اقتحمن التجارة في الأسواق الشعبية
وراء كل امرأة قصة مؤلمة

- 877

تؤكد بعض المراجع التاريخية، أن التجارة عرفت طريقها نحو الإنسانية عبر المرأة، في الوقت الذي كان الرجل حاملا لسلاحه ومهتما بالحروب والثورات، ولا زالت الكثيرات يهتمن اليوم، باقتحام هذا العالم من خلال البيع والشراء والتجارة بمختلف ميزاتها، في محلات قانونية وسوية، إلا أن الحاجة كانت لدى أخريات أكبر من الرغبة في ذلك، ليجدن أنفسهن مضطرات من أجل ممارسة التجارة في الأسواق الشعبية.
تعد الأسواق الشعبية من أحسن أماكن التسوق، إذا كان الشخص يبحث عن سلع متنوعة وأسعار منخفضة، مقارنة بالمحلات أو المراكز التجارية وغيرها، إذ تميز تلك المساحة تعدد الباعة الذين يعرضون سلعهم بطريقة عشوائية، مستغلين كل شيء لذلك، سواء كانت طاولة بسيطة أو كرسي أو استغلال غطاء سيارة لعرض سلعهم عليها، أو بكل بساطة، قطعة من البلاستيك أو الكارتون، تبسط على الأرض لحماية السلعة من الاتساخ، وعرضها على المارة بأسعار قابلة للمقايضة، تسمح لكل محفظة مالية باقتناء ما هو متوفر.
الأسواق الشعبية التي لا يحصى عددها، يميزها الجنس الذكوري، فيصعب تخيل امرأة تصمد في تلك البيئة والأجواء الصاخبة بين ضجيج الباعة، الذين تتعالى أصواتهم لجذب الزبائن، وبين الغبار المتناثر بسبب الحركة في طرق غير معبدة، اتخذها البعض بعيدا عن مرأى السلطات مكانا لعرض سلعهم وبيعها.
لكن الحقيقة عكس ذلك، فلا يخفى على أحد تواجد عدد من النساء اللواتي قررن الخروج إلى هذا العالم رغما عنهن، وزاحمن الرجال بدافع إطعام عائلاتهن وحمل مسؤولية توفير القوت اليومي، فما تجنيه المرأة من تلك التجارة كاف ليوم واحد فقط، وليست تجارة تغني صاحبها الجلوس لساعات طويلة عرضة لكل العوامل الخارجية، مهما كانت حرا أو بردا أو شتاء، فالعمل يبقى ضروريا رغم كل الظروف.
في جولة استطلاعية، قادت "المساء" إلى بعض الأسواق الشعبية بالعاصمة، حاولت المرور من بعض النقاط المعروفة بقدم أسواقها، والبداية كانت من سوق الأبيار. بدأت الجولة مع أم رؤوف، البائعة الوحيدة في السوق رفقة عشرات الرجال، كانت تبيع بعض الأعشاب العطرية، حدثتنا بكل عفوية عن حاجتها لهذا العمل قائلة؛ "ليس الخير ما دفعني إلى هنا"، بل صعوبة الحياة، قائلة "لا أحب فكرة الجلوس مكتوفة الأيادي، في حين لدي القدرة على كسب القوت وإطعام أطفالي اليتامى، الذين لديهم حاجيات كثيرة ولابد من تلبية أساسياتها، حتى يتمكنوا من الدراسة والنوم ليلا ببطون ممتلئة، فالنظر إلى فرحتهم يهوّن علي صعوبة العمل، ولا أرى أي مانع في القيام بذلك، ما دام يدر مالا حلالا، أتعب نهارا للحصول عليه".
من جهة أخرى، وفي سوق ثانية بساحة الشهداء، هناك امرأة دفعتها الحاجة إلى الخروج إلى السوق، وغير بعيد عن حيها، تعاني من إعاقة ومصنفة ضمن ذوي الاحتياجات الخاصة، حيث أشارت إلى أن الضرورة هي ما دفعتها إلى الخروج إلى السوق مع الرجل، بغرض التجارة، وقالت "أبيع الأواني الزجاجية، حيث أعرض البعض منها في نفس المكان منذ 15 سنة، والحمد لله، الكل يحترمني هنا ولا أجد أية صعوبة في الجلوس خلال النهار هنا، لأن الرجال الذين يبيعون من حولي كلهم يعتبرونني أختا لهم، وغالبا ما يساعدونني إن احتجت لأي شيء، كما أنهم يوفرون لي الحماية إن ضايقني أي غريب عن السوق، وتلك الطمأنينة تساعدني على أداء عملي من التاسعة صباحا إلى غاية الخامسة مساء، خاصة أن خروج المرأة للعمل في الأسواق الشعبية ظاهرة بدأت تبرز أكثر خلال السنوات الأخيرة، فلا عيب في الأمر ولا حرج، ما دامت أن الحاجة هي التي دفعتها وليس شيئا آخر، وعلى الناس عذرها واحترامها، لأنهن عادة ما يكن كبيرات في السن، فالشابات يستحيل عليهن القيام بذلك، بسبب المضايقات التي قد تتلقاها من المارة، خصوصا الرجال، وينظر إليها البعض على أنها غريبة".
على صعيد آخر، كانت امرأة بسوق "ميسوني" هي الأخرى، من ضحايا الأوضاع الاجتماعية المزرية التي كانت تبدو من الوهلة الأولى مرتاحة ماديا، لكن الحقيقة عكس ذلك، فالمتسوق هناك يعرفها وكثيرا ما شاهدها واقفة أمام سيارة، مستعينة بغطاء محرك سيارتها لعرض عدد يعد على أصابع اليد، من الملابس الداخلية، وضعتها داخل حقيبة خاصة وتتعامل بشكل خاص مع النساء، حسبما أشارت إليه، حيث قالت "لدي زوج مريض في البيت وأصيب بمرض قبل بضعة أشهر، وليس لدينا من يعيلنا، فوجدت طريقة لتوفير مصروف البيت، لاسيما أن لا أحد رغب في توظيفي بسبب تقدمي في السن، وليس لدي تجربة في العمل بعد تقدمي للعديد من الشركات، ووجدت في هذه المنطقة التي تعجّ بالنساء الراغبات في التسوق مكانا مثاليا لعرض بضاعة نسوية، منذ تقريبا سنة، واحتك بالنساء لجعلهن زبونات دائمات لدي، لاسيما أن قلة خبرتي تمنعني من الانفتاح على الزبائن عامة، لكن الحمد لله، يتبادل الكل الاحترم هنا، ورغم الصعوبة، إلا أنه دائما ما أسمع بعض التعابير التي تشجعني وتجعلني أصمد أمام كل الصعاب".
يبدو أن الأوضاع الاجتماعية الصعبة والحالة المادية، هي التي دفعت النساء إلى الخروج للعمل في التجارة، وهن عينة صغيرة من مئات الأخريات اللواتي يختفين وسط أسواق شعبية منتشرة هنا وهناك، في ظاهرة نلمس حدتها أكثر خلال زيارتنا لولايات أخرى داخلية، تنتشر بها المرأة التاجرة في أسواق الخضر والفواكه، وضعت كبرياءها وأنوثتها جانبا لتعمل في التجارة إلى جانب الرجل، فالغاية تبرر الوسيلة، لظاهرة ليست حكرا على الجزائريين، إنّما موجودة لدى مختلف شعوب العالم، حتى المتطورة منها، ووراء كل امرأة عاملة في السوق حكاية ترويها.