الباحث في التاريخ والتراث بلخضر شولي لـ "المساء"

تشويه كبير طال التراث النايلي

تشويه كبير طال التراث النايلي
الباحث بلخضر شولي
  • القراءات: 1637
حاورته: مريم . ن حاورته: مريم . ن

يشتغل الباحث بلخضر شولي على تراث أولاد نايل، مبرزا تاريخهم الثقافي والاجتماعي ومقاوماتهم الشعبية الباسلة ضد الاستعمار الفرنسي، ويسعى في ذلك، إلى توخي المصداقية والدليل بالوثائق والموروث الشعبي وذاكرة الأجداد، ومن خلال الصناعات التقليدية التي لا تزال تصارع تقلبات الزمن، حيث أصدر كتبا في المقاومة الشعبية، ومازال لديه الكثير، ويعتبر مرجعا موثوقا للثقافة النايلية، يجتهد فيها بما يتوفر له من إمكانيات، بعيدا عن الأضواء والاستعجال... التقته "المساء" وكان هذا الحوار.

 تولد البحث من حرفة أجدادي التي أتقنها وملم أنا بكل ما يتعلق بها من تاريخ وخصوصيات تجعلها تختلف عن باقي الحرف

كيف جاءت فكرة البحث في التراث؟

❊❊ أنا حرفي أبا عن جد، وجامع حلي منطقة أولاد نايل، زيادة على أنني باحث في تاريخ الحلي وفي التاريخ، مقيم بمدينة الجلفة ومن مواليدها في 1 أوت سنة 1959، وتولد البحث من حرفة أجدادي التي أتقنها، وملم أنا بكل ما يتعلق بها من تاريخ وخصوصيات تجعلها تختلف عن باقي الحرف، كما أن حبي لها دفعني إلى البحث في مجالها، علما أن بعض قطع الحلي اندثرت، أو ربما تظهر نادرا. مارس أجدادي حرفة الحلي منذ عقود طويلة، وكانت لهم تجارتهم هنا وهناك عبر الوطن، وهنا أود أن أوضح أن التجار قديما كانوا كـ"الموالة (أصحاب المواشي)، يرحلون من منطقة لأخرى، خاصة في زمن القحط وقلة الدخل، ومن ثم وجد بعض من أجدادي الحرفيين في الحلي بمنطقة سيدي عيسى والمسيلة وبوسعادة، ومناطق بالمدية والأغواط وحتى مليانة وغيرها، وهكذا وجدت نفسي أنا أيضا حرفيا في مدينتي الجلفة، وبدأت فيها بالبحث والتنقيب، ثم التوثيق، واكتشفت أن أغلب المصادر تتحدث عن الحلي الجزائرية، منها القبائلية والشاوية والترقية، ولا تلتفت لحلي أولاد نايل التي لها وزنها وعراقتها وانتشارها الواسع.

هناك بعض المراجع الجزائرية والفرنسية التي قدمتها في معرض الحلي، منذ أيام، بقصر الثقافة "مفدي زكريا"، كما أن هناك الكثير من الباحثين الفرنسيين وكذا المستشرقين الذين خاضوا في هذا المجال من التراث، منهم بول أوديل سنة 1902 طبعة جوردون "معجم الحلي" (نشرت سنة 1906)، وأوريات كومس وتانيا بن فوغال الأوكرانية، ومن الجزائريين نجد فريدة بونويش، وقدمت "أفريكا ـ بيجو" وهو دليل للحرفيين الجزائريين صدر سنة 1952، يتضمن اسم عائلتي عبر عدة مناطق من الجزائر، وقدمت أيضا شهادة حرفي خاصة بجدي، الذي امتلك ورشة حلي بمنطقة سيدي عيسى في المسيلة، تعود إلى سنة 1924. بالنسبة لي، فأنا أبحث بنفسي عن المعلومة وأوثقها، أي أنني مصدرها وجامعها ووارثها، وسيصدر ما وثقت في كتاب قريبا، علما أنني كتبت أيضا عن اللباس الذي له علاقة مباشرة مع الحلي وكذا النسيج والأمثال الشعبية والمقاومات والسلالة وغيرها من تراث الأجداد. أنا أتقن 3 لغات وهي؛ العربية والفرنسية والإنجليزية، وشيئ من الإسبانية، الأمر الذي ساعدني على البحث في المصادر الأجنبية، وعموما فإن تراث أولاد نايل شاسع واسع، يمتد من الحدود التونسية شرقا، حتى تخوم منطقة تيارت غربا، ومن قصر البخاري شمالا، حتى غرداية، كما أن الجلفة هي الولاية الوحيدة التي لها حدود مع 9 ولايات، مما أكسبها الثراء.

