الصين على موعد جديد مع القدر

"السماء" تفترش "الحرير" للأجناس لتضميد جراح الأشواك

"السماء" تفترش "الحرير" للأجناس لتضميد جراح الأشواك
  • القراءات: 2625
العائدة من الصين: مليكة خلاف العائدة من الصين: مليكة خلاف

الصين.. أو كما تُعرف عند أهلها بـ "خوا" تعني "السماء".. بلاد حبلى بالكثير من الأسرار التي تجلب إليها الفضول.. لا تكفي الزيارة الواحدة لاكتشاف خباياها التي تغترف منها الإنسانية الكثير من القيم المتوارثة منذ قرون خلت.. ففي بلاد التنين تستشف الماضي والحاضر والمستقبل؛ لأنّ شعاع حضارتها بالأمس الذي عم كافة أركان المعمورة مازال يسري دفؤها في أجمل القصص التي مازالت تحكي عظمة بلاد "السماء"، فكل من تطأ قدمه أرض الحضارة يشعر بأنّها على موعد جديد مع القدر الذي يخبئ الكثير من الأفق الواعدة لدول أخرى تأمل أن تبتسم لها الحياة بعد أن افترشت لها "السماء" طريقا من الحرير، كيف لا والصين قد عُرفت منذ غابر الأزمان على أنها مصدر لإنتاج أجود أنواع الحرير.. لكن لا أحد كان يدرك بأن الحرير بات اليوم قوة ناعمة عبر "الحزام والطريق". هذه المبادرة الاقتصادية التي من شانها أن تعيد أمجاد الأسلاف بتعبيد الطريق أمام بقية الأجناس بعيدا عن صدمات الأشواك التي زرعها المهيمون والدخلاء الذين استحوذوا على ثروات وخيرات الآخرين.

لم تكن زيارتنا للصين التي دامت ستة أسابيع مجرد مشاركة في دورة تكوينية نظمها المركز الصيني العربي للصحافة في طبعتها الأولى، بل كانت فرصة للاطلاع على الكثير من الجوانب الثقافية والإنسانية للعملاق الذي استيقظ أخيرا من نومه، وأضحى يُحسب له ألف حساب؛ كيف لا ومظاهر القوة الاقتصادية أصبحت بائنة على واقع الصين اليوم، التي قطعت أشواطا عملاقة منذ إعلان الثورة الثقافية في 1949.

والصين من الدول التي تفتخر بتاريخها وحضارتها، بل لمسنا ظلالا كثيرة لهذه العراقة في التعاملات اليومية للشعب الصيني المتسمة بالكثير من الكرم والتسامح وحب مساعدة الآخر. والذي يستقرئ ثقل الحضارة الصينية يكاد يجزم أن خطوات الوصول إلى القمة ليست معجزة لبلاد "السماء"، التي ليست مجرد مصدر إنتاج للسلع الرخيصة التي غزت أسواق العالم مثلما يتبادر إلى أذهاننا، بل إنها خزان للقدرات المعرفية والتكنولوجية والقوة الصاعدة المرتكزة على أسس صلبة، أرساها الأسلاف، الذين تركوا معالم تحكي قوة التنين عبر مختلف العصور.

ومن غير المنطقي أن نزور الصين بدون أن  نطلع على أبرز المآثر التاريخية لهذه البلاد؛ على غرار القصر الصيفي والمدينة المحرمة وسور الصين العظيم، أو حتى على فن الشاي الذي يتباهى به الصينيون؛ باعتباره جزءا من ثقافتهم على غرار الكونغ فو، الذي يحمل الكثير من المعاني الروحية بخلاف ما كان يُعتقد بأنه من الفنون القتالية.

القصر الصيفي.. هدية عيد الميلاد

من أبرز المعالم التاريخية التي توقفنا عندها في الصين، القصر الصيفي أو الملقب بمتحف الحدائق الواقع في ضاحية بكين الشمالية، الذي أُدرج في قائمة التراث العالمي لليونيسكو عام 1988. وقد بدأ تشييده عام 1950 في عهد أسرة تشينغ، عندما كانت الصين أقوى إمبراطورية في آسيا من حيث امتداد أراضيها وإمكانياتها  المالية.

وقد أغدق الإمبراطور تشيان لونغ بالعطايا على المعماريين، الذين استدعاهم من كل مكان لبناء هذه التحفة المعمارية؛ تكريما لوالدته في عيد ميلادها. وبعد 15 سنة من البناء والمعمار تم بناء حديقة رائعة الجمال، تجمع بين قوة الجبال وخرير المياه وجمال وأناقة مناظرها.

