المؤرخ عمار بلخوجة وأحد مؤسسي مؤسسة الأمير عبد القادر لـ"المساء :

الاهتمام بالتاريخ مهمة المدرسة أولا

الاهتمام بالتاريخ مهمة المدرسة أولا
المؤرخ عمار بلخوجة وأحد مؤسسي مؤسسة الأمير عبد القادر
  • القراءات: 2001
حاورته: لطيفة داريب حاورته: لطيفة داريب

"الأمير" رمز يستحق الافتخار ولهذه الأسباب أنهى  الحرب

كتب المؤرخ عمار بلخوجة الكثير من المقالات والكتب عن تاريخ الجزائر في فترة الاحتلال الفرنسي، بشغف كبير وتشويق عميق، كيف لا وهو الذي عشق التاريخ منذ طفولته، فكان لها الناطق عبر مقالات، ومن ثمة مؤلفات شكلت رصيدا تاريخيا أثرى بشكل كبير.. الذاكرة التاريخية الجزائرية... "المساء" حاورت المؤرخ عمار بلخوجة، الذي كرمته جامعة تيارت، نظير خدمته للتاريخ، فكان هذا الحوار.

من الصحافة إلى الكتابة التاريخية، كيف تحققت هذه النقلة؟

❊❊ كنت دائم العشق لكل ما هو ماض، وبالأخص لتاريخنا العريق واشتغالي في الصحافة لمدة فاقت 25 سنة، حيث كنت مراسلا دائما لجريدة "المجاهد" بتيارت، منحني الوسائل لكي أتحول من صحفي إلى مختص في الكتابة التاريخية، فكانت هذه المهنة الممتعة عبارة عن تكوين لموهبتي في سرد الوقائع التاريخية، المتعلقة أساسا بنضال الجزائريين ضد الاستعمار الفرنسي، أي منذ 1830 إلى غاية الاستقلال.

الصحفي ملأ الفراغ الذي أحدثته المدرسة في تلقين التاريخ وتحبيب الناس اليه

كان ذلك في زمن ذروة تأثير الجرائد على الرأي العام؟

❊❊ أكيد، فقد اشتغلت في الصحافة في زمن قلّت الجرائد، وكان لها تأثير كبير على الرأي العام، فالجزائري كان يتلهف لقراءة الصحف يوميا، هناك  أيضا عامل ثان دفع بي إلى هذا التحول، وهو قلة المؤرخين الجزائريين بعد الاستقلال، وهو ما حثني على المساهمة في الكتابة التاريخية، وقد اعتبرت ذاك واجبا أمام شباب كانوا متعطشين لمعرفة المزيد عن تاريخهم. لهذا أؤكد على الدور الإيجابي الذي لعبه صحفيو جيلي في هذا السياق، خاصة أنه في سنوات السبعينات والثمانينات، لم تول لمادة التاريخ أهمية في المؤسسات التعليمية، فكان معاملها في البكالوريا ضعيفا وتدريسها ممل وفاضٍ، لهذا كتبت عن هذا الشغف ابتداء من عام 1830، أي منذ دخول الاستعمار الفرنسي إلى أراضينا، مرورا بمقاومة الأمير عبد القادر، إلى فترة الحركة الوطنية، وبعدها اندلاع الثورة التحريرية. وكتبت عن الأمير عبد القادر والأمير خالد ومثقفي الحركة الإصلاحية، مثل ابن باديس ومبارك الميلي ومثقفي الحركة الوطنية، مثل فرحات عباس ومصالي الحاج وغيرهما.

