منابع الماء بمنطقة القبائل

مصدر للحياة وإحياء لعادات ضاربة في أعماق التاريخ

مصدر للحياة وإحياء لعادات ضاربة في أعماق التاريخ
  • القراءات: 2922
 س.زميحي س.زميحي

قال تعالى "وجعلنا من الماء كل شيء حي"، إنها أية من آيات الله عز وجل تؤكد أن الحياة مرتبطة بالماء، حيث يعتبر مصدر الحياة وسر استمرارها، وأينما يسير ويمر هذا المورد تزهر وتتفتح الحياة. وبالنسبة لسكان منطقة القبائل، فكما يعتبر الماء مصدرا حيويا لا يمكن الاستغناء عنه، يعد كذلك مصدرا لإحياء العادات القديمة الضاربة بجذورها في عمق المجتمع، حيث يولي القرويون أهمية كبيرة للينابيع الطبيعية.

قد يتساءل البعض عن السر وراء كثرة الينابيع الطبيعية بمنطقة القبائل، ولعل المتجول بأزقة القرى يلاحظ وجود ينابيع هنا وهناك، تجتمع النساء حولها لملء الدلاء وغسل الملابس، كما تعد المكان المناسب لتلاقي العائلات وغيرها. وتعرف مواقع الينابيع إقبالا كبيرا للسكان لجلب المياه الباردة، فضلا عن المناظر التي يخلفها الاقتراب من هذه الثروات المائية، فخرير الماء وبرودته وتدفقه غير المنقطع من الأسباب التي تحفز المواطنين على التقرب من هذه المنابع المائية للاستمتاع بالمناظر والاستسقاء بمياهها العذبة، إذ يشعرهم الجلوس أمامها براحة نفسية لا مثيل لها، فمن جهة هدوء المكان، ومن جهة أخرى نوعية المياه ذات الجودة العالية والمفيدة لصحة الإنسان. فبالرغم من وصول المياه إلى المنازل، حيث أصبحت العائلات تحصل على هذا المورد من حنفيات منازلها، لكن ذلك لم يقلل من الإقبال على مياه الينابيع، إذ لا يزال القرويون يلجأون إليها، ولعل الطوابير التي نجدها في الطرق بأوساط القرى والمرتفعات الجبلية البعيدة لخير دليل على أن هذه الينابيع تكتظ بالباحثين عن المياه العذبة والهدوء والبرودة التي تحيط بالموقع، لكن ليس فقط من أجل هذا الغرض، على اعتبار أن تعلق السكان وتمسكهم بالينابيع الطبيعية لا يتوقف على اقتناء وجلب الماء للشرب والاستعمالات اليومية فحسب، لكن يمتد أيضا إلى إحياء عادات وتقاليد مختلفة كان الأجداد يحيونها وتم تداولها عبر السنين، لتنتقل من جيل لآخر، مما جعلها حية إلى يومنا هذا وتمارس بفضل محافظة العائلات عليها.

فعلاقة السكان بالطبيعة تترجم في أشكال مختلفة، زيادة على خدمة الأرض، هناك البحث عن مصادر للسقي من خلال تهيئة مواقع، حيث يتدفق الماء لتتحول إلى ينابيع معروفة منها للشرب وأخرى للسقي وغسل الملابس وشرب الحيوانات وغيرها، والتي تخضع من حين لآخرى للتهيئة والتخلص من الأعشاب والطحالب، مما يضمن نقاء وصلاحية مياه الشرب.

السكان يفضلون الينابيع الطبيعية على ماء الحنفيات

تطبع طرق القرى بمنطقة القبائل صور جميلة يخيل أحيانا بأنها لوحات فنية يعجز اللسان عن وصفها، تحمل الكثير من المعاني وتختزل طريقة ونمط عيش السكان، منها توجه مجموعات من النساء بالزي التقليدي القبائلي نحو الينابيع الطبيعية أو هن في طريق العودة وعلى رؤوسهن "أساقوم"،  وهو دلو مصنوع من الفخار مملوء بالماء، صورة لا نجدها إلا بقرى المنطقة، كما تضاف إلى هذه الصورة، صورة أخرى تصاحب فترة موسم جمع الزيتون وخروج كل العائلات كبيرا وصغيرا إلى الحقول لجمع الغلة، لكن الأهم من ذلك ما يصاحب هذه الفترة من طقوس ويضفي جمالا على القرى والمداشر، حيث تتجه الفتيات جماعات إلى" ثالة "لإحضار الماء، منهن من يحملن الماء على رؤوسهن وأخريات على ظهورهن، في حين أت هناك من تغنم فترة جمع الزيتون لغسل الملابس عند وصولها إلى الحقل، ليتم وضعها على الأغصان حتى تجف ويتم جمعها في الفترة المسائية في طريق العودة إلى المنازل.