وينقسم القصر الصيفي إلى أربعة منتزهات؛ المنتزه الشرقي، وهو منتزه دونغ قونغ من (أي باب الجناح الشرقي)؛ حيث كان أباطرة أسرة تشينغ الملكية الصينية يمارسون أعمالهم السياسية فيه ويسكنون فيه أيضا، كما توجد فيه مقصورة رن شو التي كان الأباطرة يجتمعون فيها بوزرائهم، فضلا عن الجناح الشمالي والجناح الجنوبي وأجنحة النوم للأباطرة والمسرح الكبير والباحة.

ويجمع القصر الصيفي أفضل الأساليب المعمارية في أنحاء الصين؛ إذ يجسد الحي الشرقي الذي تكتظ فيه المقصورات والأجنحة، أسلوبا معماريا نموذجيا للأفنية الرباعية الشائعة في البلاد، والتي تكون منفصلة عن بعضها البعض.

وتعرّض القصر الصيفي للتخريب مرتين في التاريخ؛ ففي المرة الأولى أضرمت فيه القوات البريطانية الفرنسية المتحالفة النيران عام 1860، ليتم إعادة تعميره. كما تعرّض مرة أخرى للتخريب عام 1900  قبل أن يعاد تعميره في 1902.

المدينة المحرمة أضحى دخولها مباحا

تُعدّ المدينة المحرمة مثلما زوّدتنا بذلك المرشدة السياحية، من أروع المتاحف التاريخية في الصين والعالم، فقد كانت محرمة على عامة الناس لفترات طويلة من الزمن، وكانت مقرا لأباطرة أسرة مينغ من 1368 إلى 1644، وبعدها أسرة تشينغ من 1616 إلى 1911. وقد استغرق تشييد هذه المباني 14 عاما، وتُعدّ أكبر مجموعة من القصور القديمة المحفوظة في الصين، حكم فيها 24 إمبراطورا صينيا لفترة 500 عام، وكانوا يلقَّبون بـ "أبناء السماء".

المدينة المحرمة التي يزورها آلاف الزوار يوميا تبلغ مساحتها 720 مترا مربعا،  وبُنيت بعد رؤية الإمبراطور بونجلي لها في المنام.

وخلال التنزه حول هذا القصر الذي يتألف من 9999 غرفة، يجذبك الطراز المعماري البديع، في حين ظلت الكثير من الأسرار غائبة عن الكثيرين؛ تقول الأساطير إنّ الإمبراطور كان "إله"، وأصله تنين.

وينقسم القصر الإمبراطوري إلى جزءين، منهما بوابة "جنة السلام" الواقعة في الجهة الجنوبية؛ حيث تقع صورة الزعيم "ماو"، وهناك كان يقع مقر حكم الأربعة وعشرين إمبراطورا الذين عاشوا منذ القرن الخامس عشر مع 2000 من الحاشية وحراس الحرملك.

ومن أبرز ما يلفت انتباه الزائر إلى المدينة المحرمة، متحف الكنوز، الذي هو عبارة عن مخزن كبير يضم أختام الأباطرة والشمعدان وأطقم الشاي وأشياء أخرى كثيرة كانت تخصّ جميع من حكموا الصين وعائلاتهم ممن أقاموا في المدينة المحرمة، التي تمّ تصميم مبانيها من كتل حجرية منحوتة يدويا.

ويطغى على القصور والمباني الملحقة بالمدينة المحرمة اللونان الأصفر والأحمر، اللذان يحتلان مساحة كبيرة في الثقافة الصينية؛ فالأصفر ارتبط بالأسر الحاكمة التي احتكرته لنفسها، وكان غير مسموح للعامة استخدامه، في حين يمثل الأحمر لونا لحسن الطالع.

وعمل في بناء المدينة المحرمة مليون عامل و100 حرفي. وعاش فيها 42 من أباطرة الصين من عائلتي مينغ وتشينغ. وعند سقوط النظام الإمبراطوري في الصين عام 1925، تمّ اعتبار المدينة المحرمة موقعا أثريا وسياحيا.

السور العظيم.. تنّين أسطوري إلى ما لا نهاية 

"من لم يزر سور الصين العظيم ليس بطلا حقيقيا"، هي مقولة للزعيم ماوتسي تونغ، مازالت منقوشة على إحدى الصخور الكبيرة المتواجدة بهذا المعلم التاريخي الشبيه بتنين صيني أسطوري، يتلوّى مخترقا آلاف الكيلومترات من الوديان والسهول والغابات، ومتسلقا الجبال الشاهقة حتى يبدو للناظر كأنه سيمتد إلى ما لا نهاية.

