موسم الأفراح زاد الأعباء وعزز النزعة الفردانية

من التضامن إلى التفاخر... الهدية وجه آخر لتغير المجتمع

من التضامن إلى التفاخر... الهدية وجه آخر لتغير المجتمع
الهدية وجه آخر لتغير المجتمع
  • 206
رشيدة بلال رشيدة بلال

تحول موسم الصيف إلى مصدر قلق للعائلات الجزائرية، بعدما أصبح مرتبطًا بارتفاع كبير في معدل الإنفاق، إذ لم تعد النزهات والعطل الصيفية وحدها من تستنزف ميزانيات الأسر، بل أضافت إليها تكاليف المناسبات السعيدة من أعراس ونجاحات وغيرها، وما يتبعها من "واجب" تقديم الهدايا، التي تحولت من مجرد رمزية تعبر عن المحبة والفرح، إلى عبء مالي ثقيل يُقاس بقيمتها المادية، ويخضع لحسابات اجتماعية معقدة.لم يعد من المقبول، حسب البعض، تقديم كيلوغرام من السكر أو طقم مشروبات، كما كان شائعًا، بل أصبح انتقاء الهدية عملية صعبة تخضع لمعايير "التفاخر" و«التباهي"، الأمر الذي أفقدها قيمتها المعنوية، وجعل من المناسبات الاجتماعية فرصة للتنمر على من لا يقدم هدية تليق بمستوى التوقعات.

كما هو معروف، فإن فصل الصيف يُعد موسم الأفراح بامتياز، إذ تكثر فيه الأعراس والولائم، ويزداد فيه الإقبال على محلات بيع الهدايا بمختلف أنواعها. ولم يعد الأمر يقتصر على العطور أو الأدوات المنزلية أو الألبسة، بل توسع ليشمل الهواتف الذكية والحلي الذهبية، ما جعل من "الهدية" التزاما ماليًا يُفرض على الزائر، ويحرمه حتى من بهجة المشاركة في الفرحة، تحت طائلة الانتقاد أو حتى التهكم.

عدد من المستجوبين عبروا لـ«المساء"، عن استيائهم من هذا التحول في الذهنيات، مؤكدين أن التغيرات الاجتماعية أفقدت الهدايا بُعدها الإنساني، وحولتها إلى ما يشبه "الدَّين"، حتى أن البعض بات يسمي موسم الأعراس بـ«موسم تسديد الديون"، ويُردد عبارة "جابتلي، لازم نرجعلها". وبعضهم يفضل تفادي حضور مثل هذه المناسبات، تفاديا للإحراج، خاصة عندما تكون المناسبة نجاح أحد الأبناء في امتحان رسمي، مثل شهادة التعليم المتوسط أو البكالوريا، حيث لم تعد الهدايا الرمزية ترضيهم، بل باتوا يفضلون الأوراق النقدية الخضراء، أو ما يسمى "الخضرة" أو الهواتف الذكية، ما يضع الضيوف أمام ضغط مالي كبير.

أما الأعراس، فقد تجاوزت فيها الهدايا قيمتها الرمزية، لتُصبح عنوانًا لمكانة صاحبها. فبعدما كانت النساء يقدمن المساعدة في إعداد الوليمة أو تجهيز البيت، أصبحت الهدايا تقاس بثمنها وقيمتها، وأحيانًا تُدون أسماء أصحابها على العلب لمعرفة من قدم ماذا، وحتى يتم رد الجميل لاحقًا بنفس القيمة أو أقل.

وفي قصة مثيرة للانتباه، تروي سيدة أربعينية من البليدة، أنها تلقت هدية رمزية من إحدى قريباتها، عند حصولها على مسكن جديد، واعتبرتها غير لائقة، فردت عليها لاحقًا، عندما استفادت تلك القريبة من سكن اجتماعي، وقدمت لها علبة بسكويت كُتب عليها "تخفيض"، في إشارة إلى امتعاضها، معتبرة أن الهدية أصبحت تقيس مكانة الشخص في المجتمع.

العديد من المواطنين عبروا عن تذمرهم من هذا الوضع، مؤكدين أن التركيز على قيمة الهدية جعل الكثيرين يُفكرون ألف مرة قبل تأدية هذا "الواجب المعنوي"، ويفضلون في كثير من الأحيان، الغياب عن المناسبة، بدلًا من التعرض للانتقاد، خاصة وأن مفهوم الهدية أصبح وسيلة للتفاخر وليس للتقارب الاجتماعي.

الهدية لم تعد خيارا بل اختبارا 

في هذا الشأن، يرى المختص في علم الاجتماع حسين زبيري، بأن الحديث عن التحولات التي مست مفهوم "الهدية" لا يمكن فصله عن التغيرات التي طرأت على المجتمع الجزائري، خاصة بعد أن انتقل، حسبه، من التفكير الجماعي إلى التفكير الفرداني، حيث أصبحت العلاقات الاجتماعية تُدار بمنطق المصلحة.

ويشير الدكتور إلى أن الهدية كانت في السابق، أداة لتقوية الروابط الاجتماعية، تُقدَّم في مختلف المناسبات، سواء كانت أفراحًا أو حتى خصومات، إذ كانت تُستخدم كوسيلة للاعتذار واستعادة الود، ما يعكس وظيفتها الثقافية والاجتماعية. غير أن هذا المفهوم تغير، وأصبحت الهدية تُقدم، حسب مكانة الشخص الاجتماعية، فإذا كان المعني بالمناسبة ذي مكانة مرموقة أو غنيا، يُجهد الضيف نفسه لتقديم هدية "في المستوى"، لأنه يتوقع تحقيق مصلحة منها، أما إذا كان بسيطًا، فتكفي هدية رمزية أو زهيدة، لأن المعني لا يُتوقع أن يقدم شيئًا بالمقابل.

وتحول بذلك سؤال "ماذا سأستفيد من تقديم الهدية؟" إلى معيار جديد، أفرغ المبادرة من بعدها الإنساني. كما أن ردود الفعل أصبحت محكومة بطبيعة الهدية، فإذا كانت بسيطة، يكون الرد بسيطا أو باهتًا، في حين أن المنطق الاجتماعي يفرض أن يكون التقدير نابعا من النية، وليس من القيمة المادية.

ويختم المختص بالتأكيد، على أن النزعة الفردانية أصبحت تحكم العلاقات الاجتماعية، ما جعل الهدية مؤشرا اجتماعيا وثقافيا مهما، تحولت إلى أداة تُقاس بالمصلحة والمنفعة، وهو ما يستدعي إعادة النظر في هذا التوجه لحماية الرمزية، التي تعكسها الهدية كوسيلة لتقوية الروابط، وتحقيق الاستقرار النفسي والاجتماعي.