طباعة هذه الصفحة

ديبورا: تفاصيل مرّة عن معاناة جزائرية تبحث عن «أصلها»

نوال تسترجع «جزائريتها» بعد 37 سنة من «التغريب»

نوال تسترجع «جزائريتها»  بعد 37 سنة من «التغريب»
  • القراءات: 27125
التقتها في ليون: مليكة خلاف التقتها في ليون: مليكة خلاف

ديبورا، أو نوال: اسم يحمل في كنهه صفات امرأة جزائرية حرة صنعت الاستثناء برقي روحها في زمن طغت عليه الماديات واللهث وراء المال ورغد العيش بعيدا عن الوطن.. قصة هذه المرأة التي  حققت حلمها بالحصول على الجنسية الجزائرية منذ شهرين فقط، تحمل الكثير من الأبعاد الإنسانية التي تجعلنا نقف وقفة إجلال واحترام لكفاح هذه الجزائرية المتأصلة بمبادئ توارثتها من حرائر ناضلن من أجل الدفاع عن هويتهن قبل حريتهن، فاختلاف الزمان والمكان لم يؤثر البتة على معدن هذه المرأة، على غرار نساء أخريات تركن بصماتهن عبر التاريخ بدءا من الكاهنة ولالا فاطمة نسومر، مرورا بحسيبة بن بوعلي وجميلة بوباشا وجميلة بوحيرد وفضيلة سعدان ومليكة قايد وغيرهن، ليمتد بذلك حبل التواصل بين أجيال لم تعايش نفس الظروف لكنهن ارتوين من نفس منبع الأصالة التي حصنت ملامح الهوية الجزائرية الحقة.

قصة نوال تستحق أن تدوّن في كتاب أو أن تكتب كسيناريو سينمائي لما تحمله من معنى حقيقي للمواطنة رغم أن هذه المرأة  الجميلة ذات العيون والملامح العربية لم يسبق لها أن وطئت أقدامها أرض الجزائر، كما لم يسبق لها السفر خارج فرنسا.. رغم ذلك فهي تتشبث بجزائريتها أكثر من جزائريي المولد والنشأة في الوطن وخارجه.

من المفارقة أن تنشأ ديبورا أو نوال، هذا الاسم الجديد الذي اختارته لنفسها في بيئة فرنسية مسيحية بامتياز، بعد أن تخلت عنها والدتها ذات الأصول الجزائرية والحاملة للجنسية الفرنسية. والدة ديبورا الحقيقية تزوجت من فرنسي (المارتينيك) لكنهما انفصلا بعد أن خلفا هذه الضحية التي كان مصيرها الملجأ بعد أن تبنتها الكثير من العائلات الفرنسية إثر أخذ موافقة والدتها التي كثيرا ما يصعب العثور عليها، ليستقر المقام بها سنة 1984 في مدينة غرونوبل عند أسرة من الأقدام السوداء.

نوال فلوح (لقب والدتها) المولودة في جانفي 1980 لم تنكر جميل هذه العائلة التي رعتها وتحملت شقاوتها لسنوات بسبب معاركها في الدفاع عن هويتها ودينها الذي لم تعرف عنه شيئا.

رغم صغر سنها آنذاك، كانت ديبورا تشعر بالغربة، كان ذلك دافعا كافيا للبحث عن ذاتها، غير آبهة بالمصاعب التي تعترض واقعها الجديد، متسلحة بقناعة ضرورة التحرر من نظرة المجتمع الفرنسي لها، لا سيما بعد أن أدركت أن مكانها هناك في الضفة الجنوبية وبالذات بلدها الجزائر الذي تخفق لها دقات قلبها كلما تغلغل اسمها في وجدانها.

روت لنا نوال معاناتها النفسية خلال تلك الفترة ولم تجد إلى جانبها أحدا سوى الله الذي كانت تدعوه دوما لإنارة طريقها، كان  الإلهام الذي ينبع من أعماقها المسلك الوحيد الذي خطط لها سير مجريات حياتها.

