"قندورة القطيفة" القسنطينية

فستان ملكي يختزل تاريخ مدينة الجسور المعلقة

فستان ملكي يختزل تاريخ مدينة الجسور المعلقة
  • 137
شبيلة. ح شبيلة. ح

لا يمكن الحديث عن أعراس مدينة الجسور المعلقة دون التوقف عند ذلك الفستان الملكي الفخم، الذي تحمله كل عروس في جهازها بشغف وفخر، إنها "قندورة القطيفة القسنطينية"، الزي الذي تختزل فيه المدينة العتيقة روحها، وتطرز خيوط الذهب قصص تاريخها العريق، بين بريق المجبود وسحر الفتلة، فهو لباس ينسج العلاقة بين الجمال والفن، والمناسبات الفاخرة من دونه لاتكتمل ألوان اللوحة الرائعة.

تعود أصول قندورة القطيفة القسنطينية، إلى تلك الفسيفساء الثقافية التي عاشتها قسنطينة، عبر القرون، حيث انصهرت تأثيرات الحضارات المختلفة في مدينة الصخر العتيق، لتلد فستانًا يجمع بين رقي الشرق وأناقة المتوسط، فالقندورة عبارة عن فستان طويل من المخمل الفاخر، دون طوق، بأكمام قابلة للإزالة، مما يضفي عليها مرونة وأناقة لافتة، لتكون حاضرة دومًا في كل جهاز عروس قسنطينية.

"المجبود" سر الخلود في خيوط الذهب

تطرز قندورة القطيفة بخيوط ذهبية فاخرة باستخدام تقنية "المجبود"، وهي واحدة من أرقى تقنيات التطريز التقليدي، حيث تتناثر الزخارف بين ورود وفراشات وعصافير تزين المخمل بكل دقة وأناقة، ولتحضير قندورة واحدة فإنها تمر عبر مراحل متقنة إذ يتعين اختيار لون الجنوة بمعنى قماش القطيفة اولا والمشاع قديما هو اللون العنابي، "وقطيفة الجنوة" هي من أجود الأقمشة التي تستخدم لصناعة قندورة القطيفة القسنطينية والتي تُصنع من خيط الحرير النقي، حيث يعود تاريخ هذا القماش إلى عام 1450، وحمل اسمه نسبة إلى مدينة "جنوة" الإيطالية. ومع مرور الزمن، أضاف هذا القماش لمسة أوروبية فاخرة على القندورة القسنطينية، مما زاد من جاذبيتها وقيمتها.

ثم تأتي مرحلة اختيار الرسم وهو ما يسمى بالعامية "الرشمة"، ليتم بعدها وضعه  على جلد مدبوغ ويتم بعد ذلك نقش الرسم عليه ويلصق بغراء خاص كان قديما يصنع من طحال الخروف، ويترك لمدة حتى يجف، تم تأتي المرحلة الاخيرة وهي التطريز بخيط المجبود، وتستغرق عملية إعداد القندورة الواحدة عامًا كاملًا في بعض الأحيان، مما يعكس الصبر والدقة التي يتمتع بها الحرفيون الذين يبدعون في هذا الفن.

بين أسعار المجبود والفتلة.. الأناقة بثمن

نظرا لما تتطلبه قندورة المجبود من جهد ووقت، فإن أسعارها تظل في متناول البعض فقط من العائلات، إذ تتراوح بين 10 آلاف و12 ألف دينار جزائري، بينما ترتفع أسعار قندورة الفتلة العصرية إلى حدود 170 ألف دينار، لما تحمله من تطريزات أثقل وزخارف أغنى، لكنها لا تملك دوماً نفس النكهة الأصيلة لقندورة المجبود.

فقندورة "الفتلة القسنطينية" تختلف تماماً عن "قندورة المجبود" في جميع مراحل تصنيعها، فهي تتميز باستخدام خيوط الفتلة السميكة المستخلصة من الذهب أو الفضّة، وهي خيوط تُستخدم في التطريز بشكل يدوي لخلق رسومات دقيقة وأنيقة على القندورة.

