أطباء الوقاية يشكون محدودية نشاطهم:

اختصاصنا في ذيل الترتيب والعلاج يستنزف الخزينة

اختصاصنا في ذيل الترتيب والعلاج يستنزف الخزينة
  • القراءات: 2597
❊استطلاع: رشيد كعبوب ❊استطلاع: رشيد كعبوب

لم يرقَ دور الطب الوقائي في بلادنا إلى المستوى المطلوب، جراء التوجه العام نحو الطب العلاجي، المتعلق أساسا بالتدخل في الحالات المرضية، التي ترتبط بالنمط المعيشي غير المتوازن، الذي أصبح المتسبّب الأول في ظهور الأمراض الخبيثة والأخرى المستعصية. ويجمع أطباء الوقاية وعلم الأوبئة الذين التقتهم «المساء» في هذا الاستطلاع أنّ هذا التخصّص، مهمّش ولا يتوفّر على الإمكانيات والعناية الكافية، مثلما توفّره الدول المتقدّمة، التي قطعت أشواطا معتبرة في مجال التقليص من الحالات المرضية، وفق منظومة تركّز على الوقاية الصحية، لتفادي الإنفاق على العلاج والعمليات الجراحية، وما يتطلّبه من أدوية ذات آثار جانبية، قد تنتج عنها مضاعفات أخرى.

عندما طرحت «المساء» بعض الأسئلة على المختصين في طب الوقاية وعلم الأوبئة، أكّدوا أنّ نشاطهم يقتصر على المستشفيات، ولا يتعدى المؤسّسات العمومية للصحة الجوارية، رغم أنّه يعتبر أهم رقم في معادلة الصحة العمومية، والمجتمع ككلّ لا يعرف قيمة هذا التخصّص، لأنّهم لا يذهبون للطبيب قبل أن يمرضوا للإطمئنان على صحتهم، بل تدفعهم الوعكات الصحية وآلام الأمراض إلى الهرولة نحو الطبيب العام أو الاخصائي للفحص وطلب وصفة العلاج، أو إجراء العمليات الجراحية. وهي ثقافة ـ حسب أطباء الوقاية ـ متجذرة في عادات الناس، لأنّ عدة عوامل، اجتماعية وثقافية، أسهمت في تثبيتها في أذهان الناس وتحوّلت إلى عادات وسلوكات يومية.

ويقرّ المختصون في الوقاية أنّ إعادة الاعتبار لهذا الطب يتطلّب عملا كبيرا وتضافر جهود العديد من القطاعات ذات الصلة، كالتجارة والفلاحة والصناعة والبيئة، فضلا عن قطاع الصحة الذي يشرف على إعداد المنظومة الصحية المتوازنة، والتي تلبي احتياجات الناس من التغطية الصحية، الوقائية والعلاجية.

الدكتورة زبوجي (مستشفى زميرلي):

للأسف .. الناس لا تسمع إلا بأطباء العلاج..

تتأسّف الدكتورة زبوجي، طبيبة علم الأوبئة والوقاية بمستشفى «سليم زميرلي» بالحراش، كون هذا الاختصاص المفصلي موجود في آخر اهتمامات الوصاية والمجتمع معا، فالمهمة المناطة به لا يعرفها إلاّ أهل الاختصاص. وتستدل محدثتنا على ذلك، بكون طبيب الوقاية هو الذي يعرف سبب انتشار الأمراض المعدية وغير المعدية في أوساط الناس أفرادا وجماعات، ويتحسّس المعاناة الحقيقية، ويتوصّل إلى العوامل الأساسية التي تضر بالصحة، ويوفّر لبقية الأطباء المعالجين «المعلومة»، ويمكنهم من الظهور على الساحة لعلاج مختلف الأمراض والأوبئة، فأطباء الوقاية بالمؤسسات العمومية للصحة الجوارية، هم على دراية كبيرة بحجم انتشار الأمراض وأنواعها، وهذه المصلحة فيها عدة وحدات منها وحدة التلقيح، التنظيم العائلي، الصحة المدرسية، الإعلام الصحي (الإحصائيات).