في البداية، حاولت تلك العائلة غرس القيم المسيحية في نفس نوال  باصطحابها باستمرار إلى الكنيسة، غير أن الطفلة لم تكن تشعر بأي انجذاب نحوها،  تماما مثل عدم انجذابها لقيم المجتمع الفرنسي، هذا الفراغ عوّضته نوال بتمضية أكثر الأوقات بصحبة صديقاتها الجزائريات، كان ذلك بمثابة المتنفس الوحيد لها، غير أن عائلتها كانت تتضايق من ذلك لا سيما أنها كانت تنقل إليهم عادات دخيلة عنهم، وكمثال على ذلك كانت نوال تدخل المنزل بأيدي مخضبة بالحناء لتقوم ربة البيت فورا بحك يديها بقشة  لغسل الأواني تاركة آثار الدماء عليها، كما كانت تنتزع المصحف  من بين يديها وتلقيه...

 لم تستسلم الطفلة لمضايقات تلك العائلة التي تتمسك بأطروحة «الجزائر فرنسية»، وفي رأسها مسألتان هامتان، الأولى: البحث عن جذورها الجزائرية والثانية: إجراء أبحاث عن الدين الإسلامي الذي حدثها عنه إلهامها ـ كما قالت ـ استوقفتني هذه النقطة وسألتها»لكن كيف انجرفت إلى الدين الإسلامي وأنت لم يسبق لك أن عرفت عنه أي شيء؟»، أجابت «الدين هو الذي أتى إليّ ولم أذهب إليه، تماما مثلما تسللت في نفسي هويتي الجزائرية دون سابق إنذار.» سألتها مرة أخرى لماذا اخترت اسم نوال؟ قالت إنه اسم يعجبها وغيّرته لأن اسم ديبورا يهودي الأصل ولا يعكس شخصيتها الجزائرية.

حدثتنا نوال عن آخر محطة لدى العائلة التي رعتها عندما قررت ارتداء الخمار فكان مصيرها الشارع، حيث خيّرتها بين نزعه أو العودة إلى كنفها، لكنها اختارت في النهاية عدم التنازل عن الخمار لتساق بعدها إلى الملجأ، وهناك  لقيت أيضا معارضة شديدة حيث كان ينزع عنها الخمار بقوة، لكنها لم تستسلم وكانت كثيرا ما تبحث عن حيل جديدة لصناعة خرقة قماش بنفسها لتغطية رأسها، فكان أن اهتدت إلى فكرة «شقية» وهي  قطع لحاف الملجأ وستائره وتحويلها إلى خمار.

 أخيرا لم يكن أمام المشرفين على الملجأ سوى الاستسلام لأمرها  بأخذها إلى إحدى المحلات لانتقاء ما تراه مناسبا لها.

غير أن قضية الخمار لم تدم طويلا مع نوال لاسيما بعد دخولها المدرسة العمومية حيث أجبرت على نزعه سنة 1995.

عن جذورها الجزائرية اكتشفت أنها تنحدر من ولاية الشلف ولها أخوال بفرنسا غالبا ما يقضون عطلهم الصيفية في الجزائر، في حين تنصلت والدتها من «جزائريتها» مثلما تنصرت وأعادت الزواج من فرنسي آخر، كما انتخبت على مارين لوبان انتقاما  من العرب. رغم ذلك لا تكن نوال الكره لوالدتها التي لا تراها إلا  نادرا، ملتمسة لها الأعذار بالقول «لا أفهم تصرف والدتي لكنها ربما تكون قد مرت بظروف صعبة في طفولتها.. مؤخرا أصيبت بمرض وظلت في الإنعاش لمدة 11 يوما وقمت برعايتها بنفسي .. هي تبقى والدتي ومن واجبي الوقوف إلى جانبها رغم أني لا أشعر بأي رابط تجاهها تماما كعدم شعوري بانتمائي لفرنسا».

 تزوجت نوال من تونسي، مولود هو أيضا في فرنسا غير أن زيجتها انتهت بالطلاق بعد وفاة ابنها في شهره الخامس سنة 2007، لم يندمل جرحها لفراقه إلى غاية اليوم وكثيرا ما تجهش بالبكاء كلما تذكرته، غير أنها تبقى راضية بقدر الله.

لنوال أيضا أربع بنات إحداهن ترتدي «الجلباب» دون أن يجبرها أحد على ذلك، وهي تزاول دراستها حاليا في مدرسة مسيحية خاصة، تفاديا للمضايقات على عكس المدارس العمومية التي يجبر فيها نزع الخمار، سألتها عما إذا كانت لها علاقات ببعض رجال الدين الذين قد يكونوا أثروا على أفكارها؟...  أجابت بالسلب، مؤكدة أنها تحرص بنفسها على انتقاء الكتب لبناتها ولديها مكتبة خاصة ببيتها سبق وأن اطلعت على محتوياتها.

