التداوي بـ"القطيع".. بين الموروث الشعبي وتنديد المختصين

معتقدٌ قديم يقاوم العلم ويهدّد الأرواح

معتقدٌ قديم يقاوم العلم ويهدّد الأرواح
  • 159
رشيدة بلال رشيدة بلال

رغم الانفتاح الكبير الذي يعرفه المجتمع وما رافقه من تطور تكنولوجي وعلمي في عدة مجالات خاصة المجال الصحي من حيث طرق العلاج والتداوي، إلا أن هذا التطور لم يكن قادرًا على تغيير بعض المفاهيم التي ترسخت في الأذهان وتوارثتها الأجيال، فكثيرون لايزالون يؤمنون بممارسات يصفها المختصون بمجرد "خزعبلات" و"خرافات"، بل وتقترب من الشعوذة والسحر. وللأسف الشديد، رغم أن نتائجها تودي بحياة بعض من خاضوا التجربة، إلا أن ذلك لم يمنع الكثيرين من الإقدام عليها، بناءً على اعتقاد راسخ لدى غير المثقفين، بل وحتى بعض المتعلمين، بأنها مرتبطة بـ"حكمة إلاهية" يمنحها الله بعضَ الأشخاص.

والمقصود هنا ما يُعرف بـ "القطيع" . وهي طريقة تقليدية في التداوي، تعتمد عدة أساليب مثل البارود، والقطران، والسكين وغيرها... إذ يعتقد أصحابها أنها قادرة على وضع حد للمرض؛ فهل يُعقل أن يتغلب هذا الموروث على العلم؟ وكيف استطاعت هذه المعتقدات أن تستمر؟

من منا لم يسمع أو لم تصادفه قصة يرويها أفراد من العائلة أو الجيران أو عامة الناس، ينصحون فيها غيرهم بالاعتماد على "القطيع" بعدما تعذّر الشفاء بالأدوية؟ يستند هؤلاء إلى روايات عن أشخاص قيل إنهم شفوا من أمراض مستعصية، وعلى رأسها "عرق النسا"، بفضل هذه الممارسات.

فما قصة "القطيع"؟

يُعدّ التداوي بـ"القطيع" من أبرز السلوكيات الصحية المنتشرة في المجتمع الجزائري. ويُقصد به، وفق ما هو شائع، اعتماد الأفراد على تجارب غيرهم من وصفات وعلاجات دون الرجوع إلى مختصين، أو بعد فشل المختصين في العلاج. هذه الظاهرة تعود جذورها إلى قرون مضت، حيث ظل الموروث الشعبي مرجعا أساسيا لاتخاذ القرار الصحي.

وتشير الأبحاث إلى أنّ بدايات هذا السلوك تعود إلى الحقبة السابقة للاستعمار، حين كان الجزائريون يعتمدون على الطب التقليدي القائم على الأعشاب، والعلاجات الروحية، والوصفات الشفوية التي تنقلها النساء و"العطّارون". وفي تلك الفترة، شكّلت التجربة الجماعية مصدرًا رئيسيا للمعرفة الصحية، فترسخت ثقافة العلاج التقليدي في القرى.

وخلال الفترة الاستعمارية تضاعفت الظاهرة؛ بسبب محدودية الخدمات الطبية، وندرة الأطباء الجزائريين، إذ لجأ الناس للوصفات الشعبية كبديل وحيد لمواجهة الأمراض، وهو أمر كان منطقيا في سياقه التاريخي. وبعد الاستقلال ورغم توسّع المنظومة الصحية تدريجيًا، ظل أثر الموروث قويا، فظهرت عبارات من قبيل "هذا الدواء جربتو"، كمرجع لاتخاذ القرار في العائلات، فيما لعبت النساء دورًا مهمّا في نقل وصفات الجدات "المجرّبة".

وفي التسعينيات، ومع الظروف الأمنية والاقتصادية الصعبة، أخذ الطب الشعبي مكانة أكبر، فانتشرت محلات الأعشاب، وتوسّع العلاج بالرقية، وما يُعرف بـ"القطيع" ؛ ما منح الظاهرة بعدا أكثر تنظيماً. ومع دخول البلاد عالم الرقمنة تحولت الظاهرة إلى موجة واسعة تغذيها مواقع التواصل، حيث بات المؤثرون ينشرون وصفات جاهزة يتلقفها الناس بسرعة، غالبًا دون أي وعي طبي. وبلغت ذروتها خلال جائحة كورونا.