ويقول دا مقران، إن هناك ينابيع طبيعية تعود أغلبيتها إلى عهود غابرة تتواجد بحواف الطرق، مثل تلك التي تتوزع على طريق بلدية إعكوران بدائرة أعزازقة "لافونتان فريش"، "أسيف أوسرذون" ببلدية بوزقان، وغيرهما من التي تعرف بعد نهاية العمل تسابق المواطنين على متن سياراتهم للظفر بكميات من المياه الباردة التي تنعش النفوس، حيث تشعر بالبرودة وأنت في عز فصل الصيف بعد لمس المياه التي تبقى محافظة على برودتها، كما أنها تعتبر مصدر تمويل وتزويد حاجيات السكان على مدار أيام السنة وحتى المستشفيات التي تعتمد على هذه الموارد، على اعتبار أن مياهها عذبة ونقية ومفيدة للصحة، مثلا "لا فونتان فريش" بأعزازقة القريبة من المستشفى والتي تجرى لها التحاليل بصفة مستمرة لإثبات صلاحيتها للشرب، كما نجد الوضع نفسه بعدة مناطق من الولاية التي تعتمد على ماء الينابيع منذ ما يزيد عن 13 سنة بحكم افتقارها إلى ماء الحنفيات.

الاغتسال في الأعياد لتوديع العزوبية وجلب النصيب

تنتظر العائلات القبائلية قدوم مختلف المناسبات الدينية بفارغ الصبر، من أجل تجسيد عاداتها التي من شأنها فك قيود العزوبية على الفتيات وجلب النصيب، على أن يتم تزويج البنات الواحدة تلوى الأخرى وفقا للسن، حيث تحرص العائلات القبائلية على عدم تزويج الصغيرة قبل الكبيرة، حتى لا يقطع نصيبها وتظل بمنزل أبويها، ومنه صعوبة إيجاد شريك حياة لها، فبمجرد قدوم مناسبة معينة كالعيد، عاشوراء وغيرهما تقوم الأمهات بالتوجه إلى الينابيع الطبيعية، لجلب الماء من 7 ينابيع طبيعية، حيث تأخذ من كل منبع القليل من الماء، ليتم وضعه ليلة كاملة تحت النجوم، مع وضع القليل من الملح، لتستحم به الفتاة قبل طلوع الفجر داخل الجفنة، ليتم رمي الماء في مكان به حشيش وأزهار حتى تزهر حياة الفتاة وتتفتح كالربيع وتظل جنة خضراء، على حد تعبير أهل المنطقة، وتقول بهذا الشأن نا زهرة، من بلدية آيت يحيى، بأن هذه العادة لا تزال تمارس إلى يومنا هذا وأن العائلات تعمل من أجل توارث هذه العادة التي ساهمت وبشكل كبير في تزويج الفتيات العازبات وفتح الباب أمام الخطابة، حيث لا يمكن تفويت العيد دون استحمام العازبات من أجل الانتقال إلى الحياة الزوجية في السنة المقبلة.

ماء الولي الصالح لحماية العرسان من العين والحسد

الحديث عن أولياء الله الصالحين بمنطقة القبائل يقودنا إلى ذكر أسماء عديدة، التي ورغم مرور السنين عن رحيلها لا تزال تحظى باحترام السكان، وكذا الإقبال على مقاماتها لإحياء عادات مختلفة، خاصة عاشوراء، كما أن هناك مقامات الأولياء الصالحين التي تقصدها العائلات لجلب الماء، مثلما هو الأمر بالنسبة لمقام الوالي الصالح الشيخ محند أولحسين،  ببلدية آيت يحيى دائرة عين الحمام، حيث ورغم مرور السنين لا يزال السكان يحافظون على عادات موروثة أبا عن جد، فمنذ الأزل تذهب العائلات إلى المقام لإحضار الماء منه، والذي يستعمل لأغراض مختلفة، لاسيما إبطال السحر ومحاربة العين الحسود، حيث تقول نا زهوة 89 سنة من  قرية ثاقة،  بأنها لا تزال تتذكر ومنذ أن كنت طفلة، كانت جدتها تأخذها معها لجلب الماء من مقام الوالي الصالح الشيخ محند ألحوسين، عندما يتم الاستعداد لإحياء حفل أو عرس ما بالعائلة كحفل زواج، ختان وغيرهما، حيث تضيف أن الجدة عند بداية الحفل تقوم برش كل أرجاء المنزل بقليل من الماء، كما يستعمل القليل منه للأكلات التي يتم تحضيرها لتفادي مشاكل قد تعكر صفو الاحتفال.