كانت زيارتنا لسور الصين العظيم فرصة لتأمل ما تزخر به بكين التي يؤمها أكثر من 30 مليون نسمة، من مناظر طبيعية خلابة على طول الطريق المؤدي إلى هذا المعلم التاريخي الضخم، حيث لمحنا على جانبي الطريق لوحات فسيفسائية من الطبيعية الخلابة، يزيدها جمالا وبهاء مناظر المنازل والبيوت ذات الطابع المتفرد، خاصة تلك الأسقف المشيدة على شكل مثلثات نصفية.

لم يكن القدماء يتخيّلون أن تحيط إمبراطورية مترامية الأطراف بسور، لكن الصينيين تحدوا المصاعب؛ حيث استخدموا لهذه الغاية مئات الآلاف من العمال عدة قرون من الزمان، ليصبح بالتالي أطول سور في تاريخ البشرية بـ 8852 كيلومترا.

وبما أنّ الصين بلاد شاسعة فقد كانت قديما مقسمة إلى مقاطعات خاضعة لسيطرة مجموعة من الحكام المحليين، الذين ما فتئوا يقاتل أحدهم الآخر، إلا أنّ خطر قبائل المغول البدوية المتنقلة على الحدود الشمالية للصين، كان يترصدهم من الخارج، وكثيرا ما ارتُكبت مجازر في حق العديد من الضحايا، فضلا عن نهب العديد من الممتلكات.

وللتصدي لهذا الخطر قامت بعض المقاطعات الصينية الشمالية منذ القرن السادس قبل الميلاد، ببناء أسوار طينية على حدودها لتوقيف الغزاة وإبعادهم. وشكّلت تلك الأسوار المتفرقة النواة الأولى لما سيُعرف لاحقا بسور الصين العظيم، الذي بدأ العمل الفعلي على تشييده في القرن الثالث قبل الميلاد في عهد سلالة تشين.

ووفق المعلومات التاريخية التي زوّدتنا بها المرشدة السياحية، فإن قرابة 800 ألف شخص ساهموا في بناء السور لعقود طويلة، وفي ظروف صعبة أودت بحياة الكثير منهم؛ بسبب صعوبة توفير مواد البناء، ونقلها لإنجاز مشروع بهذه الضخامة.

وقام الأباطرة من مختلف السلالات التي تعاقبت على حكم الصين لاحقا، بترميم السور وتحصينه عن طريق بناء أجزاء جديدة وسد الثغرات، وتعزيز قدراته الدفاعية بأبراج الحراسة والمراقبة العالية.  وبالنظر إلى المسافة الطويلة لهذا السور فقد أخذت قوافل تجار طريق الحرير تسير بمحاذاته في طريقها إلى غرب الصين؛ بغرض الاستفادة من الحماية التي توفرها أبراجه.

لكن رغم الطابع الحمائي للسور إلا أنه لم يفلح دائما في صد هجمات المغول، الذين كانوا يستغلون النقاط الضعيفة في الجبال والغابات، وحتى مجاري الأنهار. ونذكر على سبيل المثال، التحدي الأكبر الذي واجهه السور في القرن الثالث عشر، عندما قرر جنكيزخان غزو الصين وإنهاء حكم سلالة جيان، حيث سارت جحافل ضخمة  إلى ثغرة سرية أرشدها إياهم أحد الجنرالات الصينيين الخونة، بعد أن فشل المغول في اقتحام البوابات الحجرية العملاقة. 

ولمدة قرنين احتل المغول الصين وأسّسوا مدينة بكين. وتمّ إهمال السور الذي يُعد اليوم من عجائب الدنيا؛ باعتبار أنّ الصين أضحت جزءا من الإمبراطورية المغولية. وفي القرن الخامس عشر طُرد المغول، وتربع أباطرة سلالة مينك على عرش البلاد، فأولوا اهتماما كبيرا بالسور من خلال ترميم أكثر أجزائه القديمة وبناء أخرى جديدة، كما ازداد ارتفاع الأسوار، ليصل إلى 8 أمتار في بعض المناطق.

