ذاكرة حية تطل على البحر

"لمة الأحباب".. فسحة نسائية تقليدية بنكهة عنابية

"لمة الأحباب".. فسحة نسائية تقليدية بنكهة عنابية
  • 121
سميرة عوام  سميرة عوام 

تستقبل "لمة الأحباب" زائراتها في قلب كورنيش عنابة، تحديدًا بمنطقة القطارة، في فضاء نسائي خالص ينبض بالدفء والحميمية، ويجمع في تفاصيله الدقيقة بين الراحة النفسية والعمق التراثي. افتُتح هذا المكان سنة 2020، في مبادرة فريدة من نوعها، لتكون الوجهة الأولى للنساء الباحثات عن الهدوء، بعيدًا عن صخب المدينة وفوضى المقاهي المختلطة. ومنذ نشأته، تحول إلى واحة أنثوية محضة، حيث تلتقي الأرواح لا الأجساد فقط، ولكل امرأة زاوية تنتمي إليها.

في "لمة الأحباب"، لا يستقبلك الديكور الحديث أو الأثاث البارد، بل تحيط بك من اللحظة الأولى لمسات الماضي الجميل. الجدران مزينة بصواني النحاس القديمة، والمرايا المؤطرة بالخشب المنقوش، وأوانٍ تقليدية تروي قصة البيوت العنابية العريقة. هنا، كل قطعة ديكور تم اختيارها بعناية، لتكون شاهدة على الزمن الجميل: فناجين الشاي المزخرفة، وسلال الورد المجفف، والمراكن التي تعبق برائحة الزهر والمسك، وأقمشة مطرزة تفيض أنوثةً وأصالة. هذا الديكور يذكر كل زائر بقعدات زمان، وقهوة زمان، مع تفريش فراش تقليدي يشبه ديكورات القصور العتيقة.

هذا الفضاء لا يُشبه المقاهي العصرية التي تعج بالضوضاء والطلبات السريعة، بل يُشبه بيت الجدة، حيث الشاي يُقدم ببطء، والحلويات لا تُصنع بالجملة، بل بحب وبأيدٍ تعرف قيمة التفاصيل. "المقروط العنابي، الرفيس، الغريبة، المخبز"، وحتى الفطائر التقليدية المصنوعة على الطريقة العنابية، كلها حاضرة في "لمة الأحباب" لتكون أكثر من أطباق… بل أسرار ذاكرة تُقدَّم في صواني من الحنين.

كبيرات السن أيضا يستمتعن بأوقاتهن

ما يميز المكان حقًا، هو روح النساء اللواتي يتوافدن عليه، خاصة من كبار السن. فبعيدًا عن صخب الشوارع وأصوات "الشيشة" والموسيقى المرتفعة، وجدن في "لمة الأحباب" فضاءً يحترم سكونهن، ويمنحهن ما يشبه المجلس العائلي الذي افتقدنه في سرعة الحياة المعاصرة. هنا، تستعيد المرأة هيبتها وراحتها، تجلس قبالة البحر، ترتشف الشاي بتؤدة، وتضحك في سكينة، بعيدا عن أعين الغرباء.

ولأن الفضاء يخص النساء فقط، وجدن فيه حرية الحركة واللباس والكلام، وهن يُدركن أن لا وجود لعناصر غريبة قد تُربك خصوصيتهن. بل إن هذا المكان، كما تقول بعضهن، "أقرب إلى ملاذ روحي"، حيث يمكنهن خلع أقنعة اليوم، واستعادة الذات في أجواء دافئة ومريحة.

لكن "لمة الأحباب" لا تخص الكبيرات فقط، بل صارت أيضًا قبلة للطالبات، خاصة خلال فترات الامتحانات والمراجعة. يجدن في هذا البيت العنابي التقليدي مكانًا مناسبًا للدراسة والتركيز، خصوصًا وأن الهدوء يُخيم على كل زواياه. فبين رشفات الشاي وصفحات الكتب، تتفتح العقول والقلوب في آنٍ واحد، وتصبح الجلسة هنا أكثر من مجرد جلسة، بل طقس من طقوس التوازن الداخلي.

صاحبة الفضاء، التي اختارت أن تبقى في الخلفية بهدوء، تُعتبر صاحبة رؤية أكثر من كونها صاحبة مشروع تجاري. فهي تؤمن أن المرأة تحتاج إلى مكان يحترم روحها، ويمنحها فسحة للراحة، دون الحاجة إلى تبرير وجودها. ومن خلال اعتمادها على الحلويات التقليدية، والديكور العريق، والموسيقى الهادئة، والمكان المخصص للنساء فقط، استطاعت أن تخلق مفهومًا جديدًا للفضاء الاجتماعي النسائي في المدينة.

كما تعمل باستمرار على الترويج للعادات والتقاليد العنابية، لا من باب الحنين فقط، بل لإعادة إحياء سلوك اجتماعي بدأ يندثر: الجلسة الحميمة، التبادل الهادئ، واللمة البسيطة غير المكلفة. فـ"لمة الأحباب" ليست مكانًا للعرض أو الاستهلاك، بل هي نوع من الثقافة المجسدة، حيث يُعاد الاعتبار لأشياء صغيرة، لكنها غالية: طبق "الرفيس"، لحظة الشاي، صينية النحاس، والمقعد المريح أمام البحر.

ولعل أجمل ما في "لمة الأحباب" أنها تحتفي بالمرأة في كل حالاتها: المرأة المتعبة من العمل، الباحثة عن لحظة صفاء، الأم التي تهرب ساعة من ضجيج البيت، الطالبة المرهقة، الكبيرة التي تشتاق لحديث يشبه الزمن الذي مضى… الكل يجد زاويته، ويشعر بأن هذا المكان كُتب له على المقاس.

"لمة الأحباب" ليست مشروعًا عاديًا، بل رسالة من امرأة إلى النساء، تقول فيها: "أنتِ تستحقين مكانًا يُشبهكِ.. يُريحكِ.. يحتفي بكِ دون شروط أو تنازلات". وفي زمن طغت فيه المقاهي التجارية، وازدحمت الأماكن العامة بكل الفوضى، تظل هذه الدار النسائية في عنابة شاهدة على إمكانية الجمع بين الجمال والبساطة، بين الراحة والهوية، وبين الماضي والحاضر.

إنها لمة، وذكرى، وبيتٌ صغيرٌ يطل على البحر... لكنه يُطل قبل ذلك على قلوب النساء.