قد نختلف دينيا ولغويا، لكننا نتفق حول الفضاء الذي نعيش فيه

إذن تمثل دور الصحفي في ملء الفراغ في المجتمع عموما، والمنهاج الدراسي، خصوصا المتعلق بتلقين التاريخ؟

❊❊  نعم، لأن المنهاج الدراسي في زمني، وأقصد سنوات السبعينات والثمانينات، لا أدري إن تم تصحيح الوضع حاليا أم لا، لم يكن يهتم بتاريخ الجزائر، في حين أن تكوين المواطنة والشخصية الجزائرية، ومن ثمة تكوين الأمة برمتها، يرتكز على مقاييس. حسنا، لنتحدث عن المقياس اللغوي ولنقل أن ما يجمع بيننا نحن الجزائريون، اللغة العربية، حسنا ولننتقل إلى المقياس الديني، وسنقول إنه ما يجمعنا هو دين الإسلام، لكن ربما في البلد وحده يمكن أن تكون أكثر من لغة ولهجة، نفس الشيء بالنسبة للدين، ولو كان واحدا يمكن أن تكون هناك مذاهب، لكن يبقى مقياس واحد لا يتزعزع، وهو مقياس الفضاء الذي نعيش فيه، وهو واحد ويجمعنا كلنا، ومحدد بحدود متعارف عليها منذ زمن بعيد.

إذن قد نختلف في اللغة والدين، لكننا جميعنا لنا حق في هذه الأرض التي تشكل لنا بما يسمى بالوحدة الوطنية، التي تضم كل تنوعاتنا الثرية فعلا، وحينما أتحدث عن وحدة الأرض، أتحدث أيضا عن تاريخها الذي نتقاسمه جميعا ونقبل به جميعه، وفي هذا أرفض أن أهتم فقط بتاريخ المنطقة التي أنحدر منها، لهذا أنا من الأعضاء المؤسسين لجمعية "8 ماي 1945" مع الأستاذ بومعزة، نفس الشيء بالنسبة لمؤسسة الأمير عبد القادر، فنحن مواطنون كاملون حينما نتبنى تاريخنا بكل أحداثه، لهذا التاريخ مقياس نكون من خلاله المواطنة والشخصية الجزائرية، بيد أنه لا يمكن للمؤرخ وحده أو الصحفي وحده إبراز أهمية التاريخ، من خلال زرع حب الوطن في الطفل، بل توكل هذه المهمة إلى المؤسسات التربوية التي أذكر أنها في سنوات مضت، لم تلعب دورها كما يجب، وهو ما لاحظته حينما كانت ألقي محاضرات في فضاءاتها، حيث كان يأتيني الطلبة، ويخبرونني بأنهم استفادوا من مداخلاتي أكثر بكثير مما تعلموه في مدارسهم بأطوارها الثالثة، وأضف إليها الجامعات. أبعد من ذلك، فقد حدث أنه في المنهاج المتعلق بالتاريخ، أعطيت قيمة مضافة لمن لا يستحقها، والعكس صحيح، في حين يجب أن نعطي لكل حق حقه.

وهنا لو تلعب المدرسة دورها في هذا الشأن، لتخرج التلميذ من المدرسة عارفا برموز وأحداث تاريخه، وأذكر هنا يوغرطة، الذي منذ أكثر من 2000 سنة، حارب الرومان، ثم انتصر عليهم واقتيد إلى روما وألقي في بئر ومات بعدها جوعا، يوغرطة هذا أحب وطنه وحارب لأجله، ولكم أتمنى أن تبرم وزارة المجاهدين أو وزارة الثقافة والفنون اتفاقية مع السلطات في إيطاليا، لمعرفة البئر الذي مات فيه البطل، فنقوم بعدها بترميمه وتنظيم رحلات سياحية إليه، وهناك نقول "هنا مات زعيم الجزائر، القائد بوغرطة".

أذكر أيضا أنني حينما زرت القاهرة، اكتشفت أن قبر العلامة بن خلدون غير معروف، فأصابتني الدهشة، فلماذا نحن العرب لا نغذي ذاكرتنا ونسعى إلى تحطيمها؟ ونفس الشيء بالنسبة للأمير عبد القادر، فقد مر وقت طويل من يوغرطة إلى الأمير، لكن يجب نسج علاقة بين الأحداث التاريخية والشخصيات البطولية، حتى يكون التاريخ حيا في قلوبنا، مثلما ننسج علاقة بين حرب العصابات التي أبدعها الأمير عبد القادر والحرب التحريرية، علينا أن نفتخر بما حققه زعماؤنا الذين ألهموا الشعوب المستعمرة في تحقيقها للنصر، نعم يجب إعطاء قيمة لتاريخنا ورموزنا، وللمرأة أيضا التي كانت موجودة طيلة المقاومة الجزائرية ضد الاستعمار، لكنها لم تأخذ حقها كما يجب في التاريخ.

