مراقبة البناء والتعمير ببلديات العاصمة

عجز في التغطية والحلولُ غائبة

عجز في التغطية والحلولُ غائبة
  • القراءات: 2144
رشيد كعبوب رشيد كعبوب

تواجه مصالح التعمير والبناء ببلديات ولاية الجزائر، عجزا كبيرا في تسيير هذا القطاع الحسّاس بالنظر إلى التحديات التي فرضتها الظروف والتحوّلات، خاصة الوضعية الأمنية التي ساهمت بشكل محسوس، في تشكيل أحياءخارج المقاييس، التهمت أجزاء كبيرة من الأراضي الفلاحية، إلى جانب الأوعية العقارية التي زحف عليها القصدير، والمزارع التي تحوّل جزء منها إلى أكواخ، فضلا عن التجاوزات التي يقوم بها المواطنون عند تجسيدهم مشاريع بناء السكنات وغيرها.

تُعد مصلحة البناء والتعمير بالبلدية من أصعب و«أخطر المصالح مقارنة بالمصالح أو المديريات الأخرى بالجماعة المحلية، على غرار مصلحة الشؤون الاجتماعية والثقافية والرياضية وغيرها، حسبما أكّد لـ المساء بعض مستخدمي هذا القطاع، الذي يرتبط أساسا بكلّ ما يتم إنجازه بتراب البلدية. ويجد إطارات هذه المصلحة صعوبات جمة وضغوطا في تسيير هذا الملف المعقد، الذي يتحمّلون فيه تبعات سنوات من فوضى البناء والتعمير الناتجة عن الظروف الأمنية التي كانت تعيشها البلاد والمرحلة التي أتت بعدها، حسبما ذكر أحمد عيسي أحد إطارات مديرية البناء والتعمير ببلدية الكاليتوس، مشيرا إلى أنّ التحديات التي يواجهها مستخدمو المصلحة كبيرة، خاصة عند تنفيذ أحكام القضاء بشأن الإزالة وهدم بنايات غير شرعية.

وحسب محدثنا، فإن من مهام مكتب التعمير بالبلدية تنفيذ ما جاء في مضمون المخطط التوجيهي للتهيئة والتعمير (PDAU) ومخطط شغل الأراضي (POS)، وتسلّم ودراسة ملفات طلبات عقود التعمير (رخصة البناء، رخصة الهدم، رخصة التجزئة، شهادة التعمير، شهادة التقسيم، شهادة المطابقة…) وإعداد قرار ورخص وشهادات عقود التعمير المختلفة، ودراسة ملفات البنايات الفوضوية، إضافة إلى مراقبة وضعية الأرصفة والطرقات العمومية، وغيرها. وذكر محدّثنا أنّ ملف البناء والتعمير ببلدية الكاليتوس، يُعدّ من أصعب الملفات التي تواجهها المصالح البلدية، كونه يرتبط بفوضى العمران بمناطق الارتفاق، المتمثلة في الأراضي الفلاحية، والأخرى التي تمر عليها أنابيب البترول والغاز، وهي مناطق صُنفت خطيرة وممنوع تعميرها.

وفي هذا السياق، كشف المسؤول عن أنّ هناك مناطق بمختلف بلديات العاصمة، ومنها الكاليتوس، تحوي على شبكة هائلة من أنابيب نقل البترول والغاز، منها أنبوب البترول الخام القادم من الجنوب والمار بسيدي موسى، الذي يربط مصفاة سيدي رزين الواقعة بإقليمها، والأنبوب الذي يزود مطار هواري بومدين بالغاز ووقود الطائرات.

ومن أكبر التحديات التي تواجهها مصالح التعمير بالبلديات، تلك المناطق التي أزالها المخطط التوجيهي للتهيئة والتعمير من خريطة التعمير. وفي هذا الصدد اعترف مسؤول التعمير بالكاليتوس، بأن المخطط (PDAU) أوقع  البلدية في مشكل، كون مدن كبيرة ستبقى بدون تسوية، ولا تستفيد مما تستفيد منه الأحياء الأخرى، ومثال ذلك حي كوريفة القريب من مدرج المطار، الذي تُمنع به أي عملية تعمير، حسبما ينص عليه القانون، لكن الأمور في الميدان تسير عكس ذلك.

نقص الإمكانيات وراء ضعف التغطية

وكذلك الأمر بالنسبة لبلدية الدار البيضاء، التي تشكلت بها أحياء صعُب التحكّم فيها تقنيا وإداريا، حيث بقيت لأعوام طويلة خارج المحيط العمراني، ولم تستفد من مشاريع الشبكات التحتية والتهيئة إلاّ في الأعوام الأخيرة، حيث شُيّدت على أراض فلاحية خصبة، مثلما هي الحال بحي الحميز، الذي تعادل كثافته السكانية كثافة بلدية صغيرة. ووجدت مصالح البناء والتعمير تعقيدات وصعوبات جمة في مراقبة الإطار المبنيّ، حسب بعض المهتمين بملف التعمير بالولاية والمحافظة على الأراضي الفلاحية، وفرض أدنى المعايير الفنية، وأكبرها تطبيق قانون قواعد مطابقة البنايات وإتمام إنجازها 15/08، الذي وجدت فيه المصالح التقنية صعوبة كبيرة رغم تمديده للمرة الثانية.

