يقصدها سكان سكيكدة على مدار السنة

عين الشفا بين الأسطورة والحقيقة

عين الشفا بين الأسطورة والحقيقة
  • 1796
 بوجمعة ذيب بوجمعة ذيب

تزخر ولاية سكيكدة بالعديد من المعالم والمواقع الطبيعية النادرة،  جعلتها وعلى مر العصور تشكل جزءا من التراث الثقافي اللامادي المحلي الذي ظلت الأجيال تحتفظ به في ذاكرتهم الجماعية، ومن بين تلك المواقع التي خلدها الأهالي في أساطيرهم وقصصهم، بل ومارسوها حتى في بعض معتقداتهم، بعض "العيون الطبيعية" التي تتدفق من بين الصخور ومن داخل المغارات والمقدر عددها بأكثر من 20 عينا طبيعية، منها ما هو مستغل ومنها ما هو غير مستغل. ولكل عين قصة وقصة، كما هو الأمر مع "عين الدولة" بالقل التي تعود إلى الحقبة التركية والشافية من عقم النساء و"عين الزويت" التي خلدها الرومان و"عين كاف أونار" بأولاد أحبابة، التي استغلها الرومان لطرد النحس و"عين قشرة" التي يتدفق ماء عذب من بين صخورها و"عين الشفا" المتواجدة بمنطقة وادي بيبي..

"عين الشفا" والحظ الحسن الذي تقدمه للبحارة

"عين الشفا" كما يحلو لسكان المنطقة تسميتها، عبارة عن عين مباركة تجسد البركة الربانية بالمصطلح المحلي في علاج العديد من الأمراض المستعصية، تعود إلى الحقبة الرومانية الأولى وتتواجد داخل مغارة في كهف على البحر، يتميز بالبرودة، والولوج إلى داخله يتم بصعوبة. وحسب الأسطورة المحلية فإن الرومان وبعدهم الفينيقيون، ومن بعدهم أيضا باقي البحارة من أتراك وغيرهم، قدسوا العين تقديسا لأنها حسب اعتقادهم، كانت تمنحهم الحظ الحسن، فكانوا ينهالون منها كلما دفعتهم الحاجة إلى امتطاء عباب البحر، وحسب السيد أحمد البالغ من العمر 79 سنة، والذي يعد من بين البحارة القدماء الذين ما زالوا على الرغم من تقدمهم في السن،  يحترفون مهنة الصيد، وخلال حديثنا معه بميناء سطورة، أكد لنا بأن قدماء البحارة كانوا قبل شروعهم في اصطياد السمك يتوجهون إلى حيث توجد تلك العين، فينهالون منها، ثم يقومون بعدها بسكب الماء الذي يخرج من المغارة على قواربهم وسفنهم بسبب اعتقادهم بأن مياه تلك العين ستمنح له الحظ السعيد وتحميهم من عواصف البحر ومن عين الحسود. كما تمكنهم من العودة بصيد وافر، وحول ما إذا كان الجيل الحالي من الصيادين يؤمنون ببركة هذه العين، بأنه لا يعتقد ذلك على أساس أن العديد من صيادي هذا الجيل أصبحوا لا يؤمنون بمثل هذه القصص...

بركة "عين الشفا" تجعلها مزار العائلات السكيكدية، خاصة صيفا، وحسبما تحتفظ به الذاكرة الجماعية لأهالي منطقة عين الشرايع، فإن هذه العين التي تتواجد داخل هذه المغارة كانت مقصدا منذ أزمنة للعديد من الناس ممن كانوا يريدون التبرك بمياهها العجيبة التي تتميز بمذاقها الطبيعي العذب، لكن بمجرد إخراج الماء من المغارة يصير مالحا غير قابل للشرب، هذه الحقيقة أكدها لنا العديد من الشباب ممن تمكنوا من الدخول إلى عمق المغارة، ومنهم الشاب بلال 25 سنة، الذي أكد لنا الحقيقة الغريبة التي اكتشفها عن ماء العين، حيث قال لنا بأن الماء داخل المغارة حلو، لكن بمجرد تعبئته داخل قارورة وإقفالها بإحكام وإخراجه منها يصبح شديد الملوحة...

أما عن تسميتها بـ"عين الشفا" وحسب السيد صالح البالغ من العمر 77 سنة، صياد من سطورة، فقد أشار إلى أن الميزة الغريبة لمياه تلك العين التي شكلتها الطبيعة على مر العصور داخل المغارة، جعلت العديد من الناس يقصدونها للتداوي من العديد من الأمراض،   كـ"الروماتيزم" وأمراض الجلد، بل أكثر من ذلك، هناك من يستعمل مياهها للتداوي من العقم أو طرد النحس والعين والسحر وحتى لجلب العرسان بالنسبة للفتيات الشابات. وحسب نفس المصدر، العديد من الطقوس ما تزال إلى يومنا هذا تمارس على مستوى هذه المغارة على الرغم من صعوبة الدخول إليها، حيث تتطلب مهارة في السباحة كونها تقع في البحر، لكن هناك من يغامر بنفسه ومن الجنسين من أجل التبرك بمياه العين. وحسب نفس المصدر، فإن صعوبة الدخول إليها هي التي ترسخ لدى العديد من أهالي المنطقة وما جاورها، فكرة القدرة العجيبة لتلك العين في كل من يستحم أو ينهل من مياهها.. وحسبما يتردد في الذاكرة الجماعية لأهالي المنطقة، فإن العديد من النساء العاقرات وبعد سنوات من معاناتهن من العقم، وبعد أن يشربن من ماء "عين الشفا" يرزقن بأولاد، بل هناك من رزقهن الله بتوائم دفعة واحدة. وحسب بعض البحارة الذين التقيناهم على مستوى ميناء سطورة، أكدوا لنا أن العديد من أهالي عين الشرايع  ما زالوا إلى يومنا هذا يؤمنون بحقيقة هذه الأسطورة المحلية،  بالخصوص في أوساط النساء لأنهن الأكثر اعتقادا بمثل هذه القصص التي تظل محفورة في ذاكرتهم ودليلها أن مغارة "عين الشفاء" تشهد في كل فصل صيف تدفقا لعدد كبير من العائلات المرفقات ببناتهن، حيث يقصدونها بواسطة قوارب صيد أغلبها تنطلق من ميناء سطورة أو من الميناء الفينيقي القديم بوادي بيبي القريب من المغارة، ثم يلجأون إلى داخلها بالاعتماد على السباحة، وعندما يصيرون بالقرب من العين التي تتدفق من الصخر على شكل عين صغيرة يشربون منها كميات، ثم يعودون أدراجهم...

ومهما يكن من أمر، فإن شاطئ وادي بيبي ومنه شاطئ عين الشرايع وغيره من الكنوز الطبيعية التي تمثل تراثا ماديا ولا ماديا، يبقى في ولاية سكيكدة الضارب جذورها في أعماق التاريخ بحاجة إلى دراسة مستفيضة من قبل المختصين من أجل إزالة اللثام عن العديد من العادات والتقاليد الذي أضحت لسبب أو لآخر، مهددة بالزوال والعمل من أجل تدوين كل ما له علاقة بالتراث لأنه ذاكرة منطقة سكيكدة.