أعود وأكرر أن المدرسة عمود لتحبيب وتعريف التاريخ للأطفال، ومن ثمة تكوين المواطنة والشخصية الجزائرية، حتى أنها تساهم في اكتشاف مواهب الأطفال، ومن ثمة ربما في التخطيط لحياتهم المستقبلية. إذن المسؤولية الأولى تعود إلى المدرسة، ثم يتبعها الصحفي والمؤرخ المحاضر الذي يجب أن تكون ريشته نزيهة، وفي هذا أتذكر قول المفكر الفنان حيمود براهيمي المدعو "مومو"، والمتخصص في العلم الباطني، الذي قال "الرجل لديه الحق في محاولة الفهم، لكن ليس في إطلاق الأحكام على الآخرين".

لا تتحقق الوحدة الوطنية ولا تبنى الشخصية الجزائرية إلا بالتاريخ

من لديه الأحقية في كتابة التاريخ؟

❊❊ هناك الجامعي، فقسم التاريخ في الجامعات يُّكون إطارات، لكن أقول، إنه حينما يكتشف الطالب عشقه للتاريخ، ومن ثمة رغبته الشديدة في أن يكون مؤرخا، يجب تكوينه لأن جيل اليوم لم يعط بعد مؤرخين مهنيين، ففي العشرينات من القرن الماضي، كان هناك من المؤرخين عبد الرحمن الجيلالي ومبارك الميلي وأحمد توفيق المدني، ثم جاء جيل محفوظ قرداش ومحمد حربي، لكن منذ الاستقلال إلى يومنا هذا، لم يبرز مؤرخون بمعنى الكلمة. أيضا نعاني من مشكلة أخرى تتمثل في أن لدينا جيل تكوّن باللغة الفرنسية، وجيل آخر تكوّن باللغة العربية، فمثلا أبو القاسم سعد الله كان يكتب باللغة العربية ومحفوظ قداش باللغة الفرنسية، فلو كانت هناك ترجمة لقرأنا ما كتب كل منهما، ولكن هذا لم يحدث.

أتحدث أيضا عن نفسي فأنا أبحث باللغة الفرنسية، بالتالي أجهل الجيل الذي كتب باللغة العربية، وهذا خطأ من أصحاب القرار في الجزائر، لأن الطالب في التاريخ عليه أن يتكون باللغات العربية والفرنسية والإنجليزية والإسبانية، لكن لدينا طلبة متكونون فقط باللغة العربية، فمن يقرأ أطنان الأرشيف المكتوب بالفرنسية والقابع بفرنسا؟. فإذا لم نعرف تاريخنا ورموزنا، ستكون ذاكرتنا فارغة وشخصيتنا غير متكاملة، لهذا على الطالب أن يعرف تاريخه، ومن ثمة يستطيع الدفاع عنه.

علينا بنسج علاقات تاريخية بين أحداث وشخصيات تاريخية

تحدثت عن المؤرخ خريج الجامعة، لكن المؤرخ بلخوجة ليس كذلك، ومع ذلك كتبت مؤلفات قيمة. حسنا، هل تشعر بفراغ لأنك لم تدرس التاريخ؟

❊❊ لم أدرس التاريخ، لأنني درست في زمن الاحتلال الفرنسي، وقد تحصلت على الشهادة الابتدائية بعد أن درست، للأسف، تاريخ فرنسا وليس تاريخ الجزائر، بحكم أننا كنا تحت حكم الاحتلال، لهذا فكتابتي للتاريخ مرده عشقي الكبير للماضي وللوطن وتاريخه، فإذا كان لديك موهبة في سرد التاريخ وذاكرة قوية وتكوين في هذا المجال، فمرحبا بك. وهنا أود التحدث في موضوع يتمثل في قلة، بل وندرة المؤرخات في الجزائر، أعرف فقط مليكة قورصو التي تعمل من الجزائر ومليكة رحال تعمل من فرنسا، أما عن الرجال، فهناك من يكتب من المركز الوطني للدراسات والبحث في الحركة الوطنية وثورة أول نوفمبر بالأبيار، لكن فقط باللغة العربية وهناك إقصاء للغة الفرنسية,

