"دار الباي" بالمدينة القديمة في عنابة
سحر الأصالة يجذب زوار المدينة القديمة

- 213

تواصل "دار الباي"، المعلم التاريخي الضارب بجذوره في عمق الزمن، استقبال أعداد متزايدة من الزوار والسياح، الذين يتوافدون عليها يوميا بقلب المدينة القديمة بعنابة، بحثًا عن جرعة من عبق التاريخ وروح الأصالة التي تسكن المكان.
تتحرك الأزقة القديمة، على وقع الخطى السياحية القادمة من مختلف ولايات الوطن، وحتى من وراء البحار، باحثة عن أسرار تلك الدار، التي شُيدت ذات زمن، على يد البايات العثمانيين، وبقيت حتى يومنا هذا، شاهدة على حقبة من المجد السياسي والعمراني لعنابة.
مدخلٌ يحكي، وأبواب تهمس، وجدران تنطق بلغة الفن والحضارة. تلك هي "دار الباي"، التي تحولت من مقر للحكم إلى معلم سياحي وتراثي، يفتح أبوابه أمام الجميع دون تكلف. سقوف خشبية نُقشت بدقة، جدران مزخرفة بأنماط أندلسية ومغاربية، أقواس رحبة تعانق الضوء والظل، ونوافذ تطل على ساحة داخلية تعج بالحكايات القديمة.
فضاء حي ينبض بالذاكرة
لم تعد الدار مجرد أثر معماري، بل تحولت إلى فضاء حي ينبض بالذاكرة والأنشطة، حيث تُنظم بها زيارات موجهة، عروض فنية تراثية، ندوات ثقافية، وورشات حرفية تجذب الصغار والكبار على حد سواء. السياحة هنا ليست مجرد مشاهدة، بل تجربة حسية متكاملة تمزج بين المشاهدة والتفاعل، بين الإنصات والتأمل. وتبرز أهمية "دار الباي"، في قدرتها على الجمع بين الرمزية التاريخية والتوظيف الثقافي المعاصر، إذ نجحت في الحفاظ على طابعها المعماري، رغم تعاقب الزمن، فيما انفتحت في نفس الوقت، على الحركية الثقافية الحديثة، لتكون جسرا بين الماضي والحاضر.
حركة سياحية تعيد الروح للمدينة القديمة
شكل الإقبال المتزايد على الدار، خاصة خلال موسم الصيف، نقطة انبعاث جديدة للمدينة القديمة بعنابة، فقد انتعشت الحركية التجارية مجددا، وعادت بعض المحلات التقليدية للعمل، سواء تلك التي تبيع الحلي النحاسية، أو الأواني الفخارية، أو حتى الصور الفوتوغرافية المستوحاة من معالم الدار وأزقتها. كما بدأت المطاعم والمقاهي الشعبية، تعيد تهيئة نفسها لاستقبال الزوار، وهو ما ساهم في خلق ديناميكية اقتصادية محلية. إلى جانب ذلك، برز دور المرشدين السياحيين الشباب، الذين رافقوا الزوار بلغات متعددة، وقدموا شروحات دقيقة عن تاريخ الدار ومكانتها في الذاكرة العنابية والوطنية، حيث يعكس هذا الحماس الشبابي، رغبة حقيقية في إعادة ربط المواطنين بتراثهم، ليس كمجرد ذكرى، بل كجزء فاعل في يومياتهم.
متحف مفتوح ونقطة انطلاق
تواصل مديرية الثقافة والفنون لولاية عنابة، جهودها من أجل ترميم دار "الباي" وصيانتها، مع الحرص على الحفاظ على طابعها التاريخي الأصيل، من خلال إعادة تأهيل مكوناتها المعمارية، وتحسين الإضاءة، ووضع لافتات تعريفية بثلاث لغات، إلى جانب برمجة زيارات مدرسية دورية وتنشيط الفضاء، من خلال تظاهرات فنية وثقافية مستمرة، تُعيد الحياة إلى جدرانها، وتمنح الزوار تجربة متكاملة تحمل طابع التميز والخصوصية.
تُعتبر زيارة "دار الباي"، محطة ضرورية لكل زائر يرغب في فهم عنابة من الداخل، ليس كمدينة بحر فقط، بل كمدينة ثقافة وهوية. فالدخول إلى الدار، هو دخول إلى الزمن، حيث تتعانق القرون في صمت مهيب، حتى الهواء في الردهات له طعمه الخاص، مشبع برائحة الخشب العتيق، وأصداء القصص التي سكنت المكان ذات يوم.
ولعلى أجمل ما في التجربة، تلك اللحظة التي يقف فيها الزائر وسط الباحة الداخلية، فيرفع رأسه ليتأمل تفاصيل السقف، ثم يغلق عينيه لبرهة، وكأن التاريخ يُربت على كتفه ويهمس له "هنا عاش قومٌ، ومر مجد، وها أنت تعيد الحياة إلى جدراننا بالصمت والتأمل". ولم تعد "دار الباي"، مزارًا سياحيًا فقط، بل تحولت إلى نقطة انطلاق لفلسفة جديدة في التعاطي مع التراث، فلسفة تُؤمن بأن الماضي لا يُعرض فقط في المتاحف، بل يُعاش في الحاضر، ويُصنع به المستقبل.