غض البصر

غض البصر
  • القراءات: 3398

الغض لغة هو مصدر قولهم: غض بصره يغضه غضا، وهو مأخوذ من مادة (غضض) التي تدل على معنيين: أحدهما: الكفّ والنقص. والآخر: الطراوة، وغض البصر من المعنى الأول، وكل شيء كففته فقد غضضته. وقال بعضهم: الغضّ: الخفض، والكفّ والكسر، وأصل الكلمة: غضّ يغضّ غِضا (بكسر الغين) وغَضا وغَضاضة وغَضاضاً (بفتح الغين). فقولك: غضّ طرفه: أي خفضه، وكذا غضّ صوته، وكل شيء غضضته كففته، والأمر منه: اغضض، وغضّ طرفك.

و(البصر) لغة: اسم لآلة الإبصار، وهو مأخوذ من مادة (بصر) التي تدل على العلم بالشيء، ومنه أيضاً: البصيرة، وبَصُرتُ بالشيء: علمته، والبصير: العالم، والتّبصر: التأمل والتعرف والبصيرة: الحجة، والاستبصار في الشيء. ويقال: أبصر الرجل إذا خرج من الكفر إلى بصيرة الإيمان.

وغَضُّ البصر اصطلاحاً: أن يغمض المسلم بصره عما حرم عليه، ولا ينظر إلا لما أبيح له النظر إليه، ويدخل فيه أيضاً إغماض الأبصار عن المحارم.

قال القرطبي: البصر هو الباب الأكبر إلى القلب، وأعمر طرق الحواس إليه، وبحسب ذلك كثر السقوط من جهته، ووجب التحذير منه، وغضه واجب عن جميع المحرمات، وكل ما يخشى الفتنة من أجله.

ومن النصوص الآمرة بغض البصر قوله تعالى: {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون، وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن} (النور:30-31)، قال ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية: هذا أمر من الله تعالى لعباده المؤمنين أن يغضوا من أبصارهم عما حرم عليهم، فلا ينظروا إلا إلى ما أباح لهم النظر إليه، وأن يغضوا أبصارهم عن المحارم، فإن اتفق أن وقع البصر على محرم من غير قصد، فليصرف بصره عنه سريعاً.

وروى الإمام أحمد عن عبادة بن الصامت، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (اضمنوا لي ستاً من أنفسكم أضمن لكم الجنة: اصدقوا إذا حدثتم، وأوفوا إذا وعدتم، وأدوا إذا اؤتمنتم، واحفظوا فروجكم، وغضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم) حسن لغيره.

وروى الإمام أحمد أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي رضي الله عنه: (ياعليُّ! لا تتبع النظرة النظرة، فإنما لك الأولى، وليست لك الآخرة) حسن لغيره.

وروى الإمام مسلم عن جرير بن عبد الله، قال: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفُجَاءة، فأمرني أن أصرف بصري). ومعنى (نظر الفجأة) أن يقع نظره على الأجنبية من غير قصد، فلا إثم عليه في أول ذلك، فيجب عليه أن يصرف بصره في الحال، فإن صرف في الحال، فلا إثم عليه، وإن استدام النظر أثم.

وما أكثر المناظر التي أصبح من المحتم غض البصر عنها، فالقنوات الفضائية، بل قل: (الشيطانية) التي يتقن القائمون عليها فن الإغراء والإغواء، باختيار الوجوه الحسان، والأجساد شبه العارية والأصوات الناعمة، وغير ذلك من المغريات والمفتنات، حتى أصبحت مجاهدة النفس على غض البصر من أهم المهمات، وآكد الواجبات، وصار الفشل فيها لدى الشباب ذريعة إلى الوقوع في الفحشاء والمنكر، والانقطاع عن عمل الخير، وضعف تأثير العبادة كالصلاة والصوم، وسبب لكثير من المعاناة والضيق وكدر الحياة.

ولغض البصر عما حرم الله جملة فوائد، منها:

- أنه امتثال لأمر الله تعالى، الذي هو غاية سعادة العبد في معاشه ومعاده.

- أنه يمنع وصول أثر السهم المسموم، الذي ربما كان هلاك قلبه فيه.

- أنه يورث القلب أنساً بالله سبحانه، لأن غض البصر لا يكون إلا باستحضار الخوف من الله، وعملاً بما نهى عنه، وهذا الاستحضار هو بمعنى ما ذكر الله، وقد قال تعالى: {ألا بذكر الله تطمئن القلوب} (الرعد:28).

- يقوي القلب ويفرحه، كما أن النظر إلى المحرمات يُضعف القلب ويحزنه.

- يكسب القلب نوراً، كما أن إطلاقه يورثه ظلمة، وقد قال بعض السلف: (من حفظ بصره أورثه الله نوراً في بصيرته).

- يورث الفراسة الصادقة التي يميز بها بين المحق والمبطل والصادق والكاذب.

- يورث القلب شجاعة وقوة، فيجمع الله له بين سلطان البصيرة والحجة، وسلطان القدرة والقوة.

- يسد على الشيطان مدخله إلى القلب، فإنه يسرع إلى القلب مع النظرة أسرع من الهواء إلى المكان الخالي.