وأذكر هنا ما قاله كاتب ياسين "أكتب باللغة الفرنسية لكي أقول للفرنسيين، إنني لست فرنسيا"، فاللغة هي مجرد وسيلة، فأنا أكتب باللغة الفرنسية لأنني تعلمت هذه اللغة في المدرسة، وبها أهاجم الاستعمار الفرنسي، لكنني أريد أن أتعلم اللغة العربية، فقد وجدت صعوبات كبيرة في البحث عن الأرشيف في القاهرة، وقد ساعدتني طالبات هناك، في حين أن الطلبة في الجزائر لا يفهمون اللغة الفرنسية، لهذا يجب تكوين مؤرخين محترفين متعددي اللغات ويحبون وطنهم، فهناك من يقول لي إن من يكتب عن التاريخ يجب أن يكون "باردا" لكي يكون موضوعيا، أنا أرفض هذا القول، لأنه عندي التزام مع وطني وتاريخي، لكن هذا لا يمنع من أن أكون نزيها وأعطي لكل ذي حق حقه، نعم للمؤرخ دور عظيم في بلده مثله مثل خريجي علوم الاجتماع، لكننا في الجزائر نفضل العلميين على الأدبيين.

العديد من الرموز دافعوا عن الجزائر، فيوغرطة قاوم الرومان والأمير عبد القادر أرهق الفرنسيين

ما الفرق بين التاريخ والذاكرة؟

❊❊  هما ملتصقان كالتوأم، التاريخ علم له ضوابط، في حين أن الذاكرة لا تتطلب تكوينا أكاديميا، مثل التاريخ. التاريخ يخاطب الجميع والذاكرة يمكن أن تتغذى بالمحاضرات والمسرحيات والأفلام الوثائقية التي تخدم جميعها الذاكرة، لهذا أيا كان يمكن أن يغذي ذاكرته بحضور المداخلات والذهاب إلى المسرحيات وقاعات السينما، حيث تعرض المسرحيات التاريخية والأفلام الوثائقية، لأن الكتاب وحده لا يكفي في هذا الإطار، فقلة من الناس يحبون المطالعة، حتى الجرائد لم تعد تقرأ مثلما كان عليه الأمر في السابق، لهذا يجب أن نكثر من تنظيم المداخلات حول التاريخ، وملء الفراغ الذي تركه الكتاب التاريخي، كما أن قاعات السينما والمسارح يمكن أن تجلب إليها جمهورا كبيرا، لكننا للأسف، تخلينا عن الفيلم الوثائقي والمسرحية التاريخية والشعر.

في المقابل، يقال عن الشاعر، إنه صحفي الحاضر، فهو يكتب في كل المجالات، وقد استعنت بصديق شاعر رحمه الله لتزويد كتبي بقصائد شعرية، وفعلت نفس الشيء مع صديق رسام ـ رحمه الله ـ في كتبي أيضا، فلم تكن كتبي جامدة، بل كانت مزودة بالقصائد والرسومات، لهذا حينما يتخرج الطالب من الجامعة، وقد درس التاريخ على أصوله، ومن ثمة يذهب إلى الفضاءات الثقافية التي تعرفه بتاريخ أكثر، هناك يمكن أن يكون شخصيته، وفي هذا أطالب بتكثيف المحاضرات في الجامعات، فمثلا أرى أنني غير مستغل بشكل كاف في الجامعات، صحيح أن بعض نصوصي تدرس في ثانوية بالعاصمة، وحتى بعض مقالاتي، لكن تبقى هذه المبادرات شخصية من طرف الأساتذة.