وفي عام 1644 م، احتلت منشوريا الصين بعد أن فشلت في اقتحام السور في 1600، حيث أسّست سلالة تشينك التي حكمت حتى الحرب العالمية الأولى. وخلال تلك الفترة توحّدت الصين ومنشوريا، وأصبحت منغوليا جزءا من الصين، ولم تعد هناك أهمية للسور الذي ناله الإهمال بفعل عوامل التعرية الطبيعية، في حين هدّم الفلاحون أجزاء كبيرة منه بغرض الاستفادة من موادها في بناء بيوتهم. وقد بقيت أقسام منه في حالة جيدة، خاصة في الجهة الشرقية لبكين.

5 سنوات لتعلّم تحضير الشاي

يحظى فن تدريب الشاي بالكثير من الأهمية في الثقافة الصينية، حيث لا يقتصر الأمر على تناول الشاي بل على طريقة تقديمه في أطقم خاصة متفاوتة في حجمها، فضلا عن نوعية الشاي المقدم، والذي يتعدّد؛ من الشاي الأخضر والأحمر والأصفر والأبيض والأسود، وشاي الياسمين الذي يُعد من أرقى أنواع الشاي إلى جانب الشاي الأخضر.

ولا يستطيع الصينيون الاستغناء عن الشاي؛ فتراهم يحملون كل يوم عبوات منه في حقائبهم، ليحل في كثير من الأحيان محل قارورات الماء. ولا يُعدّ الشاي بالنسبة لهم بمثابة مشروب لتعديل المزاج، بل أضحى ضرورة للاستفادة من منافعه الصحية للجسم، وهو ما لاحظناه بين الصينيين الذين يتمتع أغلبهم بالصحة الجيدة، فضلا عن احتفاظهم بالشباب؛ إذ لا تبدو علامات تقدم السن على وجوههم.

وقد كان لنا فرصة حضور حصة للتدريب على تحضير الشاي تحت إشراف السيدة لي سونيان، التي درست هذا التخصص لمدة 5 سنوات. وقد سألت نفسي في البداية: "هل حقا يتطلب إعداد وصب الشاي دراسة طول هذه المدة كلها؟!".وإذا كان الأمر كذلك "فماذا عن إعداد أطباقنا الجزائرية، التي تجعلنا لا نبرح المطبخ إلا بعد ساعات طويلة؟".

لكن الأمر لم يكن سهلا مثلما كنا نتصور؛ فالسيدة سونيان المختصة في طبخ وفن شرب الشاي على المستوى العالي، تُستدعى في المناسبات الرسمية في الصين بحضور أرقى الشخصيات، وبذلك فقد كنا محظوظين بلقائها والتعرف على جزء من هذا الفن.

لم تبخل علينا لي سونيان في تقديم طريقتها في طبخ وتقديم الشاي عبر تمثيلية  قصيرة عرضتها أمامنا على أوتار الأنغام الصينية الهادئة التي رافقت حركات أناملها الجميلة برقة متناهية، ما أضفى على الجلسة جوا رومانسيا رائعا، حيث كانت البداية بغلي الماء على درجة 85، ثم صبه في كوب زجاجي به أعشاب من الشاي، ليتم تصفيته بعد ثوان قليلة فقط من نقعه، ثم يقدَّم في الأطقم الخاصة بالضيوف، مرفقة بتحية خاصة لهم عند تسلّمهم الأكواب.

كما يمكن للضيف أن يعبّر عن شكره للساقي أو الساقية بالطبطبة مرتين على الطاولة بظهري أصبعي السبابة والوسطى، في حين يمكن للسقاة ملء الأكواب في كل مرة في حال لم يمانع الضيف ذلك وما لم يعبّر عن عدم حاجته إلى تناول كميات أخرى من المشروب.

ولا يُعدّ الشاي الذي أضفي عليه طابع القداسة بمثابة "بريستيج" فقط في الثقافة الصينية؛ كونه يعبّر عن كرم الضيافة، بل أصبح بمثابة حاجة صحية ملحّة؛ لذلك نرى أنه يتفرّع إلى أنواع الشاي الموسمية؛ بمعنى أنّ هناك شاي الصيف وشاي الخريف وشاي الشتاء وشاي الربيع، كما أن نوعية الشاي الفاخر تتوقف عند مدى استخدام المواد الخام المكوّنة له، في حين يُعدّ الشاي الأخضر الأفضل على الإطلاق بالنظر إلى فوائده الجمة.

ويتناول الصينيون مختلف أنواع الشاي بدون سكر؛ حفاظا على فوائده، في حين يُعدّ الشاي الأحمر الوحيد الذي لا يتأثر بإضافة السكر، ورغم ذلك فالصينيون يتناولونه بدونه.

