لإثبات "الرجولة" أو "التفوّق"

"مقود الغضب" يحوّل الطرقات إلى ساحات حرب

"مقود الغضب" يحوّل الطرقات إلى ساحات حرب
  • 199
نور الهدى بوطيبة نور الهدى بوطيبة

مشهد يتكرّر كلّ يوم تقريبا؛ شاب في مقتبل العمر يقود سيارة بسرعة جنونية، يتجاوز الجميع، يقطع الإشارة الحمراء كأنّ الشارع خُلق له وحده. يفتح زجاج السيارة، يصيح، يسبّ، يشتم، ويختتم عرضه البهلواني بانحراف خطير أو اصطدام مروّع. هذا ليس مشهدا سينمائيا بل واقع مرير نعيشه في طرقاتنا. واقع تحوّل فيه بعض شباب اليوم، إلى قنابل موقوتة، تنفجر في وجه المجتمع دون سابق إنذار!.

كلّ صباح وبينما يستعد الفرد ليوم عمل جديد، يكون هناك من اختار أن يحوّل الطريق العام إلى مضمار سباق، غير آبه بالإشارات الضوئية، ولا بالحياة التي تمرّ بجانبه. شباب في مقتبل العمر، يقودون سياراتهم بسرعة جنونية، يتجاوزون المركبات بلا أدنى وعي، يتبادلون الشتائم، يرفعون أصوات الموسيقى، ويخرجون رؤوسهم من النوافذ؛ كأنّهم في استعراض عضلات لا يخضع لأيّ قانون!.

 بين السرعة والجنون.. أين العقل؟!

الطرقات لم تعد وسيلة للوصول إلى الوجهة، بل أصبحت عند البعض، ساحة حرب لإثبات "الرجولة" ، أو "التفوّق" على حساب أرواح الآخرين.  شباب يقودون بسرعة تتجاوز 160 كلم في الساعة داخل المدن، يتسابقون وسط الزحام، يلاحقون بعضهم في مشاهد هستيرية؛ وكأنّهم في سباق "رالي" لا تحكمه قوانين!. ولا يكتفي هؤلاء بالتهور في القيادة، بل تجدهم يتعمّدون استفزاز السائقين الآخرين. فإذا ما تم تنبيههم على خطئهم ردوا بالشتائم، والإشارات البذيئة، أو حتى التهديد بالنزول والتشابك بالأيدي! فهل أصبحت شوارعنا مسارح للصراعات؟ هل تحوّلت إشارات المرور إلى مجرّد ألوان لا معنى لها؟!.

المؤلم في كلّ هذا ليس فقط التصرفات الفردية، بل الصمت الجماعي أمامها. فمشهد السيارة المسرعة يمرّ دون تعليق، شاب يسبّ سائقا آخر في منتصف الطريق، ويُضحك من حوله، حادث قاتل يحدث، ليكتفي البعض بقول "قضاء وقدر" ... لكن الحقيقة هي أنّ هذه الظواهر هي نتيجة مباشرة للإهمال، واللامبالاة!.

القيادة العدوانية.. نوع من التعبير عن التمرّد

في هذا الصدد كان لـ«المساء" لقاء مع خبير علم الاجتماع داود رايسي، الذي أكّد أنّه رغم وجود قوانين صارمة إلاّ أنّ التهرّب وعدم الإبلاغ أحيانا، وراء الانتشار الكبير لتلك الظاهرة؛ فكم من شاب يقود بلا رخصة بحجة أنّه داخل الحي فقط! وكم من حادث يسجَّل ضدّ مجهول! وكم من فيديوهات "تيك توك" نُشرت، يتباهى فيها بعضهم بالسرعة والانحراف! "  وهذا دليل على غياب الوعي من جهة، وغياب ثقافة التبليغ من جهة أخرى، من بعض المواطنين ".

وأضاف المتحدّث: " تلك المظاهر أصبحت تعكس في اعتقاد البعض، الرجولة،و والقوّة. وأصبح السبّ والشتم من اللغات السائدة في الشارع. وهي ظاهرة أخرى لا تقلّ خطورة عن السرعة، وهي الانفلات الأخلاقي داخل السيارات؛ كالسب، والصراخ، والنظر إلى الآخرين بازدراء، وكلّها سلوكيات صارت ترافق هؤلاء "المتهوّرين" وكأنّها جزء من هويتهم، لتنتهي في كثير من الأحيان، هذه المشاحنات، للأسف، يضيف المتحدّث، بعراك جماعي، أو طعن، أو دهس متعمّد!.

ونبّه الخبير إلى أنّ هذه ليست حالات معزولة، بل ظاهرة متفشية تهدّد أمن الطرقات، وتزرع الرعب في قلوب المواطنين، خصوصا العائلات التي ترافق أبناءها إلى المدارس، أو كبار السن، أو حتى النساء، والذين يجدون أنفسهم فجأة أمام سائق متهوّر لا يعترف إلاّ بـ«الفرملة المتأخّرة"، أو "التهوّر الذكي"، كما يسميه بعضهم.

وأكّد رايسي أنّ ظاهرة السياقة المتهوّرة هي "امتداد لحالة نفسية واجتماعية يعيشها جزء من الشباب اليوم، تعكس الإحباط، والرغبة في لفت الانتباه، أو حتى إثبات الذات بالقوّة لا بالعقل" . ويضيف: "عندما يشعر الشاب أنّه غير مرئي في المجتمع أو غير مسموع، فإنّه يلجأ، أحيانا، إلى القيادة العدوانية؛ كنوع من التعبير عن التمرّد. لكن هذا التمرّد يتحوّل إلى خطر قاتل عندما يمارَس في فضاء عام مشترك، مثل الطرقات" .

وأضاف المتحدّث أنّ ما يثير القلق أكثر هو أنّ السياقة المتهورة لم تعد تقتصر على السرعة فقط، بل أصبحت تصاحبها أشكال من العدوان اللفظي والجسدي. فمن السهل اليوم، يقول داود، أن ترى مشاجرة بين سائقين في وسط الطريق، بسبب "أفضلية المرور"، أو أن تسمع شتائم نابية تقال على الملأ دون احترام لكبار السن أو الأطفال، محذّرا من أنّ هذا النوع من التصرفات يعكس احتقانا نفسيا جماعيا، يجب معالجته ليس، فقط، عبر الردع القانوني، بل عبر إصلاحات تربوية وثقافية عميقة.