أعتمد في بحثي عن الحقائق التاريخية بدرجة كبيرة على الأرشيف

هل للمسرح والشعر والرسم دور في تشكيل الذاكرة أو كتابة التاريخ؟

❊❊ كلاهما، هناك معركة حدثت في مزغران بالقرب من مستغانم بين جزائريين وغزاة إسبان سنة 1558، كيف نعرف تفاصيلها؟ من قصيدة كتبها المجاهد والشاعر سيدي لخضر بن خلوف، حيث شارك في المعركة وكتب عنها، وأصبحت هذه القصيدة مرجعا للمؤرخين.

ماذا يريد منتقدو الأمير؟ 

كيف يتعقب المؤرخ الحقائق التاريخية، وكيف يتنصل من ذاتيته حينما يكتب عنها؟

❊❊ كتابة التاريخ تعتمد بنسبة كبيرة على الوثيقة، أي الأرشيف الذي أكثره موجود في فرنسا، إلا أن هناك ما هو موجود في الجزائر، استعنت به في أغلب نصوصي، باعتبار أنني لا أملك الإمكانيات التي تسمح لي بالسفر إلى فرنسا، حيث سافرت إليها مرتين فقط، وإلى القاهرة مرتين أيضا، طبعا بإمكانياتي الخاصة.

حينما أكتب عن التاريخ القريب، أقصد به الحركة الوطنية وثورة التحرير، يمكن الاستعانة أيضا بالشهادات الحية، لكن على المؤرخ الحذر والتأكد من أن الشخص الذي يدلي بشهادته نزيه وذاكرته قوية، فقد صححت قول ضابط جيش تحرير من الولاية الرابعة، شارك في حادثة، وهي مقتل ضابط درك في البرواقية على يدي مجاهدين، وكنت قرأت عن العملية في أرشيف جرائد الاستعمار، وكتبوا أن العملية حدثت في سبتمبر 1960، أما الضابط فقال لي، إنها حدثت في جويلية 1960، فصححت له الخطأ، لأن الجريدة لم يكن من صلاحياتها الكذب، فالعملية كانت معروفة، لهذا قلت له إنني باحث، وقد اعتمدت على الوثيقة. نعم ذاكرة الإنسان ضعيفة وعلى المؤرخ أن يبحث عن الحقيقة، حتى حينما يجد وثيقة، فعليه مقارنتها بوثيقة أخرى، فمجال الكتابة التاريخية صعب للغاية، وعلى المؤرخ أن يتحلى بقدرة الفرز، حتى الشهادة يمكن أن تكون فيها مغالطات، وقد تدحضها الوثيقة والعكس صحيح.

المدرسة أول من توكل إليها مهمة إبراز أهمية التاريخ، يأتي بعدها المؤرخ، ثم الصحفي

حينما لا تصل إلى الحقيقة، ماذا تفعل؟

❊❊ هذا سؤال تعجيزي (يضحك طويلا)، لكنه في الصميم، لأن المؤرخ لا يمكن له أن يكتب عن حدث تاريخي بصيغة التشكيك، بل يجب أن يكتب بصيغة قطعية، وخلال تجربتي في الكتابة التاريخية، أكدت أكثر من مرة عدم اكتمال أعمالي، فقد يأتي آخرون ويواصلون الكتابة في نفس الموضوع الذي تطرقت إليه، حتى موضوع الأمير عبد القادر لم ننته من الكتابة حوله، لأن الأرشيف مخزون في فرنسا، ولا تريد تسليمنا إياه، فالتاريخ ليس عمرانا يكتمل بنيانه، وينتهي الأمر هنا، بل هو موضوع غير منته، فلو عملت شرا، ثم خيرا، سيذكر التاريخ الخير الذي عملته وسيذكر أيضا ما ارتكبته من شرور.

لهذا إذا كان المؤرخ صاحب تجربة، وتلقى تكوينا ويقظا، فسيتفطن إذا كانت الوثيقة مثلا مشكوكة، فمثلا قامت السلطات الاستعمارية الفرنسية بطبع أربعة أو خمسة أعداد من جريدة "المجاهد"، ووضعت فيها مقالات مزورة ونشرتها في الجزائر وخارجها، وجاء في هذه المقالات ذم للجبهة وللحكومة المؤقتة، لكن الحمد لله، لدينا مثقفون تفطنوا للأمر، وأصدروا تعليمات صارمة حول زيف هذه الأعداد التي طبعتها المصالح المختصة والنفسية للاحتلال. إذن المؤرخ يجب عليه أن يحسن عملية الفرز، وأن يعرف من يقول الحقيقة ومن يكذب.

