"مسجد الاستقلال" بقسنطينة

"الاستقلال" صورة عن الحفاظ على الهوية الإسلامية

"الاستقلال" صورة عن الحفاظ على الهوية الإسلامية
"مسجد الاستقلال" بقسنطينة
  • 2687
❊❊ ح. شبيلة ❊❊ ❊❊ ح. شبيلة ❊❊

تُعد عاصمة الشرق الجزائري قسنطينة مركز إشعاع ديني؛ لما تتوفر عليه من معالم دينية قيّمة، تعود نشأتها إلى قرون وحضارات ماضية تعاقبت على المدينة، فشهدت مرور الزيانيين والأندلسيين والحماديين، ثم الحفصيين وغيرهم من الذين تركوا بصمتهم على المدينة، خاصة تلك المساجد التي ساهمت في إبراز الطابع الديني للمدينة بعد أن باتت محجا لعلماء الدين من كل الدول، غير أن الاستعمار الفرنسي حاول بكل الطرق، ضرب الدين؛ من خلال تحويله عددا من المساجد المعروفة إلى كنائس، إلا أن الأمر لم يدم طويلا، لينقلب السحر على الساحر، وتحوَّل الكثير من الكنائس التي أقيمت وقت الاحتلال الفرنسي إلى مساجد، حيث قامت السلطات المحلية في العديد من ولايات الوطن بتغيير نشاط هذه الكنائس وتحويلها إلى مساجد، يوحَّد فيها اسم الله؛ سواء بقرارات من الحكومة أو بمبادرات فردية من أشخاص، وحملت معظم الكنائس بعد تغيير ملامحها، أسماء علماء دين جزائريين.

لعل أول كنيسة حولتها السلطات المحلية إلى مسجد كانت بولاية سطيف، حيث غيرت أول كنيسة بالولاية إلى مسجد سمي باسم العلاّمة عبد الحميد بن باديس بعد اتفاق مع الأسقفية الكاثوليكية المعتمدة بالجزائر، لتكون الخطوة بمثابة انطلاقة إلى خطوات أخرى مشابهة في عدد من ولايات الوطن.

مسجد الاستقلال من كاتدرائية إلى مسجد

كان لـ "المساء" وقفة مطولة عند هذا الصرح الديني الذي يُعد معلما تاريخيا وأثريا منذ إنشائه سنة 1940 م، حيث تحدّث إلينا إمام المسجد السيد ياسين سوالمي  الذي يؤم المصلين والمسؤول الأول عنه الصرح منذ توليه العمل به سنة 2016، تحدث عن تاريخه، وكيف حُول من كنيسة كاتدرائية كانت وقت الاستعمار الفرنسي مكانا للعبادة لفائدة المواطنين الفرنسيين القاطنين بالولاية، إلى مسجد يُذكر فيه اسم الله ويوحَّد فيه عز وجل، بعد أن تم التنازل عنه لمصالح ولاية قسنطينة، التي قامت، بدورها، بكل الإجراءات القانونية والرسمية وتسليمه لمديرية الشؤون الدينية والأوقاف على أنه وقف شريطة أن يُستعمل للعبادة وليس لشيء آخر، لتصبح الكنيسة يوم 19 مارس 1983 مسجدا ، وسمي "مسجد الاستقلال" تبركا بحرية بلادنا وأخذ الجزائر استقلالها.. ليضيف الإمام أن أول صلاة فيه كانت يوم التدشين الذي لازال راسخا في أذهان الكثيرين، خاصة وأن المسجد كان بمثابة خطوة لتحويل كنائس أخرى بالمدينة إلى مساجد، على غرار مسجد "أحمد بوشمال" بسيدي مبروك العلوي، ومسجد "الباي" الذي كان مسجدا في العهد العثماني، غير أنه أصبح كنيسة إبان الحقبة الاستعمارية، ليعود إلى أصله الأول مسجدا بعد الاستقلال إلى وقتنا الحالي.