 أنا أبحث بنفسي عن المعلومة وأوثقها، أي أنني مصدرها وجامعها ووارثها

بمن استعنت في سعيك هذا لحفظ تراث أولاد نايل؟

❊❊ استعنت بوالدتي، حفظها الله لي، حيث حباني الله بهذه الموسوعة لأستقي منها الكثير من المعلومات، إذ تملك ذاكرة قوية في التراث وفي الشعر والمقاومة، وكذا العادات والتقاليد القديمة.

هل ترى أن هذا التراث النايلي مهدد، وكيف السبيل لصونه؟

❊❊ أحاول بقدر استطاعتي، أن أروج لهذا التراث والتعريف به، لصونه، خاصة من خلال المعارض التي تنظم عبر الوطن، وفي هذا أتعامل مع وزارتي الثقافة والفنون والسياحة، وجاءت ثمار الجهد، حيث عرفت بالحلي النايلية، وأصبح لها اسمها البارز، وأصبح جناحها في المعارض ملفتا وثريا. كما أشتغل على التوثيق بنشر كتبي وأبحاثي الأكاديمية، علما أن تزويرا كبيرا طال هذا التراث في الداخل والخارج، ناهيك عن عدم كفاءة بعض الجهات العلمية والثقافية، منها حتى الرسمية، فمثلا يقدم خلخال نايلي على أنه قالب فخار، ويقدم خلخال نايلي آخر على أنه من منطقة القبائل، دون تمحيص أو تدقيق أو تفريق بين منطقة جبلية وأخرى سهبية، وكذلك صورة فوتوغرافية التقطت سنة 1870، ثم أصبحت بطاقة بريدية، وجدت في كتاب عن الحلي الجزائرية على أنها لامرأة شاوية . هناك أيضا "العصابة"، أي الحلي التي توضع على الجبين، وتعرف في منطقتنا بالناصية، وهي كلمة غير متداولة في مناطق أخرى، وهكذا.

تعرف منطقتنا أيضا بالخلالات أو "الأبازيم"، وهي كلمة عربية فصحى، ويخطئ بعض الباحثين ويقولون، إنها كلمة بربرية وتضم الأبازيم (تعني أداة ذات لسان تجمع بين طرفين، كالقماش مثلا "بروش") من الحلي "المدور"، أو ما يعرف بـ"الشماسة"، كما أن ميسوري المنطقة يستعملون حلي الذهب التي لها خصائصها. تعرض تراث هذه المنطقة أيضا للسطو من قبل المغرب، حيث قدمت صورة قديمة لسيدة نايلية، صورها "ليهنار لاندروك" في الجناح المغربي بمعرض الإمارات، وهو ما يستدعي التدخل والتوثيق. 

 تراث أولاد نايل شاسع واسع يمتد من الحدود التونسية شرقا حتى تخوم منطقة تيارت غربا، ومن قصر البخاري شمالا حتى غرداية

ماذا عن نشاطك في مجال التأليف؟

❊❊ صدرت لي مساهمات في بعض المواقع المحلية، كما حقق كتابي الجماعي "مقاومة الحاج موسى بن الحسن المدني الدرقاوي في فترتها الزمنية من (1831-1849)" الانتشار الواسع هنا في الجزائر وخارجها، وسبق عملية استرجاع جماجم الشهداء من باريس، ويمثل صفحة من تاريخ أولاد نايل وتأريخ لمآثرهم. وضمن هذا التاريخ، هناك أيضا مقاومون من المنطقة حاربوا الاستعمار في عدة مناطق، منها ليبيا والمغرب والشام وغيرها. سيصدر لي قريبا، كتاب عن "صناعة البارود والأسلحة ببلاد أولاد نايل تراث ومقاومة"، وأيضا "حلي أولاد نايل".