فهل "القطيع" علاج فعّال… أم مجرد شعوذة؟

تُفصّل الطبيبة سارة جرافي المختصة في طب الأطفال، موقفها من "التداوي بالقطيع" بالقول إنه خرافة لا أساس علمي لها، مؤكدة أنها بعد سنوات من المتابعة، لم تصادف أي مرض يَشفى بهذه الطرق. وتضيف: "لو كان للقطيع أي أساس علمي لكان الغرب الذي يُعد من أكثر الشعوب تطورًا في المنظومة الصحية، قد تبنّاه قبلنا". وتروي الطبيبة في تصريح لـ"المساء"، عدداً من القصص المؤلمة التي دفعتها إلى الخروج عن صمتها، ورفع راية التحسيس عبر مواقع التواصل بعدما تحولت الظاهرة إلى خطر مباشر يهدد حياة الأطفال. 

ومن بين أبشع القصص، كما تقول، قصة رضيع يبلغ من العمر ستة أشهر، لم يمض على وفاته 15 يومًا. كان الطفل يعاني من إسهال بسيط، فأخذه الأقارب إلى عجوز لعلاجه بـ"القطيع"، فاستعملت له مادة القطران. وهي مادة كانت تُستخدم قديمًا لطرد الأفاعي! ابتلع الطفل القطران؛ ما أدى إلى قصور كبدي حاد، تَسبب في وفاته!. والأسوأ، تضيف الطبيبة، أنهم أعادوه إلى العجوز بعدما أصيب باليرقان أو ما يُعرف بـ(الصفاير)، فقطعته ثانية بالقطران. ثم نقلوه إلى عجوز أخرى استعملت له بودرة الحديد بحكم أن حالته الصحية لم تتحسن. وعندما وصل الطفل أخيرًا إلى العيادة، كان في حالة غيبوبة كبدية لا أمل في إنقاذه منها!.

وتروي الطبيبة قصة أخرى لطفل اختنق بعدما قطعت له إحدى العجائز بالبصل، إذ ابتلع جزءًا منه، فسدّ له مجرى الهواء، وتوفي!. وتؤكد أن مثل هذه القصص كثيرة تحدث في مجتمعنا، وكلها نتيجة الإيمان الأعمى بمعتقدات واهية!.

الظاهرة لا تخص غير المتعلمين فقط

وعن انتشار الظاهرة في المناطق خارج المدن، تقول الطبيبة جرافي، إنها بعد أكثر من 15 سنة من العمل بين المناطق النائية والمدن كانت تظن أن الظاهرة محصورة في بيئات معينة، لكن الواقع فاجأها. فقد صادفت حتى طبيبة أخذت ابنها لتقطع له عند عجوز بسبب “الصفاير” دائما، وكانت النتيجة تدهورا خطيرا في حالة الطفل. وهو ما يدل على أن المعتقد لا يخص غير المثقفين فقط، بل أصبح متجذرا ويسكن الأذهان رغم كل التطور العلمي.

أدوات خطيرة وممارسات بدائية

وتعبّر الطبيبة عن ذهولها من المواد المستخدمة في عمليات "القطيع"؛ مثل القطران، والجمر، والنار، والبارود، إضافة إلى "التشليط" الذي يترك عاهات مستديمة، وتعفنات خطيرة. وتتساءل: "هل يُعقل أن تُقدَّم مثل هذه المواد لرضيع؟! ".

وتختم الطبيبة سارة جرافي برسالة واضحة للأولياء: "حذار ثم حذار... الطبيب إذا أخطأ فهناك جهة مسؤولة وقوانين تنظّم عمله، لكن عندما تخطئ العجوز… من يتحمل المسؤولية؟! ". وتطالب في السياق بصياغة قانون يعاقب من يمارس هذا النشاط، وبتشديد الرقابة، وتمكين الأطباء من التبليغ عن هذه الممارسات التي وصفتها بـالشعوذة.