شهر رمضان

مدرسة الصيام والآداب

مدرسة الصيام والآداب
  • القراءات: 1285

يقول الشيخ مبارك الميلي، رحمه الله، إذا تفقهت في الصيام وما شرع له الإسلام من آداب، وجدته من خير ما يكمل المرء ويزكي النفس ويصلح المجتمع، فإن تكرر الصيام كالتردد على دروس راقية في التربية والأخلاق، ومجيء رمضان من كل سنة، كافتتاح مدرسة سنوية لذلك يقبل بها كل مكلف شرعا من مكلف طبعا بعمل جليل، أو حقير في الهيئة الاجتماعية، وإذا فقهت ما في مدرسة الصيام من منافع للفرد والمجتمع، فتصور سعادة الأسرة الإنسانية الكبرى، ولو أنها كلها دخلت هذه المدرسة ونجح معظم تلاميذها في فهم دروسها وإجادة تطبيقها.

من أجل ذلك، ندب الله إلى الصيام وكتبه في شهر رمضان، وإنا ننبه في إيجاز على لفظ الآداب الخلقية المستفادة من مدرسة الصيام لمن وفق إلى دخولها، وانتبهت بصيرته لدقائق دروسها:

1- فمن تربية الإرادة، لأن الصائم يدع باختياره ما تدعوه نفسه إليه، ولكن الخير في تركه ومن غلب هواه شهرا متتابع الأيام لا يعجز أن يغلبه في بقية شهور العام، وبتكرر السنين على تغلبه يصبح غلب الهوى والنفس عادة ميسورة، وكثير من الناس يألف شيئا، ثم يصبح منكرا له يعقله، ولكن لا يدعه من ضعف إرادته.

فالإرادة بتربيتها وتقويتها، هي التي تعين المقتصد والتائب على ما يهم به من ترك قهوة ودخان مثلا، أو خمر وميسر وغيرهما، فكل من الغني والفقير والشريف والوضيع والصحيح والمريض في حاجة شديدة إلى إرادة قوية.

2- التعود على الصبر، لأن الصائم يجد ما تشتهيه نفسه ويصبر عن تناوله، وأنت في الدنيا بين مطالب عالية لا تدرك إلا باستسهال الصعاب ومصائب عاتية، لا يهون من وقعها إلا الجلد، ومن حرم الصبر ضاعت من يديه مطالبه وقضت على آماله في الحياة مصائبه.

3- تكرير المراقبة لله في السر والعلانية، لأن الصائم قد يخلو  منفردا ولا يرده عن تمتيع نفسه بما لذ من طعام وشراب، إلا شعوره بعلم الله به وعدم رضاه لذلك منه، ومن كان صاحب مراقبة فهو ذو ضمير، ومن كان له ضمير يحجزه عن القبائح والدناءات، فقد استكمل إنسانيته.

4- اكتساب عفة اللسان، لأن الصائم يمسك عن الرفث والصخب ومجازاة من سبه ومجاراة من سفه عليه، واللسان ترجمان؛ القلب وآلة التخاطب، فإذا صلح دل على صلاح القلب وحسن المعاشرة، وهنالك رضي الله ورضي الناس، وهنالك الهناء والسعادة.

5- تنبيه عاطفة الرحمة، لأن الصائم يجد من مس الجوع والعطش ما يشعره بحقيقة ألمهما، ويدله على ألم ما إليهما من عري ومرض، فيتصور ذلك عند مشاهدة مصاب تصورا يحمله على التخفيف من ألم المصاب بكلمة طيبة، هي مبلغ مستطاعه أو بإعانة مادية إن قدر عليها، والرحمة من صفات الرب، وهو لا يتصف إلا بالكمال، ومن ضعفت رحمته ضعفت إنسانيته وكثفت وحشيته.

6- تكوين الشعور بالمساواة، لأن الصائمين مستوون في حكم الصيام.. وهذا الشعور يرفع المستضعف عن الاستكانة لمن أراده بإهانة، ويبعث فيه العزة من حاول استعباده، وينزل بالمستكبر عن عليائه ويزيل منه داء كبريائه، وإذا عمت المساواة انطلقت العقول، وأخرجت قوة النفس مواهبها، فسعد البشر، حيث لا رقيب متجبر ولا واش متملق.

7- تغذية الشعور بالإحسان وشكر المحسن، لأن صيام رمضان شكر على نعمة الهداية بإنزال القرآن، ومعرفة الجميل لأهله استزادة من الجميل وتشجيع عليه.

8- الاحتفاظ بالذكريات التاريخية، لأن صيامنا اليوم رمضان هو إحياء لذكرى ذلك الشهر الذي بعث فيه رسول الرحمة، متمم مكارم الأخلاق وأنزل فيه أول آيات من القرآن في الدعاء إلى القراءة والتعليم، وتمجيد العلم وتكريم القلم، وكل شعب احتفظ بذكرياته التاريخية، فقد احتفظ بمادة وجوده، ولم يكن سهل المساغ لمن اهتم بابتلائه فإن جرؤ جريء على ازدرائه مزدريا بمقومات قوميته، بقي له كالشجا بين حلقه والوريد.

يدرك هذه الآثار وما إليها لعبادة الصيام من تفقه في قوله تعالى "كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون" (الآية 183 سورة البقرة)، وقوله سبحانه "شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس" (الآية 185 سورة البقرة)، ومن وقف كذلك على ما جاء من أحاديث في فضل الصيام وآدابه.

وبعد، فهل قدر الناس قدر رمضان أم وقف الصائمون على أسرار الصيام وقصدوا إليها؟ لقد قدر الصحابة رضوان الله عليهم قدر هذه العبادة، وفقهوا أسرارها، فظهرت عليهم آثارها وجنوا ثمراتها، فكانوا خير أمة عرفها التاريخ عدلا وفضلا وبساطة في العيش، ورقيا في العقل وحرية واحتراما للنظام.

أما اليوم ودهرا قبل اليوم، فقد أمسى المسلمون يتبرمون من الصيام وفيهم ـ وما أكثرهم بالحواظر- من انحلوا من هذه الشعيرة ورفضوها، رامين من حافظ عليها بالجمود والتهيج وعامتهم لا يتأدبون بآدابه، ولا يشعرون بفوائده، صباحهم كسل وهيام، ومساؤهم ضوضاء وخصام وليلهم تبذير في المباح والحرام، فإذا انقضى الشهر ودعوه وداع المستثقل لظله، وخرجوا منه خروج المجرم من السجن، وكان عيدهم كفرا لا شكرا وحوبة لا توبة.

يجب أن نرجع إلى سيرة السلف الأولى لنستعيد ما أضاعه علينا الخروج عنها، فنقدر رمضان قدره ونودعه وداع من عرف فضله وسره، فيكون عيدنا شكرا على نعمة محبوبة، وحفاوة بمنحة موهوبة لا نتنعم فيه إلا بما يرضي المنعم، ولا نستطيب فيه إلا ما ليس فيه مأثم، ثم يكون عامنا استذكارا لدروس مدرسة الصيام واستحضارا لفوائدها الجسام، فإن فعلنا كنا الأقوام، يرضى عنا الملك العلام ويقرأ حسابنا كل الأنام ويعتد بنا في حالي الخطر والسلام.