الأسواق الشعبية مقصد الأوفياء بقسنطينة

سوق "فيراندو".. 80 سنة من الوجود

سوق "فيراندو".. 80 سنة من الوجود
  • القراءات: 584
 شبيلة. ح شبيلة. ح

تعد الأسواق أحد العناصر الأساسية التي تتشكل منها المدن عبر التاريخ، وقد أولى رجال الفكر العمراني الإسلامي لها اهتماما بالغا، ودعوا الحكام المسلمين إلى الاعتناء بها، ففي القرن التاسع، ظهر عالم مميز يدعى "ابن أبي الربيع"، وهو من أوائل العلماء الذين وضعوا حجر الأساس لمنهجية اختيار مواضع المدن في كتابه "سلوك المالك في تدبير الممالك على التمام والكمال"، وفي هذا الكتاب، وضع ثمانية شروط في اختيار موضع المدن، ويظهر فيها النضج الذي وصل إليه العلماء في هذا المجال، وأحدها أن يقدر أسواقها بكفايتها، لينال سكانها حوائجهم من قرب.

عرفت الأسواق المشهورة بعاصمة للأسواق ارتباط وثيق بعمران المدن، فهي تؤثر فيها وتتأثر بها، وقسنطينة كغيرها من المدن العريقة التي تضم أسواقا شعبية، لاتزال محافظة على شعبيتها وزبائنها الأوفياء الذين لم يغيروا نمط تسوقهم بها، فرغم ظهور المراكز التجارية الكبرى و«المولات"، إلا أن نكهة البساطة وعراقة المكان لاتزال تجدبهم، فهم يفضلون العودة إليها، رغم الترحيلات التي شهدتها المدينة إلى المدن الجديدة، وهو ما لمسناه خلال تجولنا في عدد من أقدم الأسواق الشعبية.

أسواق متخصصة وأخرى عامة

فإذا تطرقنا إلى الأسواق الموجودة في المدينة القديمة، على سبيل الذكر، هناك العديد منها، ورغم قدمها، إلا أنها لا زالت تحافظ على خصوصيتها، فمنها ما اندثر ومنها ما لايزال يحافظ على اسمه وتاريخه وعمله إلى حد الساعة، حيث قسم العارفون بالمدينة، منذ أزمنة بعيدة، الأسواق إلى نوعين؛ "أسواق غير متخصصة" كسوق التجار، سوق الجمعة، سوق العصر، سوق الغزل، السويقة باب الجابية، سويقة بن لمقالف، سوق الموقف، السوق الكبير، سوق الخلق.

وأسواق متخصصة، كسوق العطارين، سوق السراجين، سوق الصباغين، سوق الصاغة، سوق الحدادين، سوق القزازين، سوق القصاعين، سوق الغرابليين، سوق المبردعيين، سوق الخضارين، سوق الجزارين، سوق الخراطين، النجارين، الخرافشيين، الرفاقين وسوق الدباغين، غير أن جل اسواق المدينة القديمة اندثر لعدة أسباب، أهمها الترحيلات التي عرفتها المدينة، والتي تم على إثرها ترحيل آلاف العائلات التي كانت تقطن المدينة القديمة، صوب سكنات اجتماعية بالمدينة الجديدة، فضلا عن تغيير التجار أنشطتهم، بسبب قلة الاقبال عليها من جهة، مع قدم واهتراء العديد من الأسواق التي هدمت وعوضت بأسواق حديثة ومولات، وغيرها من الأسباب الأخرى التي ساهمت بشكل كبير في اندثار العديد من الأسواق القديمة.

سوق بطو.. تاريخ عريق

ولعل سوق بطو عبد الله المعروف "بفيراندو"، والواقع بنهج مسعود بوجريو - سان جون- وبني سنة 1935، من بين أقدم أسواق المدينة، الذي لازال يحافظ على تاريخه إلى حد الساعة، حيث كان في الأصل، حسب تأكيد أعيان المدينة، مستودعا لشخص اسمه "فيروندو"، وهو رجل أعمال صناعي، أصوله إيطالية، وهو من اخترع سيارة "سيمكا" التي لاقت رواجا وشهرة كبيرة في أوروبا، وقد استخدم السوق أو المستودع لعرض وبيع سيارات "سيمكا" Simca، وهي علامة فرنسية إيطالية، كما أنه تخصص في بيع قطع غيار السيارات، ليتم إعادة توسعته وتأهيله سنة 1980 على مساحة 300 متر مربع، وبات يضم 112 محل تجاري والعديد من الطاولات.

سوق "فيراندو"، وهو أحد أقدم الأسواق الشعبية المغطاة بوسط المدينة، ما يزال إلى يومنا هذا، شامخا محافظا على زبائنه الذين يحبون التسوق بين أروقته، إذ يشهد حركية كبيرة، خاصة خلال شهر رمضان، نظرا لتنوع المنتوجات وجودتها، مما جعله قبلة الصائمين، فبمجرد المرور بشارع بلوزداد، تشم الروائح الزكية المنبعثة من مدخل سوق "بطو"، كما تغريك السلع والبضائع على تنوعها من مدخله حتى مخرجه، فالسلع المتراصة بنظام جميل وبفنية عالية، يعمد إليها التجار لجلب الزبائن والاعتناء بما يقدمونه لهم بطريقة مميزة، إذ يتفنن التجار في تزيين طاولاتهم وترتيب منتجاتهم من خضر وفواكه وتمور، وكذا حلويات تقليدية وعصرية ومخللات، عارضين إياها في حلة تسر كل من يراها، فلا يخرج أحدا خالي اليدين من السوق. 

"النوقة" و"الجوزية... ونكهة رمضان

كما أن منظر الحلويات التقليدية المعروضة، على غرار "النوقة والكاوكاوية وحلوة الحلقوم والجوزية" وغيرها، زادت من روعة السلع المعروضة، التي يكثرالإقبال عليها، خاصة أن الصينية القسنطينية لا تخلو من هذه الحلويات التقليدية في سهراتها الرمضانية.

وخلال جولتنا في منتصف النهار بالسوق، زادت الحركة، حيث ازداد إقبال الصائمين عليه رجالا ونساء، ولعل ما يثير انتباهك في السوق، تلك العلاقة الطيبة بين التجار وزبائنهم الذين ظلوا أوفياء للمكان، على مر السنين، حيث أكد بعض التجار أن زبائنه يقصدونه من الحي، وحتى من البلديات الأخرى، لاقتناء ما لذ وطاب من سلع ذات جودة ميزته عن غيره من الأسواق بشهادة الجميع، فسوق "بطو عبد الله"، أو "الفرندو" لا يمثل سوقا عاديا بالنسبة للقادمين إليه، كما أنه في الحقيقة، ذاكرة ترفض النسيان، فأبناء بلوزداد أو الأحياء المجاورة، لا يدخلونه فقط من أجل التسوق، لكن لاستحضار زمن بعيد وذاكرة لا تموت، إذ قال أحد المواطنين ممن قصدوا السوق، إنه يسترجع ذكرياته حين كان يرافق والده، واليوم صار يصطحب أبناءه لتعريفهم بالتجار وتاريخ السوق العريق.