الصيام عبر التاريخ

صيام الأنبياء منذ آدم عليه السلام

صيام الأنبياء منذ آدم عليه السلام
صيام الأنبياء منذ آدم عليه السلام
  • القراءات: 10413

الصوم في اللغة مطلق الإمساك عن أي عمل، حتى جاز أن يقال: صام عن الكلام، أي سكت وأمسك عن الحديث، وإلى هذا يشير قول الله سبحانه وتعالى حكاية عن السيدة مريم: "إنِّي نذرت لِلرحمنِ صوما فلن أكلِّم اليوم إنسيّا" (مريم: 26).

وجاء المعنى الشرعي موائما لهذا المعنى اللغوي.. فلم يخرج عن دائرة الإمساك والتوقف، وإنما أحيط بقيود خاصة أضفتها عليه طبيعة الصياغة الشرعية للغة، فقال الفقهاء: إن الصوم شرعا هو الإمساك عن جميع المفطرات.

وقد مارس الإنسان بفطرته منذ العصور الموغلة في القدم، أنواعا متعددة من الصيام؛ استجابة منه لرغباته النفسية وحاجاته البدنية.. مارسه في أول الأمر كوسيلة للتداوي، فكان إذا أحس بالتخمة أمسك عن تناول الطعام حتى يبرأ ويشفى.

وقد روى الأئمة والفقهاء أن أول من صام من الناس أبو البشر آدم عليه السلام، وكان أول صيامه عقب نزوله إلى الأرض وقبول الله دعاءه وتوبته، وكأن حكمة الله اقتضت أن يكون أول صوم لأول إنسان وسيلة لشكر الله والتقرب إليه. كما رُوي أنه كان يصوم الأيام الثلاثة البيض من كل شهر قمري، ابتداء من الليلة الثالثة عشرة منه حتى نهاية اليوم الخامس عشر.

وقد صام عقب آدم عليه السلام نبي الله نوح عليه السلام، هذه الأيام البيض، وزاد عليها صيام اليوم الذي نجاه الله فيه من الطوفان؛ شكرا لله، يؤيد ذلك ما رُوي عن النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، أنه كان يصوم الأيام الستة التي تعقب عيد الفطر؛ فإذا كانت هذه الأيام البيض الثلاث تبلغ في جميع شهور السنة ستة وثلاثين يوما، فإن عدة رمضان حين تكتمل ثلاثين يوما وتضاف إليها هذه الأيام الستة، تتساوى في مجموعها مع مجموع الأيام التي كان يصومها نوح عليه السلام.

والإنسانية عبر تاريخها الطويل عرفت أنواعا شتى من الصيام، مارسه كثير من الشعوب في بقاع كثيرة من أرض الله كوسيلة للعبادة؛ إذ أكد الفقهاء أن الله تعالى لم يخص المسلمين وحدهم بفرض الصيام عليهم دون غيرهم ممن سبقهم من الشعوب والأمم؛ بدليل قوله تعالى عن فريضة الصوم: "يا أيها الذِين آمنوا كُتِب عليكم الصِّيام كما كتِب على الذِين مِن قبلِكم" (البقرة: 183). وروى كثير من المحدثين أن الصيام لدى العرب كان أثرا مألوفا من بقايا ما جاء به أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام، وأن شريعة الإسلام أقرت كثيرا من شعائر العرب التي كانت سائدة قبل الإسلام بعد تنقيتها من مظاهر الوثنية، يؤكد ذلك قول الله تعالى: "شرع لكم مِن الدِّينِ ما وصّى بِهِ نوحا والذِي أوحينا إِليك وما وصينا بِهِ إِبراهِيم وموسى وعِيسى". (الشورى: 13)

وورد في كتاب الله الكريم إشارات واضحة على أن الإنسانية عرفت منذ القدم، أنواعا شتى من الصيام، أكثرها غرابة الصوم عن الكلام، فقد جاء في قصة العذراء مريم قوله تعالى: "فإِما تريِنّ مِن البشرِ أحدا فقولِي إِني نذرت لِلرحمنِ صوما فلن أكلِّم اليوم إِنسِيا". (مريم: 26)

مما يوضح أن صيامها حينئذ كان إمساكا عن الكلام، واكتفاء بالإشارة في التفاهم مع قومها، بدليل قوله تعالى: "فأتت بِهِ قومها تحمِله قالوا يا مريم لقد جِئتِ شيئا فرِيّا. يا أخت هارون ما كان أبوكِ امرأ سوءٍ وما كانت أمكِ بغِيا". (مريم: 27)

وتحدث القرآن الكريم عن زكريا، الذي كفل مريم بنت عمران، أنه دعا الله قائلا: "ربِّ لا تذرنِي فردا وأنت خير الوارِثِين". (الأنبياء: 89)

فاستجاب الله له ووهبه يحيى، فسأل زكريا ربه أن يجعل له آية تطمئن بها نفسه، فأجابه تعالى بقوله الكريم: "قال آيتك ألا تكلِّم الناس ثلاثة أيامٍ إِلا رمزا واذكر ربك كثِيرا وسبِّح بِالعشِيِّ والإِبكارِ". (آل عمران: 41)

فصدق الله وعده، وبارك له، فجعل يحيى تقيا وبارا بوالديه، فآيته كما اقتضت مشيئة الله تعالى، كانت في صمته وعدم تحدثه مع غيره من الناس لمدة ثلاثة أيام، وهذا يدل بوضوح على أنه اتخذ من صومه بالامتناع عن الكلام، وسيلة للتقرب إلى الله.

وتاريخ الأمم والشعوب حافل بصور كثيرة للصيام، تحفز كل فكر واع وصادق الإيمان، على الاقتناع بأن الصوم الذي فرضه الله على المسلمين، أراد الله به تصحيح المسار الذي عرفته البشرية من قبل في هذا الشأن؛ فهو عبادة فُرضت من لدن حكيم عليم، أراد لعباده منه تهذيب قلوبهم والتسامي بنفوسهم عن الخضوع لإسار الرغبات؛ أملا في أن تقهر نزواتها، ويكتمل لها بالصوم ما يريده الله لها من خير ورحمة.

فقد اقتضت حكمته تعالى منذ فرض الصيام في شعبان من السنة الثانية للهجرة، أن يرقى بعباده في صومهم عما كانت عليه الأمم السابقة، التي كانت تلتزم في صيامها بأساليب غريبةٍ، فقد روي أن بعض الشعوب كانت تقتصر في صيامها على الإفطار مرة واحدة كل أربع وعشرين ساعة؛ مما كان يدفعهم إلى تناول قدر كبير من الطعام والشراب؛ استجابة منهم لدواعي الجوع والعطش حتى تصيبهم التخمة والخمول.

وقد حفظ المسلمون على تعاقب الأجيال، لهذا الشهر حرمته وميزته، فأقبلوا يضاعفون فيه العمل الصالح، ويزدادون نشاطا واجتهادا في ليله ونهاره، في قيامه وصيامه، يستيقظون فيه كثيرا، وينامون قليلا، يرصدون قدومه للتزود من صالح الأعمال والأخلاق حتى تكون مضاعفة الحسنات، حيث فضّل الله بعض الأيام على بعض، وفي قمة هذه الأيام المفضلة شهر رمضان.