خليج عنابة..
حين يروي البحر تاريخ الملوك

- 201

ينبض خليج عنابة بالحياة، ليس فقط كمجرد امتداد طبيعي للبحر الأبيض المتوسط، بل كذاكرة مفتوحة على صفحات مجيدة من تاريخ البحر، وكرحلة خالدة لمدينة ظلت دائما أكثر من مجرد مدينة ساحلية. فعنابة، أو بونة كما كانت تُعرف قديماً، هي واحدة من أعرق مدن المتوسط، وخليجها هو الشاهد الأول على عراقتها وتنوع الحضارات التي مرت بها، واختارتها موطنا وملاذا وساحة لتلاقي الشرق بالغرب، والجنوب بالشمال.
ينطلق سحر المدينة من خليجها. منذ أول نظرة، يأسر الزائر بامتداده الفاتن، بشواطئه التي تُعانقها الجبال من جهة، وتفتحها على العالم من جهة أخرى. هذا الخليج، كما تكشف الصورة ويتفق عليه المؤرخون والرحالة، لم يكن يوما مجرد فضاء بحري، بل كان معبرا استراتيجيا وموقعا تجاريا هاما جذب الفينيقيين، فأسسوا به محطة تجارية تحت اسم "أوبون" (UBBON)، نسبةً إلى موقعه الجغرافي الفريد، وبفضل مياهه الهادئة ومينائه الطبيعي، تحولت المنطقة إلى نقطة ربط بين الضفتين الشرقية والغربية للمتوسط.
ثم جاء الرومان، فانبهروا بجماله الأخاذ، وأعطوه بعدا آخر من الأهمية، ليُعرف لاحقًا باسم هيبو ريجيوس (Hippo Regius)، أي "المدينة الملكية". ولم يكن هذا الاسم عشوائيا، بل لأن المدينة أصبحت مقرًا صيفيًا للملوك النوميد، وعلى رأسهم الملك ماسينيسا وورثته، حيث اتخذوها عاصمة ملوكية في عمق المملكة النوميدية، لما توفره من جمال طبيعي وموقع استراتيجي يصعب تعويضه.
عندما عصفت رياح الأندلس بالتاريخ، وجد العديد من الأندلسيين في خليج عنابة ملاذًا آمنًا وجذابًا. فهاجروا من الضفة الأخرى للمتوسط، وجاؤوا حاملين ثقافتهم، وعاداتهم، وذائقتهم الفنية والمعمارية، ليصنعوا امتدادا حضاريا متكاملا، زاد من رقي المدينة وتفردها. كان الخليج نقطة الوصل، والمكان الأول الذي وطئت أقدامهم ترابه، فاختاروا عنابة موطنا ثانيا، وكتبوا فيها فصولًا جديدة من تاريخها العريق.
لم يكن الوجود الموحدي في المدينة مجرد تواجد عسكري، بل كان اختيارًا دقيقًا مبنيًا على ما يقدمه الخليج من فرص دفاعية وتجارية في آنٍ واحد. فاختار الموحدون مدينة عنابة لتكون إحدى القواعد البحرية الرئيسية لأسطولهم، فصنعوا منها قوة بحرية ضاربة في المتوسط، تُنافس موانئ أوروبا وتُؤمن طرق التجارة البحرية شمالاً وجنوبًا.
اليوم، لا تزال مدينة عنابة تُعانق خليجها بكل فخر، ولا تزال آثار هذه الحضارات شاهدة على عظمة المدينة وفرادتها. من بقايا كنيسة "القديس أوغستين"، إلى المعالم العثمانية، فالفرنسية، فالأندلسية، كلها تتلاقى حول هذا الخليج الذي جمع التناقضات ونسج منها تناغمًا حضاريًا قل نظيره.
أما في الحاضر، فتحول خليج عنابة إلى وجهة سياحية لا تقل أهمية عن أشهر الخلجان المتوسطية. يمتد الكورنيش العنابي بسحره، من رأس الحمراء الذي يُعد إحدى أجمل النقاط المطلة على البحر، إلى شاطئ رفاس زهوان الذي يستقبل المصطافين من كل جهات الوطن، وصولًا إلى شاطئ سيدي سالم الذي يحكي فصولاً أخرى من ذاكرة المدينة الشعبية والبحرية.
خليج عنابة ليس مجرد مكان، بل هو إحساس. إحساس بالانتماء، بالفخر، وبالدهشة في كل مرة تلامس فيها مياه البحر زرقة السماء. هو القلب الأزرق لمدينة العناب، والسر الذي يجعلها مختلفة، متفردة، ومحبوبة في قلوب أبنائها وزوارها على حد سواء. نحن لا نملك فقط مناظر خلابة، بل نحمل إرثًا عظيمًا، علينا أن نعتز به ونحافظ عليه. فخليج عنابة ليس ملكًا لجغرافيا المدينة فقط، بل هو ذاكرة أمة، وقطعة من تاريخ البحر الأبيض المتوسط.