من الفرقاني إلى دار عزي.. توقيع النجوم على القطيفة

لمع اسم "قندورة الفرقاني" في قسنطينة، نسبة إلى الحاج الفرقاني، الذي كان يلبس الفتيات في حفلاته قنادر القطيفة القسنطينية، وكان شقيقه عبد الكريم حرفيًا بارعًا في المجبود، فيما امتلك ابن أخته محلًا تخصص في هذه الصنعة الراقية، كما عمل محمد الطاهر الفرقاني نفسه مع أخيه في تعلم الطرز التقليدي على يد الحرفي اليهودي الشهير "لامي"، حسب العارفين الذي كان له فضل كبير في تعليم أجيال من صناع المجبود أمثال "عمار باجو"، أحد أشهر الأسماء في هذا الفن الأصيل.

ولم يكن الحاج عزي محمد الأخضر، خياط النجوم، بعيدًا عن هذا الإرث، فقد تعلم بدوره على أيدي الحرفيين اليهود وأسس "دار عزي للأزياء التقليدية"، حيث ألبس قناديره الشهيرة لكبار الشخصيات مثل زوجة الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي، وحرم الرئيس الجزائري الأسبق الشاذلي بن جديد، والفنانة أمل بوشوشة، والروائية الشهيرة أحلام مستغانمي، إلى جانب معظم نجمات التلفزيون والغناء في الجزائر.

أعراس قسنطينة.. فرح بالقطيفة وخيوط الذهب

لاتكتمل فرحة العرس القسنطيني، من دون بريق خيوط الذهب وأناقة القطيفة المتوهجة، فالقندورة القسنطينية ليست مجرد زي تقليدي، بل هي جزء من الطقوس الراسخة في ثقافة المدينة، فرغم غلاء ثمنها، تظل القندورة القسنطينية عنصرًا لا غنى عنه في أعراس قسنطينة، خاصة في ليلة الحنة والتصديرة، فهي ليست مجرد زي، بل هي رمز من رموز التراث الذي تفتخر به الأمهات القسنطينيات، اذ لا يمكن أن تكتمل مراسم الزفاف من دونها.

قندورة القطيفة.. ذاكرة من ذهب

وحسب المتخصصين في التراث والأنتروبولوجيا، تعود قندورة القطيفة القسنطينية إلى القرن السابع عشر، حيث كانت رمزًا لأرستقراطيات قسنطينة، نظرا لفخامتها وزخارفها الرمزية المترفة، وقد أوضحت الدكتورة هدى جباس، استاذة علم الاجتماع بجامعة قسنطينة 2، أن فنون التطريز لم تكن حكرا على منطقة بعينها، بل امتدت جذورها إلى حضارات الصين وبلاد فارس ومصر القديمة وحتى إسبانيا، مرورا بالدولة الأموية وانتهاء بالتطور الكبير الذي عرفته في العهد العثماني.

من زرياب إلى نساء قسنطينة.. قصة تطريز لا تموت

وتؤكد كتب التاريخ أن التأثير الأندلسي، خاصة من خلال شخصية زرياب، لعب دورا محوريا في تطور الأزياء وفنون التطريز، حيث فتح بيتا للموضة وابتكر تصنيفا جديدا للملابس، مما ألهم مصارعي الثيران الماتادور" لتزيين أزيائهم بخيوط الذهب لانبهارهم بأزياء زرداب ومع الوقت، انتقلت هذه الطريقة إلى سيدات قسنطينة الأرستقراطيات، فصرن يتباهين بالقندورة المطرزة، بالذهب لتتحول إلى تراث نسوي تتناقله الأجيال جيلا بعد جيل.

