القصر الملكي بتلمسان أو "المشور"
شاهد على حضارة عريقة وعمران جزائري الأصل

- 1794

تلمسان بكل حقبها وتراثها، تستوقفك لتتحسس في حواريها نكهة التاريخ، وفي أسواقها تطور الإنسان وإبقائه على تشكيلة التاريخ وتنوعه في اللباس والمطعم واللسان. فقصر الزيانيين الذي انطمست أحجاره وأهلمت آثاره عاد إلى الحياة بكل أناقته ورونقه، بعد جهد كبير من البحث والدراسة والتكوين، إذ وفرت الدولة كل الإمكانات لبعث هذا المعلم التاريخي من جديد، والذي كان منه سلاطين بني زيان يديرون دفة الدولة، وفيه يستقبلون الوفود والسفراء، ليظهر من جديد كما "العنقاء" ويتحول إلى مزار سياحي وتاريخي وآية من آيات الفن المعماري.
لقد استعاد قصر الزيانيين رونقه جماله، بعد أن ألبس حلة زاهية، إثر الترميمات التي طالته بمناسبة "تلمسان عاصمة الثقافة الإسلامية"، طبقا للأبحاث الأثرية الإيكولوجية والبحث التوثيقي، فإلى جانب قلعة "المنصورة"، تعد قلعة "المشور" أحد المعالم البارزة في المشهد الأثري التلمساني، حيث تم إعادة بناء القصر الملكي، بعد أن خضعت قلعة المشور لأكبر عملية ترميم ما بين سنتي 1999 و2003، وإعادة تدشين القلعة سنة 2011، بعد الترميمات التي عرفها المسجد والأسوار، مع مباشرة أعمال أثرية وحفريات للكشف عن بقايا قصور بني زيان التي طمسها الاستعمار الفرنسي، وكانت المفاجأة كبيرة حين اكتشف فريق من الباحثين الأثريين مطلع سنة 2010، شواهد أثرية لقطع خزف وفسيفساء منقوش عليها آيات وسور قرآنية، سد بها عسكر الاحتلال الفرنسي قنوات الصرف الصحي، في اعتداء صارخ ومفضوح على تراث معماري إسلامي، كان مطموسا لولا الحفريات، وأعمال الترميم التي تجرى بالمناسبة.
تأتي عملية إعادة بناء القصر الملكي، الذي يتكون من أربعة أجنحة متواجدة حول باحة، تحتوي على بستان وحوض مائي، إثر عدة بحوث في الحفريات وفي السجلات التاريخية لقلعة "المشور"، وكذا التنسيق الكامل بين المهندسين وعلماء الآثار، بعد أن اختفى "القصر الملكي" في العهد الاستعماري.
علما أن هذا المعلم الأثري خصص له مبلغ مالي يقدر بـ220 مليون دينار، بهدف بناء هياكله التاريخية ومرافقه العريقة وتزيينه بالتصاميم المنمقة، وبعض الزخرفة التي بقيت معالمها راسخة على جدران المبنى، رغم مرور الأزمنة والعصور، ليخصص هذا المعلم الأثري من أجل احتضان عدد من المعارض الخاصة بالحلي والمسكونات. وقد ساعد البناء الهندسي والمعماري لقصر المشور على تصور نمط الهيكل من قبل المشرفين على الترميم، الذين أبدعوا في تنميق الأعمدة والأقواس ومحاكاة الهندسة الإسلامية على أرض الواقع، باستعمال أدوات ومواد بناء تقليدية للغاية، كما استعمل هؤلاء في تزيين هذا الصرح التاريخي الزخرفة، التي كانت شائعة في عصر الزيانيين بكثرة، مثل النقش على الجدران والأقواس المتعانقة وإحاطتها بالزليج المزركش.
هندسة معمارية ضاربة في عمق التاريخ
حسبما أكده المسؤولون عن هذه العملية، فإن الحفريات الأثرية التي قامت بها الفرقة المتخصصة في الآثار، كشفت عن البراعة الحقيقية والاحترافية التي كان يتميز بها الزيانيون فيما يتعلق بالبناء المعماري، خصوصا أن هذه الأشغال رفعت النقاب عن العديد من الآثار، التي تعود إلى حقب تاريخية مختلفة، شملت الفترة المرابطية والموحدية والزيانية، وكذا العثمانية، مثل آثار القصور الأربعة للمشور وهي "دار الملك"، "دار أبي فهر"، "دار السرور" و"دار الراحة"، بعد اكتشاف هياكل بأكملها مغمورة تحت طبقات من الأثرية وقطع من الفخار والأعمدة والزليج، التي أبرزت بكل جلاء مهارة صانعيها والإحترافية العالية التي اتسموا بها في تلك الفترات التاريخية.
