حين لا ينطفئ الشغف ولا تنتهي الحاجة
متقاعدون يعودون للعمل بنفس متجدّدة وعطاء لا محدود

- 247

يتصدّر عمل المسنين بعد التقاعد مشهدا اجتماعيا لافتا، يزداد وضوحا في السنوات الأخيرة، وسط تساؤلات متكرّرة حول دوافع هذا الخيار؛ حيث يتجاوز البعض فكرة التقاعد كمرحلة راحة واستقرار، مواصلين الانخراط في سوق العمل، إما بدافع الحاجة الاقتصادية، أو وفاء لعادة امتدّت لعقود، أو رغبة في الحفاظ على الشعور بالجدوى والفاعلية؛ إذ يتجاوزون مرحلة التقاعد بوصفها نهاية طبيعية للحياة المهنية "رسميا"، لكن مع وجود خيار البقاء في دائرة الإنتاج، والاستمرار والعطاء.
في مجتمعنا ككلّ المجتمعات غالبا، تصوّر لحظة التقاعد كما لو كانت نقطة النهاية لمسيرة طويلة من الجهد، يتخيّلها البعض "استراحة المحارب"، بينما يراها آخرون بداية الفراغ، والانعزال، والخروج من دائرة اهتمام الحياة العملية والمهنية. لكن على أرض الواقع هناك من يرفض أن يغلق الباب خلفه بعد التقاعد، ويختار أن يبقى في المشهد، ليس دائما لأنّ الحاجة تلزمهم فحسب، بل لأنّ شيئا أعمق يدفع هؤلاء للعودة.. "الشغف"، أو "الاعتياد"، أو حتى شعور داخلي بأنّ الانسحاب المبكّر عن الدور الاجتماعي هو انسحاب من الحياة نفسها، حسب شهادة كثير ممن مسّهم استطلاع "المساء".
ولا يمكن التعامل مع التقاعد بوصفه لحظة موحّدة أو تجربة واحدة؛ فبين من يستقبله بترحيب وارتياح وبين من يشعر نحوه بالخوف والرفض، تتشكّل مواقف نفسية واجتماعية متباينة وسط المجتمع. لكن ما يلفت النظر في السنوات الأخيرة تزايد عدد المتقاعدين الذين يختارون العودة إلى العمل طوعا أو اضطرارا، في ظاهرة تتجاوز البعد الاقتصادي، لتلامس الجوانب النفسية والاجتماعية والثقافية، فلم يعد الأمر مجرّد استثناء، بل مؤشّر على تحوّل عميق في علاقة الإنسان بدوره المجتمعي، والزمني.
العمل وسيلة للبقاء الاجتماعي
عن هذا الموضوع يعلّق أستاذ علم الاجتماع في جامعة الجزائر، سليم نمشي، على هذا الواقع قائلا: "من الخطأ أن نختزل عودة كبار السن للعمل في بعدها الاقتصادي فقط. نعم هناك من يعود للعمل بسبب ضعف المعاش التقاعدي بمقابل ارتفاع تكاليف ومصاريف الحياة أو غلاء المعيشة، لكن كثيرا ما يكون الدافع أعمق من ذلك؛ فالعمل بالنسبة لهؤلاء لا يمثّل فقط وسيلة للعيش، بل أيضا وسيلة للبقاء النفسي والاجتماعي؛ فهو دليل على حضور مستمر في عالم لا يرحم الغياب".
ويتابع الأستاذ أنّ "الإنسان كائن وظيفي بطبعه؛ أي أنّه يجد نفسه من خلال ما ينجزه ويقدّمه. وعندما يحال على التقاعد فجأة دون تحضير نفسي أو بدائل، يشعر بفقدان الدور، وهو ما يفضي أحيانا، إلى الشعور بالعجز أو العزلة، لهذا تجد البعض يضع مخطّطات بديلة ليوم تقاعده، ويؤجل بعض الأعمال أو الوظائف أو حتى الهوايات لما بعد التقاعد؛ فليس من ثقافة الجزائريين غالبا مثلا، السفر، أو خوض تجارب جديدة بعد التقاعد؛ لطبيعة الحياة، والقوّة الشرائية للغالبية الساحقة، لذلك فإنّ العودة إلى العمل تمثّل للكثيرين البديل الوحيد للتصدي لروتين "قاتل"، وانطلاقة جديدة في الحياة ورفضا هذا التلاشي التدريجي ".
وقال المتحدث: " عند التمعّن في الدوافع التي تقف خلف هذا القرار، نجد أنّها تتوزّع على عوامل متشابكة؛ بين دوافع اقتصادية، أو اعتياد نمط الحياة النشطة. ويضيف: "لا يمكن إنكار أنّ التفاوت في المعاشات التقاعدية يدفع كثيرين للعودة إلى العمل، خاصة مع ارتفاع تكاليف الحياة، وإن كان هذا العامل مهمّا إلا أنه لا يكفي لتفسير الظاهرة بكاملها. فبعد عقود من الاستيقاظ المبكر ومتابعة المهام واتّخاذ القرارات، يصعب على البعض الانتقال فجأة إلى نمط حياة خال من التحديات. ويشعر البعض بأنّهم "يصدأون" إذا ابتعدوا عن العمل. ولكون الحركة اليومية جزءا من توازنهم النفسي إلى جانب أنّهم غالبا لا يبحثون فقط عن الاستمرار بل عن القيمة، فالعمل يعيد إليهم الشعور بأنّهم مايزالون مفيدين، وبأنّ لديهم ما يقدّمونه، وهذا يلامس حاجة إنسانية عميقة؛ كأن يشعر المرء أنّ وجوده مايزال يحمل أثرا، ويخلق فرقا، ويؤثّر إيجابا بطريقة أو بأخرى، أو لديه تجربة كافية تُعدّ مكسبا حقيقيا لسوق العمل، قد يفتقده من يقلّونه سنوات خبرة.
وأضاف أنّ بعض الأفراد يندمجون مع أدوارهم المهنية إلى حدّ يصبح معه التقاعد نوعا من فقدان الهوية؛ مثلا الطبيب الذي عالج الناس لأربعين سنة لا يرى نفسه خارج العيادة. والمعلم الذي صنع أجيالا لا يتخيّل يوما لا يُعلّم فيه، لتجد أصحاب المهن ينتقلون فقط داخل سوق العمل؛ مثلا من العمومي إلى الخاص، أو بكلّ بساطة الدخول في مشروع شخصي مستقل، ليصبح العمل هنا ليس فقط وظيفة، بل هوية متجذرة.
الخوف من الفراغ والعزلة
كما أرجع المتحدّث بعض العوامل إلى واقع تفكّك الروابط الاجتماعية، وغياب أنشطة مخصّصة لكبار السن؛ إذ يصبح العمل حينها وسيلة للبقاء ضمن دائرة التفاعل الاجتماعي، والابتعاد عن الروتين المخيف، فالفراغ لا يملأ بالجلوس لساعات طويلة خلال النهار، بل بالفعل والانخراط، ليكون حينها عمل المسنين بعد التقاعد، خيارا فرديا، يعكس وعيا جديدا بدور الإنسان في جميع مراحله العمرية. هو رفض للانسحاب، وتأكيد على أنّ العطاء لا يرتبط بالعمر، بل بالإرادة.