لا يمكن أن أكتب عن تاريخ بلدي بـ"برودة"

كتبت عن الكثير من الشخصيات الوطنية، هل تواصلت مع عائلاتهم لمعرفة خباياهم؟

❊❊ هل تعلمين أن المعلومات التي تحصلت عليها خارج عائلات هذه الشخصيات نفعتني أكثر من تلك التي وجدتها عند عائلاتهم، فالعائلات لا تعطي معلومات كثيرة، مثلا حينما كتبت عن حمامي لم تكن لديه عائلة، ولم يتزوج، وقد ذهبت لأجله إلى طنجة وباريس وتونس، ولم أجد له أي فرد من العائلة، فاستعنت بزملائه الذين كانوا مثقفين وزودوني بمعلومات عنه، وهم لا يكذبون، فليست لهم حاجة للكذب، واستعنت كذلك بالأرشيف. هناك أحداث لا يمكن الاستعانة فيها بالعائلة، مثل المتعلقة بالأمير عبد القادر، فكل من عايشه مات، وهو نفس مصير قادة الحركة الوطنية، وحتى من شاركوا في الثورة، فقد طعنوا في السن والكثير منهم توفي وأخذ ذكرياته معه.

اشتغلت كثيرا على الأرشيف، وبالأخص الجرائد المنشورة في تلك الفترة، أذكر الجريدة التي كتبها حزب فرحات عباس "لاريبوبليك ألجيريان" وجريدة مصالي الحاج "لاليجيري ليبر"، استعنت بالجرائد لعدم وجود كتب ما عدا كتاب عن يوغرطة، وآخر عن الأمير عبد القادر، كتبهما محمد شريف ساحلي، لهذا بوجود مؤرخين قلة في الجزائر، تبقى الجريدة مصدرا للتوثيق، وفي هذا أوصي الصحفيين الجزائريين، أي مؤرخي العصر، بالنزاهة في الكتابة، لأن الصحفي حينما يموت يترك وراءه مقالاته في الأرشيف، فإذا كتب بنزاهة سيترك مقالاته للأرشيف، وإذا زور حقيقة ما فسيتكرر الخطأ في مقالات أخرى وفي الكتب. فالصحفي لا يكتب للحاضر فقط، بل يكتب أيضا للأرشيف.

لهذا اعتمدت في كتبي ومقالاتي على مقالات جرائد وكتب مكتوبة باللغة الفرنسية، وطبقت ما قاله الساحلي وهو القيام بتصفية الاستعمار على مستوى الكتب في حد ذاتها، لأن أغلب المؤرخين الفرنسيين، وليس كلهم، لم يكتبوا الحقائق عن الجزائر. والمؤرخ الجزائري إذا لم يكن لديه التزام بحب الوطن وتاريخه، لكرر هذه الأكاذيب. لهذا لكي نكتب التاريخ يجب أن نحب وطننا وتاريخنا وشعبنا، واستشهد بقول مليكة قورصو حول ضرورة إضفاء الإنسانية على تاريخنا، هناك من يرفض هذا، لكنني مع هذا القول، لأننا نكتب عن غبن هذا الشعب الذي تعرض إلى قمع رهيب ومجاعة مميتة، مصائب كبيرة سُلطت على شعب كانت فيه روح، فلا يمكن أن أكتب عنه ببرودة.