"قصر المشور".. تاريخ دولة قائمة بذاتها
كان السلطان يغمراسن في بداية حكمه، يقيم في القصر القديم بتلمسان العليا (تاقرارت)، إلى غاية بناء صومعة المسجد الجامع، فصارت المئذنة تطل على القصر وتشرف على صحنه، عندئذ اضطر السلطان إلى تغيير مقر إقامته، حتى لا يترك مجالا للمؤذن وغيره من رؤية داخل القصر الملكي، والتعرف على ما يدور فيه، وحتى لا يعرض حريمه لنظرات المتطفلين، فقرر تشييد قصر جديد يليق بمقام الملوك، ويتطابق وتقاليد السلاطين المسلمين في ذلك الوقت، فاختار مكانا بجنوب المدينة وبنى فيه قصره، وهو عبارة عن قلعة أو قصبة، وسماه ‘’المشور’’ تمييزا له عن القصر القديم، واتخذه مقرا رسميا لإقامته وإقامة خلفائه من بعده، وأنزل به الحاشية والحشم ورجال الدولة، وكان يستقبل فيه الأمراء والسفراء الأجانب، وفي قاعاته تنظم حفلات الاستقبال والسمر.
للعلم، فإن القصر الملكي للمشور يعود تاريخه إلى القرن العاشر ميلادي، عندما حط به السلطان "يوسف بن تاشفين" رحالة ليتخذ منه مكانا عسكريا استراتيجيا لمحاصرة ناحية "أغادير" الواقعة شرق مدينة تلمسان، وعليه فإن "إبن تاشفين" هو مشيد القصر الملكي للمشور.
يبدو أن صرحه شيد في المكان الذي نصب فيه يوسف بن تاشفين المرابطي خيمته، حينما حاصر مدينة ‘’أغادير’’، وقام بتخطيط القصر على شكل قلعة مستطيل الشكل طول ضلعه 490م وعرضه 280م 2، ومعنى ‘’المشور’’ المكان الذي يعقد فيه أمير المسلمين السلطان اجتماعاته مع وزرائه وكتابه وضباطه، لمناقشة شؤون الدولة والتشاور في أمور الرعية وقت السلم ووقت الحرب، حيث تميز القصر بوظيفة كرونولوجية منذ تشييده على مدى فترات متتابعة، ففي القرن السادس قام يغمراسن ببناء موقع القلعة والقصر الرئاسي المخصص للحكم، وعام 1317 شرع أبو حمو موسى بتنظيم المدينة داخليا، مضيفا معلمين معماريين آخرين هما قصر ومسجد خاص بالأمراء ورجال الدولة والأعيان، يؤدون فيه صلاة الجمعة والصلوات الخمسة.
صهيل الخيول وصلصلة السيوف... يلهم المدينة زخمها الثقافي
قصر المشور، الذي ينبض بالتاريخ ويؤكد أنه ما يزال يضخ لتلمسان القوة والحراك الثقافي، بذلك السور الذي يخبرك عن صموده إبان حصار المرنيين لعاصمة الزيانيين، وكأن تلك الأبراج لا تزال تراقب الجيوش المرينية، وكأن صهيل الخيول وصلصلة السيوف وهرولة العساكر وقرقعة الأبواب وصيحات القادة على الجند، ما تزال محفوظة في الجدران، تعرض عليك كل المشاهد والصور في تأمل وتمعن، وكأن أبا حمو موسى بن يوسف الزياني مازالت أبياته الشعرية التي كتبها على جدرا القصر حاضرة:
"سكناها ليالي آمنينا وأياما تسر الناظرينا
بناها جدنا الملك المعلى وكنا نحن بعض الوارثينا
فلما أن جلانا الدهر عنها تركناها لقوم آخرينا"
ومباشرة بعده، أضاف أبو تاشفين بالقصر ثلاثة ديار الأولى، سميت دار السرور، كانت مقرا مدنيا، والثانية دارا للملك خصصت للمجال العسكري، والثالثة دار أبي فهد، وهي هيكل ديني للتعبد والصلاة ولبعث الثقافة والحوار السياسي بالدولة الزيانية، لتحصين شعبها وحاشيتها وضمان حكمها، تم إنجاز قصر المؤتمرات ما بين عامي 1399 و1394، أما أثناء القرن الثامن، شيدت حصون المشور الثلاثة (حصن الأمل) والحصن العسكري والمدني، وخلال فترة الدولة العثمانية، إنحل الحكم بقصر المشور وتلاشي في همته وعلى إثر حلول عهد الاستعمار الفرنسي، كانت أولى وطأتهم بالقصر الزياني في 2 /6 /1836، فاستوطنت به القوات العسكرية ورتب البوليس بيته بهذا الموقع الأثري الحضاري، وتتمة لمراحل متتالية، تم توقيع اتفاقية ـ تافنة عام 1837م، كمنطقة محررة من قبل الأمير عبد القادر.