أما مشروب القهوة فيكاد ينعدم في بلاد التنين، ولا يقدَّم إلاّ نادرا للأجانب، خصوصا للذين لا يتناولون الشاي. أخبرنا أحدهم بأنّ الصينيين كانوا يتأففون منها في بدايات دخول مسحوق القهوة إلى بلاده، حيث كانوا يشبهونه بروث الحيوانات. 

رحلة البحث عن الطعام الحلال

كثيرا ما يتوجّس الذين يعتزمون زيارة الصين من مسألة الطعام، غير أنّ المسالة ليست بدرجة كبيرة من التعقيد؛ فعلى غرار الكثير من الدول الغربية هناك مطاعم الحلال في كافة أرجاء البلاد، لكن تبقى هنا مسألة الذوق؛ لأن الطعام الصيني وعلى غرار أطعمة الدول الآسيوية الأخرى، له رائحة نفاذة بسبب نوعية التوابل المستعملة؛ لهذا ستجد نفسك ملزما بانتقاء ما تتناوله من مأكولات كثيرة معروضة على الطاولة الدوارة؛ فالأصدقاء الصينيون يغدقونك بالكرم وحسن الضيافة إلى أبعد الحدود، قد يفوق كرم "حاتم الطائي" الذي يتباهى به العرب.

وجدنا أنفسنا مجبَرين على انتقاء نوع الطعام، لاسيما أن الصينيين كما أخبرتنا أستاذة اللغة الصينية، يأكلون كل شيء ماعدا الطائرة والسيارة والسفينة. وكثيرا ما وجدنا أمامنا أكلات وأطعمة من مقبّلات ولحوم كثيرة، يتربع على عرشها البط الذي يُعدّ من أشهر الأطباق في بلاد "السماء". ويحرص الصينيون على توفير الأكل الحلال للمسلمين موازاة مع توفير الأسماك والخضروات واضحة المعالم.

وبخصوص المطاعم الإسلامية في الصين لاحظنا انتشار العربية منها والتركية لاسيما في "شارع البقر"، الذي يسمى باللغة الصينية "نيوجيه"، وهو أكبر وأشهر مجمع إسلامي في العاصمة الصينية بكين، يقع وسط "حي شيوانوو" بجنوب العاصمة الصينية.

والمظاهر الإسلامية في هذا الشارع واضحة المعالم من حيث المأكولات الإسلامية والمطاعم والملابس والمساجد. ويعود تاريخه إلى عهد "أسرة لياو"، ويؤم منطقة سكنية تضم 22 مجموعة من الأقليات العرقية.

وحسبما رُوي لنا، يعود سبب إطلاق اسم "شارع البقر" إلى إقبال المسلمين على تناول لحم البقر بدل لحم الخنزير المنتشر أكله في الصين، في حين يقول البعض إنّ تسمية المنطقة تعود إلى وجود عدد من مسالخ البقر.

وبشارع البقر أحد الأزقة المتميزة بالبنايات القديمة التي بها محلات مصطفّة  عن اليمين وعن الشمال في طابور طويل جدا، تنبعث روائح ثقيلة ليس لنا عهد بها، لكن سرعان ما استفسرنا في الأمر وأدركنا أنها لأكوام العقارب وأذيال يبدو أنها لزواحف وسحليات وهوام الأرض، معبأة في أعواد جاهزة للطبخ.

والحقيقة أني لم أجرؤ على التغلغل في الزقاق الطويل، واكتفيت بما كان ينقله بعض الزملاء من وصف لهذا المشهد الذي يجلب الكثير من المغامرين الأجانب، الذين ينتظرون بشوق للفوز بمجموعة من الأعواد الممتلئة بتلك الدواب الصغيرة بعد شوائها، علما أن ليس كل الصينيين يأكلونها، بل هناك منطقة في جنوب البلاد تشتهر بذلك، وهي غوانغو التي انتشرت بها هذه الظاهرة إثر موجة الفقر التي عانت منها البلاد خلال القرن الماضي؛ ما يعني أن ظاهرة أكل الحشرات لا تمتّ بصلة للحضارة الصينية.

التكنولوجيا في كل مناحي الحياة

وقد استوقفنا دخول "شارع البقر" ناطحات السحاب التي تتصدّرها أو تنتهي في أعاليها شاشات رقمية وإشهارية  ضخمة، تعرض مواد تلفزيونية مسجلة ومباشرة لفضائيات محلية، علاوة على مواد إشهارية لبضائع صينية تروَّج على مستوى الداخل والخارج، منها الألبسة والسيارات الفخمة والإلكترونيات والأجهزة التكنولوجية.

