فوائد الصوم..

بقلم: أبو يعلى الزواوي

أقبل رمضان المعظم ذلك الركن الإسلامي العظيم الشأن على الرَّحْب والسَّعَة. ثم إن كثيراً من الناس المسلمين الجهال يستثقلون الصوم وما ذلك إلا لضعف الإيمان وعدم إدراك أسرار الصوم التي لا تُعَدُّ ولا تُحْصى. مثلما أن النصارى لم يدركوا أولاً أسرار تحريم الخمر ثم ظهرت لهم غرائبُ بَوَائِقِهِ. فأسرار الصوم كأسرار تحريم الخمر ظهرت الآن للأطباء النصارى وظهرت للعارفين منَّا، ولو لم يكن من أسرار الصوم إلاَّ تَعَوُّد الصبر المذكور في القرآن سبعين مرة فأكثر، لكفى.

فإنَّ الصبر من أجمل الخصال ومحامد الفعال، ولكن ليس الصبر أيضاً على الأكل فقط، بل على جميع ما يَعْرِضُ من الرذائل والقبائح وسوء الفعال والمنكرات، وقوله (صلى الله عليه وسلم): « وإن امرؤ شاتمه أو قاتله فليقل إني صائم إني صائم». وهو معنى الآية: (ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا). والصوم يَلِيقُ بالغني والفقير، فالغني يرتاح من الشِّبَع المُضِرِّ بصحته، ولعلَّهُ يشكرُ الله الذي رزقه ليأكل حتى يشبع، ويذكرُ الفقير.

والفقير يزداد الاعتيادَ على الصبر ويتَمَرَّنُ على حمل الجوع، ويَرْتَاضُ إلى أن يحمله ذلك على التمادي على الصبر، أو يستعمل الهمة لطلب الرزق ويَكِدّ ويجتهد في طلب الحلال إذا وجده، وإذا لم يجده يصبر، ويقول في نفسه أُقَدِّرُ في نفسي أني صائم. وأمَّا إذا اعتبر كلٌّ من الغني والفقير الأسرارَ الإلهية النورانية من التَّشَبُّه بالملائكة، وما يفتح الله عليهما من الرؤى الروحانيات والأسرار الربانية، ذلك أن الروح التي لولاها ما سُمِّيَ الإنسانُ إنساناً بلْ ولا وَجَدَ نورانية، إنما شغلها عن أنوارها شواغلُ النفس الأمَّارة بالسُّوء بكثرة الأكل والشهوات، فيظلم الروح، وتقطع بينها وبين الله الصلة بالحجب النفسانية ـ إذا اعتبر كلٌّ هذا، هان قمعُ النفس، وحلا الصوم الذي هو سببٌ لمشاهدة الأسرار، وبالتالي إنَّ الصوم شهامةٌ، وفي الصوم اقتصادٌ، والاقتصاد مطلوبٌ. وإن الصبر على الأكل من الأخلاق المحمودة، وكان (صلى الله عليه وسلم) إذا دخل بيته، قال لأهله: « أفيه شيءٌ؟ » فإذا كان شيءٌ قَدَّمُوهُ له، وإذا لم يكن شيءٌ، أعني أجابوه: أنْ لا شيء. يقولُ: « إذاً أنا صائم »، وهذا هو الخلق العظيم. وأمَّا فوائدُ الجوع من حيث الطب، فقد أجمع الأطباء على أن دوام الشِّبَع مُضِرٌّ بالصحة، مُفْنِي للمعدة؛ بيت الداء. وإنَّ قِلَّة الأكل تنفع لجميع الأمراض، حتى مرض العين. أُحدثكم عن نفسي، أيُّها الإخوان في الدين، واللهُ على ما أقولُ شاهدٌ، وكفى بالله شهيداً: مَرِضَتْ إحدى عَيْنَيَّ منذ سنتين، يزيد وينقص ذلك المرض، ولما أصابتني مرض الحمى هذه المدة الأخيرة، ألزمني الطبيب وألزمتُ نفسي الحِمْيَة. ذهب بسبب تلك الحمية مرضُ عيني، ولما رجعت إلى الأكل والجماع رجع إلي مرض عيني، ولما رجعت إلى الحماية ذهب مرض عيني ، وهكذا مراراً. فَثَبَتَ لي بالبرهان التجريبي والاختبار أنَّ الحمية دواءٌ عجيبٌ، فإذا كانت الحمية ظاهرة في عيني، ولا شك أن تظهر أيضاً في عين الذات كلها والروح أيضا قليله. ولله دَرُّ القائل:

يا عامراً لخـراب الدهر مجـهداً ... بالله هل لخراب العُمْرِ عمران

أقبل على النفس واستكمل فضائلها ... فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان

وقد قاوم الهندي ابن غاندي في سبيل الوطن ألم الجوع شهرين كاملين أي صام ستين يوماً مُتَّصِلَةً، فمات. ونحن في سبيل الله نعجزُ، عن يومٍ واحدٍ، فيه بِضْعُ ساعاتٍ. مَا أَسْقَطَ هِمَّةً كهذه، وما أخزاها، أَو كما قلنا في خُطْبَةٍ: يَرْتَكِبُ الْمَرْءُ الْمُرُوق؛ لمُِِجَرَّدِ لُقْمَةٍ تَرُوق.

قراءة 1040 مرات