- يفرِّغ القلب إلى مصالحه، والاشتغال بها.

وعليك أيها الشاب المؤمن ألا تيأس ولا تستسلم، ولو أغراك الشيطان، فحملك على الدخول إلى موقع إلكتروني، أو سوَّل لك النظر إلى صورة خليعة، أو فتاة فاتنة، بل عليك أن تلزم الاستغفار، وتجعله على لسانك ليل نهار، ولا تحرم نفسك من الانضمام إلى قافلة {والمستغفرين بالأسحار} (آل عمران:17)، فللاستغفار سر عجيب، من محو آثار النظر وصفاء القلب وتجديد العزيمة وبسط سلطان السعادة على النفس، والحمد لله الذي شرع للمؤمنين التوبة، وحفَّزهم على الاستغفار، ووعدهم بالعفو والغفران.

والمؤمن مأمور بغض بصره عما حرم الله عليه في الأحوال والأزمان كافة، ويكون الأمر آكد في شهر رمضان، إذ هو شهر العبادة، وشهر التقرب إلى الله سبحانه، فلا يليق بالمؤمن أن يفعل في هذا الشهر ما يبعده عن ربه، وهو أحوج ما يكون قريباً إليه.

5ـ هل تتأثَّر لتلاوة القرآن أو لسماعه؟

يقول صاحب الظِّلال”: الحياة في ظلال القرآن نعْمة، نعمةٌ لا يعرفها إلاَّ مَن ذاقها، نعمة تَرفع العمر وتباركه وتزكِّيه.

وهذا بطل العالَم في الملاكمة محمد علي كلاي عام 1960 لما بلَغ العشرين من عمره حصَل على لقب بطل العالَم في الملاكمة في أقْصَر المباريات، وأمام ضَجِيج المعْجَبين، وفلاشات آلات التصوير أَعْلَن إسْلامه قائلاً: أشهد أنْ لا إله إلا الله وأنَّ محمَّدًا رسول الله، ولمَّا سُئِل عن سبب إسلامه قال: بدَأْتُ أعيش مع القرآن، وخاصَّةً مع الفاتحة أوَّلِ سورة حَفِظتها منه، وبدأتُ رحلةَ الإسلام رحلةَ طُمَأنينة، ورحلة إيمان يَعِيشها صاحبُها بتعاليم خالِقه وقال: إننا لو قُمْنا بهذه الدعوة سنَجِد حشودًا كبيرة تَدخل إلى الإسلام، الَّذي عنْدما تقارنه بغيره مِن الأديان تعرف أنَّه الدِّين الذي يهدي القلوب إلى دين الحق والنقاء.

جاء القرآن لتأسيس أصُول الحياة وبناء الحياة ونشْر العدالة والمساواة بين الناس، قال - تعالى -:  وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ  [الإسراء: 70].

كما أنَّ القرآن دعا إلى الحرِّية، فمِن نُظُمِ القرآن في الهداية والإصلاح الإعداد للمستقبل، مثلما جاء في قصة سيدنا يوسف:  قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ [يوسف: 47]، فالقصَّة ليست استثناءً، ولكنها دعوة للمسلمين جميعًا إلى التخطيط والإعداد للمستقبل.

ولقد استوعبَ القرآنُ الحضاراتِ السابقة، فالقرآن الَّذي هو منهاج الإسلام لم يأت للقضاء على الحضارات السابقة، ولكنْ لتقويمها وتصليحها وتعديلها، والاستفادة من تَجارِبها، ولقد رَحَّب الإسلام بكل منْجَزات البشرية، والتي لا تتعارَضُ وإنسانيةَ الإسلام، نزَل مفرَّقًا على ثلاثة وعشرين عامًا على مُكْث، لِتُعْلِمَ الناس بما فيه.

وعلى هذا، فإنَّ جَميع المسلمين مدْعوُّون كلٌّ على قدْر استطاعته إلى العمل بما يخْدم الإسلام والمسلمين، وبالوسائل الممْكِنة والنافعة، فإنَّ الفلاح كلَّ الفلاح في الأخْذ بهذا المنهج القويم، وصدَق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إنِّي تارِكٌ فيكم ما إنْ تمَسَّكتم به لن تَضِلوا بعدي أبدًا: كتاب الله وسنَّتِي)، صحيح مسلم.

والأمَّة التي تَستمسك بِهذا القرآن قادمة، نَرى بشائرها في الجهاد المقدَّس، وفي امْتلاء المساجد، وفي الأمْر بالمعروف، وفي النهي عن المنكر، وفي المواقف القويَّة التي تَقُول للفاجر: قِفْ، وللظالِم: توقَّف، وللناسي: تذكَّر، وللجاهل: تعلَّم، وللمقصِّر: عُد، وللمذْنِب: استغْفِر، وللضالِّ: اهْتَدِ.

نريد الصَّحْوة التي تنبعث من أعماق البيوت، وتَخرج من أعماق المساجد، وتَدخل في أعماق القلوب، لتحرِّكها بالله، وتَجمعها على الله، وتذكِّرها بالله، فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ  [ق: 45] وتؤثِّر فيها بكتاب الله،  لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ  [الأنبياء: 10].