وأضافت نا باية من قرية آث هارون، أن هناك أدلة قوية برهنت على أهمية هذا الماء في إبطال كل محاولة خلق مشاكل وإفساد الفرحة، حيث تقول إنه عند رش المنزل بالماء، في حال وجود السحر، فإنه تهب الرياح فجأة ولا تتوقف إلى حين سقوط السحر من موقعه، وهو ما حدث في العديد من المرات،  حيث تم اكتشاف أشياء غريبة تم ربطها ووضعها بأسقف المنازل لإفساد الفرحة وإحداث مشاكل، مما كان وراء حرص السكان على الاستعانة بماء بئر الشيخ محند ألحوسين في الأعراس ومختلف المناسبات.

وذكرت نا جقجيقة، قصة ماء بئر الوالي الصالح شيخ محند ألحوسين، المتواجد بقرية آث أحمد ببلدية آيت يحي، حيث تقول ـ حسبما علمته من جدتها ـ أن الشيخ كان شخصا مؤمنا، حيث كان منزله ملجأ كل ضرير ومهموم ومحكمة لحل مشاكل السكان ونزاعاتهم، وقد حاولت فرنسا جلبه إلى صفوفها بالثروة، لكنه رفض، ومن شدة إيمانه في أحد الأيام نزل إلى البئر من أجل أن يتوضأ فوجد ماء البئر قد تحول إلى مال، ثم ذهب إلى المنابع ليصلي وجدها مليئة بالمال، فقال؛ يا منبع أعطيني الماء فالحياة فانية".

وتتوافد على بئر الوالي الصالح عائلات من كل مكان لجلب الماء، حيث يظهر من ترقيم السيارات توافد العائلات عليه من مختلف ولايات الوطن، خاصة العاصمة من أجل أخذ الماء من البئر عند قرب إحياء حفلة خطوبة، زفاف أو ختان وغيرها.

خروج العروس في اليوم السابع نحو المنبع لجلب الماء

لا تتوقف فوائد المنبع الطبيعي عند شرب الماء، الاغتسال وغيرهما، حيث أن العادات بمنطقة القبائل كثيرة لا تعد ولا تحصى، فارتباط السكان بالينابيع الطبيعية لا يمكن وصفه على اعتبار أنه يمثل جزءا من حياتهم اليومية، حيث بعد جلب الماء من بئر المقام الوالي الصالح وجلب العروسة وإبعاد العين والحسد، تأتي عادة أخرى لا تزال العائلات القبائلية ورغم مرور السنين تحافظ عليها، كونها عادة مميزة تصاحب حفل الزفاف، حيث تخرج العروس بعد دخولها عش الزوجية في اليوم السابع باتجاه أقرب منبع مائي (ثالة)، رفقة أقارب زوجها وبنات القرية وبيدها طبق يحوي مزيجا من المكسرات والبقول الجافة والحلوى، بينما تطلق النساء العنان لحناجرهن بالزغاريد، تقوم العروس الجديدة بتوزيع المكسرات على الحضور وهي فرصة ليتعرف السكان عليها، كما تقوم برمي مزيج من الحبوب والبقول الجافة في مجرى المنبع حتى تسير حياتها الزوجية من الماء النقي، وقبل أن تغادر تقوم بملء دلو مصنوع من الفخار ويشرب منه الأطفال الذكور أولا، ثم الإناث، حسب العادة، لكي يكون أول طفل لها ذكر.

وكما تعتبر الينابيع الطبيعية مكان مناسب لخطبة الفتيات، حيث تتجه البنات إلى مواقع الينابيع الطبيعية لغسل الملابس أو جلب الماء، وتقوم النساء اللواتي يرغبن في تزويج أبنائهن  بطرح سؤال معين على أية فتاة أعجبتها، وتقرر على حسب رد فعل البنت، إن كانت مناسبة لأخذها ككنة أو لا.