لهذا اعتمدت في مقالاتي وكتبي على أسلوب يخدم الحقيقة التاريخية، وفي نفس الوقت يعطي الحق للشعب الذي تعرض للقهر. أنا أنتمي إلى هذا البلد، وهنا أجيب على الشطر الثاني من سؤالك، نعم أحاول التغلغل في أعماق هذه الشخصيات الوطنية، أشعر أن لديهم دين معنوي عندنا، لقد طلب منا ديدوش مراد قبل استشهاده بأن ندافع عن ذكراهم، وفي كل محاضرة أقدمها أعيد ما طلبه منا ديدوش، وأقول له، إننا نترحم عليه ونذكره دوما، فهيا لتنظيم المزيد من الملتقيات والمحاضرات للحديث عن حقائق تاريخية من دون ذم الثورة التحريرية، ولا شتم بعضنا البعض، بل نعمل في وحدة وطنية اشتغل على تحقيقها، رموزنا على أرض واحدة بتاريخ يشترك في تحقيقه الجميع.

الصحفي مؤرخ بدوره فعليه التحلي بالنزاهة

صدر لك كتاب عن الأمير عبد القادر، ما يمكن قوله في الأمير الذي تعرض مؤخرا إلى أقوال مست شخصه ومقاومته؟

❊❊ خصال الأمير الثقافية والروحية والعسكرية والدينية وغيرها، جعلت منه أسطورة في حياته وبعد مماته، كان قائدا وعمره لا يتجاوز 24 سنة، كان فارسا مغوارا وذو شخصية قوية، لم يكن يكذب وكان يخدم نفسه، كان يأكل إلا بما يسد رمقه ولم يكن شرها. كان لا يرسل جنوده في معركة إلا وإن كان متأكدا من النصر، لأنه تنعم بتربية دينية ومعنوية جعلته يحافظ على حياة الإنسان. لم يكن يقلد المعارك الكلاسيكية التي كان يقوم بها نابليون بونابرت وآخرون، حيث كانوا يرصفون الجنود أمامهم لحمايتهم، أو كانوا يدفعون الجنود إلى قتل أنفسهم، وهذا ما حدث في الحرب العالمية الأولى، حقا أوروبا لم تخدم الإنسانية. لكن الأمير كان يهتم بجنوده، فلا ينام إلا حينما يتأكد من أن كل الأمور على ما يرام، وفي نفس الوقت، كان يبني في دولة، فعبقرية الأمير تتمثل في استطاعته حمل السلاح ضد الغزاة وبناء دولة بمؤسسات عصرية في وقت واحد.

كان خلفاؤه شخصيات محترمة ومثقفة، كان محبوب الشعب الذي اتبع خطاه لمدة 17 سنة كاملة. لقد تخلى عن رزقه وعاش في الخيم مع الجنود، لقد خلف يوغرطة الذي حارب ضد الرومان. وكان مبدع حرب العصابات، كما كان مناديا بحقوق الإنسان، فالأسير الفرنسي عنده كان يتمتع بحقوق والكثير منهم زاروه في سجنه بباريس، وعبروا له عن شكرهم الجزيل جراء المعاملة جد طيبة التي تلقوها حينما كانوا أسرى عنده. لقد قدم درسا لفرنسا في حقوق الإنسان. نعم الأمير أسطورة في حياته، وبعدما دافع عن المسحيين في دمشق أصبح أسطورة عالمية، وكم كنت أتمنى لو أنه أصبح مدرسة بعد الاستقلال، من خلال تطبيق أسس سياسته، فقد كان له وزير المالية مكلف بخزينة الدولة، لكن كان له أيضا مقتصد خاص يدفع له مستحقاته مما ورثه عن أبيه، فلم يأخذ من خزينة الدولة، لهذا لو اتخذه المسؤولون عندنا قدوة بعد الاستقلال لكان مصير الجزائر مختلفا. نعم، الأمير أصبح أسطورة وعمره لا يتجاوز 24 سنة، حينما قاد أمة بكاملها، ماتت أحصنته ولم يمس بشعرة، حتى أن الجنود كانوا يرددون أنه محمي من الله.

