب، أو تهيَّأ وتعرَض بالورشات، كأسطوانات جاهزة للبيع، توجَّه لاستعمالات مختلفة مثلما ذكرنا.. لكن ما يمكن تأكيده هنا هو تمكن قاطني قرية "آيت بلعيد" ببلدية بني عمران بأعالي جبال بومرداس، من تطويع الطبيعة بالطريقة التي تمكّنهم من تحصيل دخل يغنيهم عن الحاجة والسؤال..