ماء ثالة تيزي نتغيذات لعالج الكلى وثالة ملولن لعلاج عدة أمراض

وبعيد عن العادات والطقوس، يزداد الإقبال على الينابيع الطبيعية لتزود بكميات من المياه العذبة التي تشفي العليل وتروي الضمأ، لاسيما أنها تفيد في الوقاية من بعض الأمراض التي تصيب الكلى والجهاز الهضمي، حيث ترى طوابير غير منتهية للمواطنين وهم ينتظرون دورهم لملء الدلاء، حيث تشهد ثالة تيزي نتغيذات الواقعة ببلدية إعكورن، توافدا وإقبالا كبيرين للعائلات، حيث يكتظ المكان طيلة أيام الأسبوع خاصة في العطل ونهاية الأسبوع بطوابير لا متناهية من العائلات بشكل يثير الانتباه، ولعل جمال المواقع يستهوي عشاق الطبيعة للاستمتاع بهدوء المكان وخرير المياه وزقزقة العصافير من جهة، ومن جهة أخرى فرصة لجلب الماء المفيد للصحة وعلاج عدة أمراض، كما هو الحال بالنسبة لمنبع تيزي تغيذات الذي تعتبر مياهه صالحة ومفيدة لمعالجة مرض الكلى، حيث تساعد على التصفية والتخلص من الحصوات في الكلى والذي ينصح به الأطباء كثيرا، لاسيما بعدما أجروا التحاليل على هذه المياه، وتأكدوا من أنها مفيدة جدا للمصابين بالحصوات في الكلى، حيث تعد أفضل بكثير من تناول الأدوية.

فتعلق القرويين في منطقة القبائل بالطبيعة لم يأت من العدم،  إنما لدرايتهم بأنها تحوي على كل ما يضمن بقاءهم على قيد الحياة ومواجهة مصاعب الحياة، فهي مصدر رزق، بفضل خدمة الأرض، والدفء بفضل الاستعانة بالحطب، والدواء بفضل مختلف الأعشاب الطبية والأكثر من ذلك الينابيع الطبيعية التي تشفي عدة أمراض، مثل "ثالة ملولن" أي الينبوع الأبيض الذي يقع بقرية آيت داوود، التي تبعد بحوالي 10 كيلومترات عن بلدية إعطافن، جنوب تيزي وزو، إذ تتواجد على ارتفاع يزيد عن 800 متر عن سطح البحر، حيث يعد من أحد أشهر الينابيع بالولاية، نظرا لخصائصه العلاجية بفضل مياهه المالحة والساخنة التي تصل درجة حرارتها إلى نحو 40 درجة مئوية، حيث يكتظ هذا المنبع بالزوار والباحثين عن العلاج، لكن أكثر بالفضولين على اعتبار أن هذا المنبع يظهر مرة واحدة في السنة وتحديدا في فصل الربيع، ويوجد بالموقع حوض، حيث يجتمع الماء الذي يقصده المرضى للاستحمام والاغتسال به، حيث كثر عنه الحديث بأنه مفيد لعدة أمراض، خاصة العظام.

ويقول أحد العارفين من السكان، على حد ما علمه من كبار القرية، أن المنبع يقع في ملكية "آيث شيغة نتزاغارث" ويعود إلى أكثر من قرن من الزمن، حيث ظل متدفقا في فصل الربيع ليجف خلال الأشهر الأخرى، مشيرا إلى أنه خلال التواجد الفرنسي بالجزائر، حاولت فرنسا نقل هذا المنبع من خلال البحث عن مصدره، لكنها لم تتمكن من معرفة المصدر.

اختفاء الكثير من الينابيع... بسبب زحف الإسمنت وتدخل يد الإنسان في الطبيعة

رغم اهتمام السكان المحليين بالينابيع الطبيعية وحرصهم على تهيئتها من حين لآخر، على اعتبارها تمثل جزءا من حياتهم اليومية، لكن مؤخرا الكثير من الينابيع الطبيعية اختفت بسبب زحف الإسمنت على المساحات الخضراء، وتحول مرتفعات جبلية إلى أرضية مسطحة مهيأة لاستقبال إنجازات مختلفة، كما أن تدخل يد الإنسان أفسد نمط الطبيعة، مما كان وراء اختفاء عدة مصادر للمياه.

واليوم هناك الكثير من المبادرات التي تعمد لجان القرى عبرها إلى تهيئتها والسهر على صيانة الينابيع الطبيعية، لأنها جزء من ذاكرتهم الشعبية الضاربة في أعماق التاريخ، كما تعمل أيضا على إعادة الاعتبار لينابيع مختلفة يلجأون إليها في حالة غياب ماء الحنفيات، خاصة في فصل الصيف، وبعد إدراج مسابقة "أنظف قرية"، والتي تعد تهيئة الينابيع الطبيعية أحد المحاور التي تأخذ في سلم التنقيط للفوز بالمسابقة.