محافظ على طابعه المعماري القديم

لازال إلى حد الساعة مسجد الاستقلال أو "الكنيسة الكاتدرائية" محافظا على جانبه المعماري القديم، والمتمثل في كنيسة من الداخل ترمز إلى شكل الصليب، فضلا عن القبب الثلاث للمسجد من الأعلى التي تميزه، حيث إن العديد من التعديلات والتغييرات التي أضيفت له لم تؤثر على طابعه المعماري، بل زادته جمالا بعد أن تم إضافة طابق علوي جديد إلى جانب إضافة آيات قرآنية بجميع زواياه، وإنشاء محراب ذي طابع عثماني لإضفاء الطابع الديني على المسجد المحوّل، وهي كلها مجهودات شخصية، حسب الشيخ "سالمي"، ومن فضل المحسنين، الذين قاموا منذ 2016، بتقديم مساعدات مالية لتغيير وجه المسجد الذي كان يعيش وضعية مزرية في السنوات الفارطة.

وخلال زيارتنا المسجد لاحظنا الاهتمام الكبير بجانب النظافة، حيث أكد الإمام أن المتطوعين هم من يقومون يوميا بتنظيف المسجد والميضأة التي يسهر شخصيا على نظافتها؛ من خلال إعادة تهيئتها من جديد وبشكل عصري، وهي الحال بالنسبة للكهرباء داخل المسجد الذي يتوفر على تقنية اللاد لترشيد استهلاك الطاقة.

وخلال تجولنا بكل أرجاء الكنيسة التي حُولت إلى مسجد سنة 1983، وقفنا عند ركن خاص بالمرأة، التي كان لها نصيب من المسجد، حيث قال الإمام إن زوجته المرشدة بالمسجد السيدة ليلى يخلف منذ توليه أمور المسجد، تقوم إلى حد الساعة بالعديد من الأنشطة الدينية، حيث اختارت غرفة خصصتها للنساء لتحفيظهن القرآن والأحكام، مع إنشاء مدرسة قرآنية لتعليم القرآن للأطفال النائشة، فضلا عن قيام المسجد بالعديد من النشاطات الاجتماعية، على غرار توزيع قفة رمضان، وكسوة العيد والأضحية على المحتاجين وتقديم الزكاة للمحتاجين؛ حيث وصل مبلغ صندوق الزكاة بالمسجد، حسب الإمام، إلى أزيد من 250 مليون سنتيم في السنتين الفارطتين، وهو ما سمح بتوفير دخل شهري لبعض المعوزين، فضلا عن النشاطات الدينية؛ كتقديم الدروس الدينية كشرح صحيح الإمام البخاري، والمذهب المالكي ودرس الرقائق والأخلاق من قبل أئمة متطوعين، زيادة على حفظ اليمين بالمسجد ومجالس الصلح، وغيرها من الأنشطة التي جعلت من مسجد الاستقلال قبلة للمصلين والفقراء، وحتى قبلة للاحتفال بالمناسبات الدينية، التي انتقلت من مسجد الأمير عبد القادر إليه، وآخرها الاحتفال بليلة القدر في 27 من رمضان الفارط.

الطابق العلوي لازال على حاله منذ 1940

أما الأمر الذي أثار فضولنا خلال تجولنا بكامل أرجاء الكنيسة المحولة إلى مسجد، فهو الطابق العلوي الذي كانت "المساء" سباقة لزيارته، حيث وجدنا أن المكان لازال على حاله منذ 1940 تاريخ إنشاء الكنيسة، وهو الدرج الحديدي الملتوي المؤدي إلى مكان وضع الناقوس أو الجرس المستخدم وقتها لدعوة المسيحيين إلى الصلاة، لتبقى اليوم هذه المساجد رمزا راسخا في الذاكرة، وشاهدا للعيان عن السياسة الفرنسية، التي كانت تعمل على طمس كل ما يرمز للشعب الجزائري، من خلال القضاء على المساجد التي استرجعت إشعاعها حاليا.