الإيمان والاحتساب في رمضان

سرا الصائمين مع ربهم

سرا الصائمين مع ربهم
  • القراءات: 1296

ترتكز الأحاديث الثلاثة الأكثر تداولا بين عامة المسلمين عن فضل شهر رمضان والصيام والقيام وليلة القدر، على قاسم مشترك بينها هي عبارة "إيمانا واحتسابا" التي تكررت فيها بنفس الصيغة كما جاء في الصحيحين.

ففي الصيام وعن أبِي هُريْرة قال: قال رسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليْهِ وسلم: "منْ صام رمضان إِيمانا واحْتِسابا غُفِر لهُ ما تقدم مِنْ ذنْبِهِ". وقال: "منْ قام رمضان إِيمانا واحْتِسابا غُفِر لهُ ما تقدم مِنْ ذنْبِهِ". وقال: "منْ يقُمْ ليْلة الْقدْرِ إِيمانا واحْتِسابا غُفِر لهُ ما تقدم مِنْ ذنْبِهِ".

قال النووِيُّ أن معْنى إيمانا أي تصْدِيقا بِأنهُ حقٌّ مُعْتقِدا فضِيلتهُ، ومعْنى احْتِسابا: أنْ يُرِيد الله تعالى وحْدهُ، لا يقْصِد رُؤْية الناسِ ولا غيْرِ ذلك مِما يُخالِفُ الإِخْلاص. وقال ابن حجر العسقلاني أن الْمراد بِالإِيمانِ الاعْتِقاد بِحقِّ فرْضِيةِ صوْمِهِ، وبِالاحْتِسابِ طلب الثوابِ مِنْ اللهِ تعالى. وقال الْخطابِي: اِحْتِسابا أيْ عزِيمة، وهُو أنْ يصُومهُ على معْنى الرغْبة فِي ثوابِهِ طيِّبة نفْسُهُ بِذلِك غيْر مُسْتثْقِل لِصِيامِهِ ولا مُسْتطِيل لأيامِهِ.

وعلى الرغم من تضمن شرط الإيمان بالله تعالى واحتساب الأجر والثواب عنده في كل عبادة أو طاعة يؤديها المسلم من صلاة أو زكاة أو حج أو غير ذلك، فقد ورد في مسند الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تضمن اللهُ لِمنْ خرج فِي سبِيلِهِ لا يُخْرِجُهُ إِلا إِيمانا بِي وتصْدِيقا بِرُسُلِي أنْ أُدْخِلهُ الْجنة أوْ أُرْجِعهُ إِلى مسْكنِهِ الذِي خرج مِنْهُ نائِلا ما نال مِنْ أجْرٍ أوْ غنِيمةٍ"، غير أن هذين الشرطين في عبادات شهر رمضان كان أوضح وأشهر.

أما الشرط الأول (إيمانا)، فالسر فيه أن الله تعالى لا يقبل من الخلق أي طاعة أو عبادة إلا إن كانت بعد كمال الإيمان به والاعتقاد بألوهيته، وبعد الاعتقاد بفرضية ووجوب ما يأمر به أو ينهى عنه، إذ كيف يمكن أن يثيب الله تعالى إنسانا على فعل أو عمل وهو بعد لم يؤمن به إلها، وبالتالي فهو لم يقدم عمله طاعة وعبادة لله.

فقد يفعل غير المؤمن بالله تعالى بعض الأفعال التي توافق أو تشابه طاعة أو عبادة فرضها الله على المؤمنين، إلا أنه لم يفعلها عبودية لله تعالى وخضوعا لأمره وتنفيذا لمشيئته، ولم يفعلها اعتقادا بفرضيتها ووجوبها عليه من الله تعالى، وإنما فعلها بدافع آخر قد يكون ماديا أو معنويا. كأن يصوم بعض الناس من غير المسلمين صياما طبيا نظرا لفوائده الصحية على الجسد، وقد يتشابه هذا الصيام من قريب أو بعيد بصيام المسلمين في شهر رمضان، إلا أن ذلك لا يعتبر عبادة ولا طاعة لله، وإنما تعتبر طاعة لمصلحة الجسد والنفس البشرية.

وبالتالي فإذا كان المخاطبون بالأحاديث النبوية الثلاثة السابقة هم من المؤمنين بالله إلها وخالقا، فما السر في التأكيد على شرط "إيمانا"؟ والإجابة تكمن في أن ذلك تذكير للمسلم بضرورة استحضار عبوديته لله تعالى في كل عبادة أو طاعة يؤديها له، واستحضار وجوب وفرضية هذه العبادة التي يؤديها، حتى لا تنقلب العبادات مع مرور الوقت والزمن إلى عادات، مع ما في هذا التحول من مفاسد على جوهر العبادة وهدفها وغايتها.

وأما الشرط الثاني (احتسابا)، فالسر فيه توافقه مع خصوصية شهر الصيام، فإذا كانت معظم العبادات المفروضة قد يدخلها نوع من الرياء، نظرا لكونها عبادات مرئية للخلق بشكل أو بآخر، فإن الصيام يختص بكونه العبادة التي لا يمكن لأحد أن يطلع عليها إلا الله، ولذلك جاء في الحديث القدسي عنْ أبِي هُريْرة عنْ النبِيِّ صلى اللهُ عليْهِ وسلم قال: يقُولُ اللهُ عز وجل: "الصوْمُ لِي وأنا أجْزِي بِهِ يدعُ شهْوتهُ وأكْلهُ وشُرْبهُ مِنْ أجْلِي...". فإذا كان الصوم بهذه الخصوصية بين العبد وربه، فإن الإخلاص يكون بلا شك من أهم شروطه ولوازمه، فلا بد أن يحتسب المسلم بصيامه رضا الله تعالى والأجر والثواب منه وحده، وألا يلتفت إلى مدح الناس وثنائهم أو أي شيء آخر من قبيل ذلك.

ومرة أخرى نعود إلى قضية العادات التي قد تزاحم العبادات وتحل محلها، فقد لا يكون الرياء والسمعة والمفاخرة فحسب أعداء الإخلاص، بل هناك عدو آخر خفي، ألا وهو خلو العبادة من نية الإخلاص لله تعالى، من خلال تكرار العبادة دون استحضار النية الصالحة فيها حتى تنقلب إلى عادة، وهو ما يقع فيه كثير من المسلمين. فعلى المسلم أن يكون يقظا في ممارسة العبادات مستحضرا نية طلب مرضاة الله وتنفيذ أمره والطمع بثوابه بصيامه وقيامه، ولعل ذلك هو سر تذكير وتركيز الرسول صلى الله عليه وسلم في أحاديث الصيام على "إيمانا واحتسابا".