وحده التاريخ من يوحد الصفوف

كيف يمكن تجاهل السياق التاريخي للأحداث، والحكم على حدث وقع في الماضي بعقلية اليوم؟

❊❊ هذا ما يتعاكس تماما مع المقياس العلمي للتاريخ، يعني أن تطبق أفكارك على الأمس، بل إن أفكار الأمس هي التي تؤثر فيك، ونعيد ما قاله مومو، إن الإنسان لديه الحق في الاستفسار، وليس لديه الحق في إصدار أحكام على الآخرين. أنا لا أقول إن الأمير استسلم، بل أقول إنه قرر إنهاء الحرب، وفق ظروف قاسية، فقد كان يجابه العسكر الفرنسي بقيادة بيجو بـ10 آلف جندي ضد 100 ألف، بدون أن ننسى العتاد العسكري لفرنسا، والذي كان أفضل بكثير مما كان يملكه جنود الأمير، علاوة أيضا على تطبيق بيجو لسياسة الأرض المحروقة، التي أفقرت، ومن ثمة أحرقت الشعب الجزائري، حتى كان الأمير يخجل من طلب الضريبة من القبائل بفعل ما حدث لها، نعم لقد قرر انهاء الحرب بفعل كل ما ذكرت سالفا، علما أن جيش الاحتلال لم ينتصر على الأمير في الحرب بشكل مباشر، بل حطم قاعدته الشعبية والمالية، وأسأل منتقديه الذين ربما لم يقرؤوا سيرة الأمير، هل كانوا يريدون أن يدفع بالشعب الجزائري إلى الانتحار؟ أو أن ينتحر هو؟ حينما قررنا وقف إطلاق النار في 19 مارس 1962، فهل هذا يعني أننا استسلمنا؟ أم كان علينا أيضا أن نقول لفرنسا المحتلة، إننا لا نقبل بهذه المفاوضات، وإننا سنقضي عليهم واحدا واحدا؟.

لقد وقع اتفاقيتين، الأولى دي ميشال وقعها سنة 1834، والثانية تافنة سنة 1837، وقد تم الاعتراف به بأنه قائد البلاد، فهل تعترف فرنسا بأي كان؟ وهنا أقول، إنني تغلغلت في نفسية الأمير واستنتجت أنه وقع اتفاقية مع فرنسا، لكي يقوي جيشه ويعيد بناء ما يحتاج لذلك، وحتى يعود أقوى مما كان عليه ويواصل الحرب، لكن بيجو خان عهد تافنة فلم يشأ رفقة المفكرين والسياسيين الفرنسيين تأسيس الأمير للدولة الجزائرية وتوسيعها، وهو الذي استطاع وضع أسس تكوين دولة حديثة، خوفا من أن يصبح نموذجا تقتدى به دول الجوار والبعيدة أيضا. لقد كان الأمير يضرب الجيش الفرنسي، ثم يتوارى وجنوده عن الأنظار، أما العدو فقد كان ثقيلا بعتاده، فلم يكن يستطيع التحرك بسرعة، وظهر ذلك جليا في معركة المقطع سنة 1835، حيث انتصر الأمير انتصارا رهيبا وقتل الكثير من جنود الاحتلال، نعم لقد كان أسطورة علينا أن نفتخر بها فهو رمز للإنسانية والجزائر، يجب علينا المحافظ على ذكراه وعلى كل الرموز الوطنية.

الأمير عبد القادر يستحق أكثر من فيلم عنه

كيف يمكن الكتابة عن الرموز الوطنية من دون تقديسهم؟

❊❊ سأقول لك حقيقة تاريخية، الأمير قال لخصومه، إنهم يذكرون خصاله وإنجازاته، لكنه أيضا شخص لديه عيوب، هكذا قال لهم الأمير، لكنني أؤكد أن خصال الأمير عظيمة إلى درجة تخفي عيوبه، وكأننا نبحث عن قملة في رأس غزير الشعر.

طالبت أكثر من مرة بإنتاج فيلم عن الأمير، هل ما زلت عند طلبك؟

❊❊ أنا من مؤسسي مؤسسة الأمير عبد القادر، وقد طالبت بأن يكون للأمير فيلم، لكن لا يوجد التزام سياسي للدولة الجزائرية في هذا الشأن إلى غاية اللحظة. في الحقيقة، يجب أن تكون هناك سلسلة من الأفلام حول الأمير وليس فيلما واحدا.