ولعلّ الأمر نفسه بمناطق أخرى كثيرة في بلديات العاصمة، لاسيما شبه الحضرية، التي كانت أراضيها عرضة لغزو الإسمنت، على غرار بلدية برج الكيفان، التي ازداد بها النسيج العمراني بطريقة فوضوية، وصارت عبءا كبيرا على مصالح البناء والتعمير بالبلدية، وخرجت العديد من الأحياء من مجال المراقبة، كما هي الحال بأحياء درقانة، فايزي، الدوم، سيدي إدريس وغيرها، حتى صار بعض المواطنين يشيّدون مساكنهم تحت خيوط الكهرباء للضغط المتوسط، كما هي الحال بحي بن زيان، مما اضطر المصالح المعنية لدفن الخيوط الكهربائية. ولم تجد الهيئة الرقابية المحلية حلا أو طريقة لتوقيف النزيف، حيث تنطلق ورشات البناء في جنح الظلام، عندما تنتهي ساعات الدوام لجهاز الرقابة.

في غياب  الرقابة... المخالفات  في تزايد

تجد مصالح البناء والتعمير ببلدية براقي هي الأخرى، مشاكل عديدة في مراقبة الإطار المبني بإقليمها، والتي طالت حتى المناطق الخطيرة والممنوعة من البناء، خاصة القريبة من مصفاة تكرير البترول بسيدي رزين التي شُيد بإقليمها العديد من الأحياء خلال العشرية السوداء؛ مئات السكنات بطريقة فوضوية، ولم تجد إزاءها المصالح البلدية حلا لإنجاز المرافق العمومية الضرورية، خاصة التربوية والصحية. وطالت عمليات البناء المناطق الممنوعة، منها الواقعة تحت أسلاك الكهرباء ذات الضغط العالي، وأخرى فوق أنابيب البترول، وهي مناطق أخرجها المخطط التوجيهي الجديد من المحيط العمراني، وبذلك تزداد التعقيدات الإدارية. وحسب مقربين من مصالح التعمير والبناء ببراقي، فإنّ أعوان المراقبة يجدون صعوبة في رصد المخالفات التي تطال قطاع التعمير، خاصة ما تعلق بتنفيذ أحكام القضاء في إزالة وهدم بنايات فوضوية. والأهم في ذلك أن الهيئات الرقابية التي تعمل خلال ساعات النهار، لا تضمن الرقابة خلال الليل، التي صارت الفترة التي تنطلق بها ورشات البناء.

الخبراء يقترحون حلولا مؤقتة..

لاستدراك هذا العجز المسجّل في مراقبة عمليات البناء والتعمير على مستوى البلديات، يؤكّد الخبراء أنّ المصالح التقنية بمواصفاتها الحالية، لا تستطيع بأيّ حال من الأحوال، لاسيما بالبلديات ذات النسيج العمراني الكبير، أن تضمن المراقبة الصارمة لكل ما يُبنى في إقليمها بالنظر إلى نقص الموارد البشرية والمادية. ولتوقيف النزيف لا بدّ من اللجوء إلى حلول أخرى ولو مؤقتا. وفي هذا الإطار أوضح الخبير الدولي في الهندسة المعمارية جمال شرفي، وهو رئيس المجلس العربي الأعلى للمعمار والعمران وتطوير المدن ومستشار لدى هيئة النقد الدولي، أنه يتعين في هذه الحالة على الدولة أن تستعين - مثلما هو معمول به في الخارج - بمكاتب دراسات، وتكلّفها بالقيام بالرقابة، خاصة في الفترة الليلة، وتعهد إليها تقديم تقاريرها للمصالح التقنية، ليتم بعدها أخذ الإجراءات اللازمة في وقتها قبل أن تتفاقم المشاكل وتتعقد الوضعية.

وذكر محدثنا أن هناك بعض الولايات التي اجتهدت وتصرفت بهذه الطريقة، حيث كلفت مكاتب دراسات مختصة، بمراقبة حركة البناء والتعمير، ورفع كل التقارير والمخالفات في أوانها، مفصلا أنّ هذا الحل نجح بأكبر عواصم الولايات مثل سطيف ووهران، اللتين استطاعتا السيطرة على الملف، وتخفيف حالات التجاوز التي تستهدف المحيط العمراني.

ويُرجع الخبير شرفي عجز المصالح التقنية المحلية في مراقبة عملية التعمير والبناء بالبلديات، إلى عدة أسباب، منها نقص الموارد البشرية، وغياب التكوين ورسكلة الإطارات العاملة في الميدان لتحيين معلوماتها مع القوانين والمستجدات الجديدة في القطاع، إلى جانب غياب وسائل العمل، وعلى رأسها وسائل النقل. وفي ظل هذه الوضعية لا يمكن فرض القوانين المنظمة للقطاع، وبالتالي تبقى المناورات والتجاوزات مستمرة، مثلما تثبته التجربة في الميدان.