وبالحديث عن التكنولوجيا نلحظ حضورها في كل مناحي الحياة في الصين؛ إذ ينتفع بها الصينيون ويستخدمونها لقضاء حاجياتهم في منازلهم وشوارعهم، كما نجدها في وسائل النقل المتنوعة؛ من سيارات وميترو وقطارات وطائرات، وحتى الدراجات العادية والكهربائية وُضعت فيها التكنولوجيا بصمتها، حيث يمكن أيّ شخص استعمال دراجة من ملايين الدراجات المودعة عند قارعة الأرصفة بعد تمرير بطاقته الممغنطة، ثم توجيهها إلى شاشة الشاحن الصغير المثبت في كل دراجة، ليذهب الشخص بعد ذلك إلى الوجهة المرغوبة. وعند وصوله يكتفي فقط بركن الدراجة في أي مكان شريطة ألا تعرقل حركة السير في الشارع.

وبذلك أضحت التكنولوجيا في الصين من بين أسس عيش الصينيين من كل الفئات الاجتماعية، وهو ما لاحظناه خلال زيارتنا الفضاءات العلمية والسبريانية التي زرناها في بكين وشانغهاي وسي أن؛ منها شركة هواوي التي واكبت آخر التكنولوجيات التي اكتسبتها الصين إلى أبعد الحدود. كما اطلعنا خلال زيارتنا العديد من المؤسسات، على آليات تكنولوجية ورقمية عديدة، تجمع بين مجالات الفلاحة والري والصيد البحري، فضلا عن أنماط التكنولوجيا الجديدة والخاصة بالطائرات والمركبات الفضائية ومواد إلكترونية ومنصات رقمية رفيعة المستوى؛ في سياق انتهاج الصين طريق الإصلاح والانفتاح.

ولا يمكن إلا أن نعرّج أيضا على "قطار الطلقة" الراقي، الذي كان وسيلتنا في زيارة مدينة سي أن الجميلة، حيث تمتلك الصين الكثير منه، فمجسمه شبيه بالطائرة والصاروخ ولكن بدون أجنحة. يسافر على متنه ما لا يقل عن ألف شخص في الرحلة الواحدة. كما يمكن أن تصل إلى وجهتك التي تزيد عن 1200 كم، في ظرف 4 ساعات؛ أي بمعدل يناهز 400 كم كل ساعة.

وكانت الصين بدأت تشغيل القطار السريع بين مدينتي بكين وتيانغين عام 2008، لكن السلطات أمرت بخفض سرعته بعدما قُتل أكثرُ من ثلاثين شخصا في حادث قطار عام 2011.

"4" رقم الموت

تزخر الثقافة الصينية بالكثير من المعتقدات المتوارَثة التي كثيرا ما يكون لها انعكاس على الواقع المعيشي للصينيين؛ فمثلا تنتشر في مدينة هونغ كونغ مدارس لعلم يسمى "فينغ شوي" الذي يعني طاقة المكان، حيث يولي المهتمون بهذا التخصص، أهمية كبيرة لتحديد المواقع المناسبة لتشييد السكنات، فضلا عن تحديد اتجاهات غرف البيت لاسيما غرفة النوم والمطبخ، مع اختيار الألوان المناسبة التي تجلب الخير والبركة. وفي هذا السياق لاحظنا اعتماد الصينيين اللون الأحمر في تزيين واجهات المحلات والساحات العمومية؛ باعتباره رمزا للازدهار والتطور. كما تحظى الأرقام الزوجية بالكثير من الأهمية؛ حيث يرافق أسماء المنتوجات أرقام تحمل الحظ والنجاح، على غرار الرقم 9 الذي يعني بالنسبة لهم طول العمر، و8 للنجاح، في حين يتهرّب الكثيرون من الرقم 4 الذي يعني الموت، ولهذا يتفادون السكن في طوابق العمارات التي تحمل هذا الرقم؛ ما يجعلها أقل ثمنا خلافا للطوابق الأخرى، ولهذا ننصح أي شخص يريد شراء منزل بخس في الصين ولا يؤمن بهذا المعتقد، أن يتوجه مباشرة إلى الطابق الرابع.. وبالتأكيد ستكون فرصة لا تعوَّض بالنسبة  له.