"المساء" تزور "آلهة الانتصار" بمدينة الجسور

أساطير نصب الأموات تأسر زوار قسنطينة

أساطير نصب الأموات تأسر زوار قسنطينة
  • القراءات: 12033
شبيلة. ح شبيلة. ح

تزخر مدينة قسنطينة التي يعود تاريخ تأسيسها إلى 2500 سنة، بالعديد من المعالم الأثرية والروائع الفريدة من نوعها في العالم، والتي صنعت جزءا من هوية المدينة العريقة التي تعاقبت عليها العديد من الحضارات، التي تركت بصمتها في أرجاء مدينة مازالت تنبض بالحياة، بفضل إبداعات فنانين عاشوا في القرون الغابرة، وإن كانت، اليوم، مهددة بخطر الاندثار والزوال لعدة عوامل؛ منها الطبيعية والبشرية، وما أكثرها! حيث تشهد هذه المعالم وضعية مقلقة جراء الانهيارات المتتالية والمخاطر المحدقة بها، والتي أضحى وجودها المادي والتاريخي والحضاري مهددا، كما هي حال "نصب الأموات" أو ما يُعرف باسم "المونيمان" المنتصب على تلة ترتفع غير بعيد عن جسر سيدي مسيد خلف مستشفى ابن باديس. هذا المعلم التاريخي الذي نُسجت حوله الكثير من الأساطير والروايات، ليبقى شاهدا على ثلاث حقبات تاريخية تلامس معتقدات الرومان، وتخلّد أموات الحرب العالمية الأولى، واحتلال فرنسا الجزائر.

كنز تاريخيّ سحرت أساطيره السياح والسكان 

يُعد نصب الأموات من الرموز والمعالم التاريخية والفنية القديمة التي تشكل جزءا من هوية المدينة، كما هي الحال بالنسبة للمعالم والآثار الموجودة عبر العديد من الدول الأخرى؛ كروما وفيينا والأقصر وغيرها؛ فقد أغرت أساطيره السياح من كل الأمكنة. تم تشييده سنة 1934 من طرف السلطات الفرنسية، التي أرادت تخليد أرواح جنودها الذين سقطوا في ساحات المعارك ضد النازية، نُقشت أسماؤهم على ألواح من البرونز ثُبّتت داخل المعلم، كما ثُبّت عليه تمثال النصر، أو ما يُعرف بآلهة الانتصار، جالبة الحظ السعيد في أساطير الرومان واليونانيين، وهي عبارة عن امرأة مجنحة تشبه طائرا خرافيا، يتأهب للتحليق؛ تيمنا بمعتقد النصر عند الرومان.

وفي هذا الصدد يذهب البعض إلى أن قوس النصر المتواجد بشارع الإليزيه بفرنسا الذي شُرع في تشييده بطلب من "نابوليون" ودُشن سنة 1836 من طرف "لوي فيليب"، قد تم استلهامه من مجسم صغير يعبّر عن معتقد النصر في الحضارات القديمة، وهو ما يمثل إله الانتصار عند الرومانيين. ويُعد المعلم التاريخي الأكثر شعبية في قسنطينة نظرا لموقعه وعلاقة السكان المحليين به؛ فالتمثال مصنوع من البرونز، يعلو قاعدة حجرية مصقولة تشبه إلى حد بعيد قوس النصر في باريس، وهو عبارة عن نموذج للتمثال الأصلي صغير الحجم، اكتُشف بقسنطينة بالقصبة، وتحديدا في الفترة الممتدة بين 1940 و1944.

معلَم تحرسه أرواح محاربي الحرب العالمية الأولى

في بداية القرن الماضي كانت قسنطينة خليطا من الديانات، فعلى بعد عشرات الأمتار فقط عن نصب الأموات المحاذي للمستشفى الجامعي ابن باديس بقلب عاصمة الشرق الجزائري، يوجد شارع رحبة الصوف وبن تليس، وهما منطقتان سكنتهما العائلات اليهودية، ومنها عائلة المغني ريمون وصهره أونريكو ماسياس. كما أن شارع "رود فرانس" المعروف حاليا بشارع 19 جوان غير البعيد عن المكان، كان مليئا بالمعمرين الفرنسيين المسيحيين. وارتبط المعلم بالمحاربين؛ من مسلمين ومسيحيين خلال الحرب العالمية الأولى، سقط منهم كثيرون بين قتلى وأسرى لدى الجيوش الألمانية، فتم بعث مشروع إنجاز نصب لموتى الحرب العالمية الأولى؛ تخليدا لأرواح الجنود بعد خمس سنوات من نهاية الحرب العالمية الأولى، ليرى النور بعد عشر سنوات، وهو عبارة عن قوس يعلو منحدر وادي الرمال بأكثر من 600 متر. ويعلو القوس المرتفع بقرابة 12 مترا، تمثالا لسيدة بجناحين، يشبه كثيرا تمثالا يوجد في فرنسا؛ تخليدا لأرواح هؤلاء المحاربين. وهناك جدارية حجرية كبيرة، نُقشت عليها كل الأسماء.