وتحسرت الدكتورة زبوجي، كون طبيب الوقاية لا تتعدى صلاحياته عتبة التشخيص، أو في أحسن الأحوال التحسيس المحتشم والمناسباتي، ولا يوجد برنامج توعوي مستدام يهدف إلى زرع ثقافة الوقاية، وتنوير شرائح المجتمع بمختلف الأخطار الصحية، وتربيتهم على اتباع نمط وقائي في الحياة اليومية، والانتباه إلى التصرفات التي تهلك الصحة العمومية، والتعاون مع جمعيات الأحياء والمجتمع المدني ووسائل الإعلام لغرس ثقافة نظافة المحيط، تسيير النفايات وتهوية المنازل، وحث المواطنين على تلقيح أبنائهم في الوقت المناسب لتفادي الأمراض، وغيرها من المهام التي يقوم بها طب الوقاية، وبذلك تقل الحالات المرضية ويخف الضغط على المستشفيات والمصحات، وتخفض تكاليف العلاج المجاني، الذي يمكن تحويله إلى ما ينفع أفراد المجتمع في مجالات أخرى.

وترى الدكتورة زبوجي أنه يجب أن نخرج إلى الميدان ولا ننتظر مجيء المريض إلى المستشفى أو المِصحة، كي ننشر ثقافة الوقاية ونجمع المعلومات الصحيحة عن واقع الصحة، التي تبنى على ضوئها سياسة الإنفاق ورسم المنظومة الصحية المناسبة، مضيفة أن الوصاية بحاجة إلى بنك للمعلومات حول الأمراض الموجودة، وتصنيفها حسب الفئات والمناطق والجنس.. وغيرها، لكن هذا يحتاج إلى إمكانيات وتخطيط إداري، يطبق في الميدان إستراتيجية ناجعة، تحقق الأهداف المسطرة. 

وتأمل الطبيبة أن تقتدي بلادنا بالدول المتقدمة التي نجحت في نشر الطب الوقائي وتزويده بإمكانيات ضخمة، كمخابر التحاليل الميكروبيولوجية، وغيرها وتكوينهم، لتمكينهم من جمع آخر المعلومات عن قطاع الصحة في الميدان.

البروفيسور إسماعيل (مستشفى مصطفى باشا):

الوقاية الصحية أساسية ولها ثمن..

من جهته، يرى البروفيسور إسماعيل رئيس مصلحة علم الأوبئة والوقاية بمستشفى «مصطفى باشا» أنّ نمط الحياة المعاصر هو سبب الكوارث الصحية، خاصة في العالم الثالث، مؤكّدا أنّ مناخ العمل لا يساعد على نشر ثقافة الوقاية الصحية التي تتطلّب جهدا وثمنا وعناية أكبر، وأنّ ذلك لا يعني أنّه لا يوجد لدينا طب وقائي، لكنه يحتاج إلى دعم وتفعيل أكثر في الميدان للمساهمة في التقليل من الإصابة بالأمراض. وقال محدثنا «نحاول القيام بالتحسيس وتوعية المواطنين خارج المستشفى، ولا ننكر أنّ المنظومة الصحية تحتوي على جوانب عدّة لدعم الصحة الوقائية، لكن المختصين ينتظرون دعما أكبر والتفافا كبيرا من طرف مختلف القطاعات لإنجاح الوقاية.

ويقر البروفيسور إسماعيل أنّه ليس من السهل أن يكون الطبيب متخصصا في الوقاية، لأنّ ميدانها واسع يشمل العديد من الميادين التي تدخل ضمنه اختصاصات التغذية الصحية، الحساسية وغيرهما. وينصح محدثنا أن تعمل كلّ القطاعات لجعل المواطن يفكّر بطريقة وقائية لا علاجية، لأنّ ذلك أكثر فائدة، وعلى أيّ مواطن أن يعتاد على إجراء التحاليل الطبية سنويا على الأقل، للتأكد من التوازن الصحي.. ولم يخف البروفيسور أن هناك من المواطنين من يمتنعون عن القيام بالتحاليل مخافة اكتشاف أمراض لا يتوقعونها.