لا لتزييف الأسماء.. القندورة رمز مدينة بأكملها

وفي السياق ذاته، شددت الأستاذة جباس على أهمية المحافظة على التسمية الأصلية للقندورة، باعتبارها جزء لا يتجزأ من الهوية الثقافية للمدينة، فالتاريخ الاسمي، بحسبها، يرتبط ارتباطا وثيقا بالمكان والزمان والأصول الحضارية، مؤكدة أن قندورة القطيفة القسنطينية ليست ملكية فردية بل موروث جماعي عريق لأمة بأكملها.

وقد أبرزت المتحدثة أن رشمات القندورة، تحمل رمزية عميقة مرتبطة بالمعتقدات والخصوصيات القسنطينية، من رشمة "القناوية" إلى "العين" التي توضع لحماية العروس من الحسد، وصولا إلى رمزية نبتة اللبلاب "اللواي" ورمز الإبريق، لتجسد بذلك الهوية الجماعية لكل سكان المدينة.

أما بخصوص تسمية "قندورة الفرقاني"، فقد أوضحت أن هذا الاسم مرتبط بظهور الحاج الفرقاني، رفقة سيدات قسنطينيات يرتدين هذا الزي في أحد الكليبات، مما جعل التسمية تتداول بين الناس، لكنها شددت على ضرورة الفصل بين الاعتراف بمكانة الفنان ورفض شخصنة الموروث الجماعي أو نسبه لعائلة واحدة، لأن القندورة ملك لكل أهل قسنطينة، ولكل من ساهم في حفظها وصنع مجدها عبر الزمن.

"القندورة العصرية" تزاحم التقليدية دون أن تطفئ بريقها

في ظل التطور التكنولوجي الذي اجتاح عالم الأزياء التقليدية، برزت القندورة القسنطينية العصرية المطرزة بالماكنة كمنافس قوي للقندورة التقليدية، لكنها لم تستطع أن تزيحها تمامًا من المشهد، فقد أدى اعتماد آلات التطريز المبرمجة عبر الحاسوب إلى إنتاج موديلات عصرية شبيهة بالأصلية، بكميات كبيرة وفي وقت قياسي، مما جعلها متاحة لمختلف الأعمار والطلب المتزايد.

هذا التحول بدا واضحاً خلال جولة استطلاعية وسط محلات العربي بن مهيدي بقسنطينة، أين أصبحت القندورة العصرية المزينة بالخرز الزجاجي المستورد من الهند ودبي، والمطرزة على قطيفة إيطالية خفيفة بدلاً من قماش "الجلوة" الثقيل، تسيطر على واجهات العرض. وبفضل ألوانها الزاهية، وقصاتها الضيقة التي تحاكي فساتين السهرة، خطفت القندورة الحديثة أنظار الفتيات، بعكس القندورة التقليدية ذات القصة الواحدة المعروفة بـ"الخراط" أو "قندورة عرب"، والتي تراجع الإقبال عليها بشكل لافت.

غير أن هذه القندورة الأصيلة لم تختفِ تمامًا، بل احتفظت بمكانة خاصة لدى بعض العائلات المتمسكة بالتقاليد، رغم ارتفاع أسعارها التي تتراوح بين 100 إلى 170 ألف دينار عند بيوت خياطة معروفة كـ«دار عزي" و"دار بن جلول"، مقارنةً بأسعار القندورة العصرية التي لا تتجاوز عادة 40 ألف دينار. وإذا كانت رسومات القندورة التقليدية تستلهم رموزاً حيوانية ونباتية، فإن العصرية تميل إلى البساطة والزخارف الحديثة، مما زاد من شعبيتها دون أن يقضي بالكامل على سحر القندورة القسنطينية الأصيلة.

وهكذا تبقى قندورة القطيفة القسنطينية أكثر من مجرد قطعة قماش مطرزة، بل هي حكاية مدينة ترويها خيوط الذهب على بساط المخمل، شاهدة على تاريخ كبير وعريق، وفن حي يتجدد مع كل عروس تخطو بثوبها الفاخر نحو مستقبلها. ففي قسنطينة، لا تنطفئ أنوار الأعراس ولا يخفت سحر القطيفة.