آلهة الانتصار جالبة الحظ السعيد

يحتل نصب الأموات الذي يتربع أعلى صخرة وادي الرمال، موقعا جغرافيا مميزا، له مناخ خاص، ينتشر خلاله الهواء العليل بالنظر إلى ارتفاعه، وجغرافيته الساحرة التي تطل على وادي الرمال وعلى جسر سيدي مسيد، جعلت منه ملتقى للعائلات القسنطينية وكذا السياح القادمين من كل مكان؛ فهو يأخذك منذ الوهلة الأولى، إلى رحلة معبَّقة بتاريخ وثقافة المدينة؛ في جو يسوده الصفاء والسكينة والراحة النفسية بعيدا عن ضوضاء وصخب المدينة؛ فهدوء المكان يأسر من يزوره، خاصة من الباحثين عن السكينة والراحة. كما أن المكان كان حاضنا منذ الأزل، للشعراء والكتّاب والرسامين، وشاهدا على إبداعاتهم، غير أنه تحوّل في وقت من الزمن، إلى مرتع للمجرمين، الذين عاثوا فسادا فيه لسنوات. وتزايد عدد الاعتداءات على كل من يزور المكان، ليسترجع، بعد سنوات، سكينته وأمنه.

محاولة متعثرة لإعادة بريق المعلم

حظي نصب الأموات خلال تظاهرة عاصمة الثقافة العربية، باهتمام كبير من قبل السلطات المحلية، وتم إدراجه ضمن المواقع المعنية بإعادة التأهيل، قررت حينها السلطات المحلية تهيئته وترميمه ورد الاعتبار له، خاصة أن السفير الفرنسي زار المكان منذ قرابة 5 سنوات في ذكرى نهاية الحرب العالمية الأولى، ووضع إكليلا من الزهور، فكان لزاما على السلطات المحلية تنظيف الموقع، والقيام ببعض الترميمات، وتأمين المكان، الذي صار يجلب الكثير من السياح الجزائريين والأجانب، غير أن تلك المساعي بقيت مجرد نوايا وأمنيات لم تتحقق. ولم يأخذ المعلم حقه رغم ما يمثله من تاريخ عريق للمدينة. وكثير من سكانها لا يعرفون عنه سوى اسمه، والسواد الأعظم لم يتمكنوا من زيارته لعدة أسباب. ويزوره الفنانون والمشاهير عند قدومهم إلى قسنطينة، ليبقى شامخا بتمثاله، الذي يبسط جناحيه ليحمي مدينته العريقة.

موقع النصب، مكان فضَّله ابن باديس...

ساهم موقع نصب الأموات الاستراتيجي والذي كان له سحر خاص، في أن يكون قِبلة ليس للسياح فقط، بل حتى لكبار المشايخ وعدد من الفنانين والمخرجين، الذين اختاروه لتصوير أعمالهم الفنية؛ حيث روى مشايخ المدينة والباحثون في التاريخ، أن الشيخ عبد الحميد بن باديس كان في وقت راحته القليل جدا، يأخذ بعض تلامذته نحو نصب الأموات للراحة واستنشاق الهواء العليل، في هذا المكان المرتفع الشامخ، ويأخذ معه الكثير من الأطعمة التقليدية، ومنها لبراج باللبن في فصل الربيع.

قِبلة الفنانين والمخرجين

كان المعلم التاريخي قِبلة عدد من الفنانين والمخرجين الذين اختاروه بالنظر إلى جماله، وطبيعته التي توحي بالكثير من الهدوء والجمال، حيث اختاره الفنان الباتني الراحل حكيم الكاهنة، الذي صوّر أغنيته الشهيرة يا مرحبا بأولاد سيدي، في هذا المكان الساحر. كما إن أول فيلم بوليسي في تاريخ الجزائر المستقلة، تم تصوير بعض مقاطعه في نصب الأموات، وبدون أن ننسى الفنان الراحل عبد الحليم حافظ، الذي قدّم في جويلية 1963، وصلات غنائية لأعيان المدينة في منطقة "المونيمان"، بعد أن انقطع التيار الكهربائي عن ملعب بن عبد المالك، الذي كان من المفروض أن يحتضن حفلته الغنائية في الذكرى الأولى للاستقلال. وزارته الفنانة ماجدة الرومي سنة 1998، وسحرها منظره. وزاره الفنان كاظم الساهر بعد ذلك، وأُعجب به، واقترح على مديرية الثقافة، تصوير كليب لأغنية قولي أحبك التي كتبها نزار قباني، بين جسر سيدي مسيد ونصب الأموات، مع استقدامه راقصات من باليه القاهرة، ولكن اقتراح كاظم الساهر بقي من دون ردّ، وهو ما جعله ينقل الكليب الذي نجح أيما نجاح، إلى ميلانو الإيطالية.

وِجهة العائلات والجمعيات النشطة بعد ترميمه، كل جمعة

نصب الأموات الذي رُد له الاعتبار خلال السنوات القليلة الماضية، بات يعرف إقبالا كبيرا من طرف الزوار من داخل وخارج المدينة؛ حتى إنه يكتسب شهرة واسعة خارج الوطن؛ إذ يُعد مقصدا ووجهة للسياح الأجانب، الذين يتوافدون على قسنطينة؛ إذ بات الزوار الذين يقودهم كل جمعة مرشدون سياحيون، يزورونه وسط أجواء جميلة تصنعها العائلات القسنطينية، لتقدم كل ما تشتهر به المدينة؛ من حلويات تقليدية، وألبسة للتعريف بموروثها؛ حيث باتت وسائط التواصل الاجتماعي تنشر كل أسبوع، صورا لزوار النصب، الذين اختاروه لقضاء أوقات راحة واستجمام وسط أجواء فنية وتراثية، خاصة بعد اختيار العديد من الجمعيات والفرق الموسيقية، المعلم لتقديم وصلات غنائية تراثية، فيما يختاره شباب آخرون لقراءة الكتب وتبادلها في جلسات أدبية راقية، وبعضهم يلتقطون الصور التذكارية، خاصة القادمين منهم من مناطق بعيدة.