الدكتور لمجداني (مستشفى نفيسة حمودي بحسين داي):

الهيكلة في 2007 قزّمت دور الطب الوقائي

ويعترف الدكتور لمجداني المختص في طب الوقاية بمستشفى «نفيسة حمودي» (بارني سابقا) بحسين داي، أنّ هذا التخصّص غير مرغوب فيه في الجامعة، لأنّهم لا يعرفون قيمته، وينظر الناس لمهنة الطبيب من زاوية العلاج، وليس من زاوية الوقاية، كون الأغلبية لا يزورون الطبيب إلا عندما يمرضون.

كما يطرح محدثنا إشكالية التقسيم الذي أقرته الوصاية في 2007، عند استحداث المؤسسات العمومية للصحة الجوارية، التي جعلت فيه مصلحة الوقاية، باعتباره ذا صلة بالمجتمع، لكن بقي دور الأطباء بالمستشفى محدودا جدا، ولا يتعدى أسوار هذا الهيكل، وطبيب الوقاية بالمستشفى ليس له أي علاقة أو اتصال مع المجتمع، مؤكدا أنّ هذه القطيعة أخلّت بعملية الوقاية.

وكشف محدثنا أنّ الأخصائيين سيطرحون هذا المشكل، خلال الإدلاء بآرائهم في مشروع إعادة هيكلة القطاع، الذي راسلت وزارةُ الصحة بشأنه مختلفَ المصالح منذ أسابيع قليلة، وطالبت إيفادها بجملة من الاقتراحات، لضبط الخريطة الصحية القادمة، التي تبنى أساسا على «بنك المعلومات الصحية» الذي يسهم في دعمه بالإحصائيات من طبيب الوقاية بشكل كبير.

الأطباء المعالجون يعترفون

يعترف الأطباء المعالجون، بأهمية هذا التخصّص القاعدي، الذي يقي من الكثير من المشاكل والتعقيدات الصحية، حسبما أكدته لـ«المساء» الدكتورة حورية حسيني (الطب العام)، التي ذكرت أنّ كلّ المصاريف التي تنفق على العلاج، من تجهيزات طبية وأدوية، كان الأجدر أن نكون في غنى عنها، لو اهتممنا بمعرفة «المسبب» والقضاء عليه، قبل أن يعود بالضرر على الإنسان.

وتقر محدثتنا أنّه يستحيل على الطبيب المعالج القضاء على الأمراض، بمجرد وصف الدواء، دون أن يرجع إلى معرفة المسبب والقضاء عليه، وأنه يجب أن يتم فتح الأبواب لأفراد المجتمع لنشر الوعي الصحي وتعليمهم الطرق الصحيحة التي تساعدهم على تفادي الأمراض، خاصة ما تعلق بالأمراض المعدية التي تنتشر بسرعة، وقد تكون قاتلة، والتي يتعيّن التقصي بشأنها، ومن مهلكات الجسم، الإدمان على المخدرات والكحول والتدخين، والعلاقات الجنسية غير الشرعية، فضلا عن العادات الغذائية وما يترتب عنها من أمراض القلب والسكر وأخطرها السرطان.

وتفصل الطبيبة أنّ لكلّ نوع من الأمراض طريقة للوقاية منه، ومثال ذلك الإدمان على المخدرات، الذي يعد مرضا نفسيا يعود بالضرر على الصحة الجسدية، والوقاية تكون نفسية في الأوّل، مع الأخذ بعين الاعتبار الأمراض العضوية التي يخلّفها الإدمان، وكذلك الأمر بالنسبة للكحول والتدخين.

وتنصح الطبيبة، لتفادي الإصابة بأمراض القلب وارتفاع الضغط وغيرها، بنشر ثقافة الوقاية وتوعية المجتمع ومساعدة الناس على التخلص من العادات الغذائية السيئة التي تتسبب في الكوارث الصحية.