فكرة الحصول على الجنسية الجزائرية راودت نوال منذ زمن طويل وأقسمت على خوض المعارك من أجلها طال الزمن أم قصر، لأن حلمها في النهاية هو الاستقرار في الجزائر بعد 5 أو 6 سنوات القادمة وريثما تعد عدتها لذلك، تقول هذه المرأة الاستثنائية إنها كانت متيقنة بأن الأمور ستجري لصالحها وأن الله لن يتركها.

من حسن حظ نوال أنها تعمل كنادلة في مطعم «لابيل كولومب» القريب من القنصلية العامة بليون. وصادف أن التقت في إحدى المرات بالقنصل العام السيد عبد الكريم سراي الذي كان لها بمثابة هدية من السماء، قصت عليه تجربة حياتها وتوقها  للحصول على الجنسية الجزائرية، ربما لم تكن تعلم أن مطلبها سيؤخذ محمل الجد، لكن المفاجأة كانت كبيرة عندما تنقل  القنصل بنفسه إلى المطعم في اليوم الموالي لتسليمها «وثيقة أس  12». لم تتحمل المرأة الطيبة وقع المفاجأة وكاد أن يغمى عليها حسب الذين حضروا المشهد من زميلاتها في المطعم.. لم تتوقف عن البكاء..لم تصدق نفسها.. كان ذلك بمثابة يوم ميلادها لأنها أصبحت أخيرا «جزائرية».

حلم الاستقرار في الجزائر وتربية بناتها هناك، آخر ما تتمنى تحقيقه نوال التي كابدت المصاعب منذ طفولته، وهو ما يناقض واقع الكثيرين الذين يغامرون بحياتهم عبر «الحرقة» من أجل الوصول إلى الضفة الأخرى. سألتها عن رأيها حول هذا الموضوع فقالت إن لديها نظرة مغايرة، تنطلق من أعماقها وقلبها الذي يدفعها دوما  للاستقرار في الجزائر، فهي لا تشعر بأنها بين أهلها في ظل تزايد مشاعر كره الفرنسيين تجاه العرب، لتستطرد قائلة «رغم حصولنا على الجنسية الفرنسية، سنظل نلفت انتباههم لأن ملامحنا عربية ولن يحبوننا حتى لو أكلنا لحم الخنزير مثلهم، هم لا يرحبون بوجودنا فلماذا نبقى بينهم.. هناك هوة كبيرة بيننا». 

 تعترف نوال بأن عودتها إلى الجزائر ستعترضها أيضا بعض المصاعب في البداية لأن الجميع سيعتبرها فرنسية لأنها لا تتحدث العربية، غير أنها واثقة بأن الأمر سيكون أقل وطأة من فرنسا وأن عليها تحمّل التغيرات.. بالنسبة لها فإن أكل العجائن في بلدها أفضل بكثير من تناول المشتهيات في مجتمع يرفضها.

لم تتوقف نوال عند هذا الحد، بل دعت جميع الجزائريين للعودة إلى بلدهم لأن هناك أشياء كثيرة يمكن القيام بها في ظل الإمكانيات المتوفرة، وكمثال على ذلك استغربت التواجد المكثف للصينيين الذين يعملون في الجزائر من أجل بنائها، في حين أن الجزائريين يأتون إلى فرنسا لبناء بلد غير بلدهم.

 بالنسبة لها، فإن انتخاب إيمانويل ماكرون لن يغير شيئا لأن الأفكار المناوئة لكل ما هو مسلم أو عربي قد تعشش في المجتمع الفرنسي منذ انتخاب ساركوزي الذي زرع الكره والعداء في أوساط الفرنسيين.. و خاطبت المهاجرين بالقول «إن لم تفز مارين لوبان اليوم فإنها ستفوز بعد خمس سنوات».

هذه هي إذن نوال التي انتصرت على ديبورا خلال رحلة البحث عن ذاتها وإثبات هويتها.. لم تغرها الحياة ومتاعها، لأنها تؤمن بفكرة أن تعيش حرا أفضل من أن تعيش ذليلا شريطة العودة إلى  الأصل والجذور، مما يعكس نضج فكرها وحصافتها، لتختم  حديثها معنا «كي نعرف أين نذهب، يجب أن نعرف من أين أتينا».