أمي تملك ذاكرة قوية في التراث وفي الشعر والمقاومة، وكذا العادات والتقاليد القديمة

أثار تاريخ أولاد نايل بعضا من الجدل، خاصة فيما يتعلق بالمرأة، هل من توضيح؟

❊❊ كان هناك تشويه مقصود لتاريخ هذه المنطقة الثائرة دوما، وقد سعى في ذلك المستشرقون الفرنسيون، وللأسف، سار على ركبهم بعض أبناء جلدتنا الذين اعتمدوا على الكتابات الفرنسية وحدها دون غيرها. المستشرق هارنش فون مالتسن شنع بأولاد سيدي نايل وطعن في قيمهم، كذلك الحال مع الرسامين المستشرقين الذين ضربوا هذه المنطقة من خلال أعز ما تملك، وهي المرأة النايلية المصون، فصوروها في أبشع الصور، خاصة وهي عارية، في حين أن المنطقة محافظة إلى يومنا، وكان الهدف من ذلك، تشويه المنطقة، ولأهداف فرنسية غالبا ما كانت تجميل الغزو والحث عليه.

تعرض تراث هذه المنطقة أيضا للسطو من قبل المغرب

عانت هذه المنطقة بعد ثوراتها، كغيرها من مناطق الوطن، المجاعات الكبرى، وصلت إلى حد أن إحدى الأمهات حاولت أكل صغيرتها الرضيعة من فرط الجوع، وهنا ونتيجة للفقر، تراجعت بعض القيم والأخلاق، ليس بسبب الانحلال، بل بسبب الفقر والجوع وقهر الاستعمار، الذي لم يترك ذريعة لتشويه الجزائريين وليس فقط مناطق أولاد سيدي نايل الشرفاء، ويتحدث أوجان دوما عن الفسق الجزائري، ليسلط سهامه على 4 أعراش كبرى من الجزائر، وهذا لا يعني أن الفرنسيين والأجانب سواء، بل هناك كتابات أخرى منصفة. أذكر هنا بأسف، الراحل أحمد توفيق المدني الذي اعتمد على بعض الكتابات الفرنسية المجحفة، ليستعمل عبارة "تسهيل غريب"، أي أنه نوع من طعن المنطقة في صميم كيانها وأخلاقها، بينما نجد عبد الرحمان التليلاني يكتب من أدرار إلى ثغر الجزائر" سنة 1916 عن الجلفة قبل الجحيم الفرنسي، ويشهد لها بمحاسن الأخلاق وطيب العيش ويتحدث بإسهاب عن أولاد نايل.

كان هناك تشويه مقصود لتاريخ هذه المنطقة الثائرة دوما

هل ستواصل مشوارك على درب التاريخ والتراث، أم أن هذا الاختيار منهك ولا يستحق الجهد؟

❊❊ لا أخفيك القول، إنني أرى الأفق مسدودا، ورغم ذلك أواصل البحث والسعي بكل ما أملك من وقت وجهد وإمكانيات، وأحيانا أتساءل؛ هل سيصل تراثنا وصناعتنا التقليدية للأجيال الصاعدة أم لا؟ لكن الأمل يعود، لأساهم في هذا الانتقال إلى أجيال الغد، كي تبقى الهوية والخصوصية ويبقى زخم التاريخ الذي هو وقود المستقبل، وكل ما علي أن لا أستسلم ولا أسقط الراية ولا أتراجع للخلف ولا خطوة واحدة.