عنوان للأناقة والتميز
يحيط بالمشور سور عال، يضم قصورا عديدة صغيرة، إلى جانب قصر السلطان، مبنية بأسلوب معماري فني بديع ومزينة بزخرفة رفيعة، ويحتوي القصر على سقايات ونافورات وبساتين، له بابان أحدهما يقع في الجنوب ويطل على البادية تجاه الجبل، والثاني يقع في الشمال الغربي باتجاه وسط المدينة، ويقيم بجواره رئيس الحرس، أطلق على الباب الجنوبي اسم ‘’باب جياد’’، ويدعى الباب الشمالي بـ"باب الغدير"، وللقصر ساحات وشوارع ودروب، ومنازل أخرى بداخله مخصصة للحاشية والكتاب والضباط والخدم. وكان بالمشور مجموعة من المخازن والمطامير لتخزين الحبوب واللحوم والمؤن المختلفة.
الظاهر أن القصر الملكي يتميز عن غيره من القصور والدور، بشكله وسعته ومحتواه، حيث كان مزينا بالرخام والفسيفساء الملونة التي تكسو قاعته وجدرانه، ومبلطا بالجبس الأنيق، والسقوف الخشبية المدهونة، والثريات النحاسية الفخمة التي تحمل قناديل الزيت والشموع، وكانت أرض القصر الملكي في معظمها مبلطة بالزليج الملون، وتتخلل القصر أحواض من الزهور والأشجار المثمرة، ونافورات المياه، كما هو الشأن في القصور السلطانية بفاس وغرناطة وتونس، فهو معلم من المعالم العمرانية الزيانية الرائعة، المتأثرة مما لا شك فيه بالهندسة المعمارية الأندلسية.
ومن البديهي، أن منازل رجال الدولة والبلاط كانت أصغر حجما، وأقل زخرفة من قصر السلطان، وكانت هذه المساكن تحيط بالقصر الكبير والمسجد، ولعل ‘’المشور’’ كان يحتوي على سجون كغيره من القلاع، يحبس فيها المناوئون من الأسرة الحاكمة والوزراء والكتاب والقادة الضباط، وغيرهم من الأعيان ومن خاصة الناس، وتسمى الدويرة (الدار الصغيرة)، ولعلها زنزانات صغيرة تشبه السجن الانفرادي.
تعود إلى عهد دولة "بني عبد الوادي".. العثور على مطامر تخزين بتلمسان
اكتشفت فرقة متخصصة تابعة لوزارة الثقافة مؤخرا، مطامر للتخزين تعود إلى عهد دولة "بني عبد الوادي"، وقد تم اكتشاف هذه المطامير بأطراف وفناء القصر الملكي، والبالغ عددها إلى حد الآن 16، كانت تستعمل لتخزين المئونة من حبوب ومواد غذائية مختلفة، تحسبا لأي طارئ أو غزو أجنبي، من أجل ضمان الاكتفاء الغذائي لأطول مدة ممكنة.
وقد تم محاصرة الدولة المذكورة من أفريل 1299 إلى غاية جويلية 1307، من طرف المرينيين الذين جاءوا لغزو المدينة، تحت إمارة يوسف بن يعقوب، حيث دام هذا ثماني سنوات سبب تجهيز القصر بعدد كبير من المطامر، كما سمحت هذه الحفريات باكتشاف جوانب هامة من القصر الملكي، التي كانت مغمورة تحت التراب والأنقاض، مثل الأحواض المرصعة بالبلاط والزليج وكذا الأنابيب الموشحة بالرخام، والمستعملة في التزود بالمياه الصالحة للشرب، بالإضافة إلى أوان وقطع أثرية ذات قيمة تاريخية. كما عثر خلال هذه العملية، على أكثر من 50 قطعة لشواهد قبور روسيات تعود إلى عهد الزيانيين، استعملت من طرف المستعمر الفرنسي في تغطية مختلف قنوات تصريف المياه بالمعلم التاريخي للمشور.
وحسب ما علمته "المساء" من مصادر مسؤولة، فإن المدير السابق للمتحف بوزارة الثقافة، الأستاذ درياس مختص في علم المسكوكات، وهو الذي أشرف على حفريات قصر المشور الأثري بتلمسان، وأن الأرضية التي أختيرت لإنجاز مشروع مسرح للهواء الطلق في بدايته بالمنصورة، تم رفضها بصفة تامة، باعتبار أن عملية المسح الحفري كشفت أن البنية التحتية لفضاء منصورة تزخر بمعالم أثرية مدفونة، ولا يليق خدشها والتعدي عليها عن طريق تشييد هذا المرفق الثقافي.
وقد حول المشروع إلى مكان آخر بنفس المنطقة، والتي ليس لها أي قرب عن المعالم الأثرية من أجل تجسيده، أين تم تسليم آنذاك 60 صندوقا إلى متحف تلمسان، معبأ بقطع فخارية عثر عليها مؤخرا بعمق القصر الملكي، والتي تعد حقائق شاهدة عن حضارة وتاريخ المنطقة، ودور المشور في حكم السلاطنة من الناحية الدينية، والمدنية والعسكرية والاجتماعية داخل قلعة مربعة الشكل شاسعة، أقام فيها أمراء بين زيان ورسموا قواعد نظامهم، بعقد المجالس بالتشاور في أمور الدولة، لذلك اشتق اسمه فصار "المشور".