وسط حدائق ومنتزهات العاصمة
عطل نهاية الأسبوع فرصة للتنفس خارج الجدران الإسمنتية
- 203
نور الهدى بوطيبة
شهد المجتمع الجزائري خلال السنوات الأخيرة، تحولا لافتا في أنماط الحياة اليومية، خاصة فيما يتعلق بكيفية قضاء عطل نهاية الأسبوع، فقد أصبحت ثقافة الخروج إلى الفضاءات المفتوحة، والتنزه رفقة العائلة، واحدة من أبرز العادات التي تبناها الأفراد والأسر، خصوصا في المدن الكبرى كالعاصمة الجزائر، هذا التحول لم يكن وليد الصدفة، بل جاء نتيجة عدة عوامل متداخلة، أبرزها تهيئة العديد من المنتزهات والمساحات الخضراء، وتحسن مستوى الأمن، وتنامي الوعي بأهمية الترويح عن النفس، إضافة إلى الحاجة المتزايدة لدى الناس لكسر روتين الحياة اليومية والانفصال عن ضغوط العمل والدراسة، وبينما كانت نهاية الأسبوع تقضى سابقا في البيت أو أمام الشاشات، أصبح اليوم للحدائق والمنتزهات موعد مع السعادة العائلية، ومع لحظات تحفر في الذاكرة، وتظل شاهدة على تحول في المجتمع.
في كل عطلة نهاية أسبوع، تتحوّل الفضاءات الخضراء في العاصمة إلى وجهات مفضّلة للعائلات الباحثة عن الاستجمام والراحة، حدائق تملؤها ضحكات الأطفال، وروائح القهوة والشاي، وأحاديث دافئة بين الأهل والأصدقاء، هذا الإقبال اللافت لم يكن مألوفا قبل سنوات، حين كانت الخرجات العائلية محدودة، تعيقها قلة المرافق المناسبة، وضعف الخدمات، وانشغال الناس بحياة تميل إلى الانغلاق داخل البيوت، أما اليوم، فتغيّر المشهد جذريا، وبرزت ثقافة جديدة تتّسع كلّ أسبوع، تدفع الجزائريين إلى استثمار عطلتهم القصيرة في أحضان الطبيعة، عوامل عديدة ساعدت على هذا التحوّل، بدءا من تحسنّ البنى التحتية، مرورا بتنامي الشعور بالأمان، وصولا إلى الحاجة المتزايدة للهروب من روتين الحياة وضغوطها.
كما ساهم في ترسيخ هذه الثقافة أيضا، حسبما أفاده بعض من حدثتهم "المساء"، خلال جولتها الاستطلاعية بين عدد من حدائق العاصمة، انتشار وسائل التواصل الاجتماعي التي لعبت دورا في عرض نمط الحياة الخارجي، ومشاركة صور الأسر في المنتزهات والمواقع الطبيعية، حيث أكّدوا أنّ ذلك الترويج تى بمفعوله ودفع بالرغبة إلى خوض التجربة، وهذا ما شجّع آخرين على تجربة نفس النمط، وكأنها عدوى إيجابية تنتشر في المجتمع، فضلا على تحسن خدمات النقل وتوفر مواقف السيارات، وهي تفاصيل كانت تعيق كثيرا الأسر في السابق عن الخروج الجماعي.
في جولة عبر بعض حدائق العاصمة، لا يمكن للزائر أن يتجاهل منتزه الصابلات المطل على البحر، الذي بات يشكل ملاذا حقيقيا للعائلات الباحثة عن لحظات هدوء وانتعاش، فمنذ الساعات الأولى من يوم الجمعة، تبدأ الأسر بالتوافد، يحمل الأطفال دراجاتهم الصغيرة، وتنتشر الروائح الزكية للطعام المنزلي من السلال المفتوحة، فيما يختار البعض احتساء الشاي بالنعناع تحت ظلال الأشجار الكثيفة، الأصوات في المنتزه لا تعلو كثيرا، فهي خليط من ضحكات الأطفال، وأحاديث الأمهات، ونغمات موسيقى خفيفة تصدر من راديو صغير، زقزقة العصافير وتارة أصوات الأمواج التي تلتطم بالصخور هناك، ما يجعل المكان أشبه بلوحة حية تنبض بالسكينة والحيوية في آن واحد.
أما منتزه الحراش، فقد عرف هو الآخر نهضة ملحوظة بعد إعادة تهيئته، إذ صار قبلة للرياضيين والهواة على حد سواء، يمتد الزوار على المسارات المخصصة للمشي والجري، بينما تلهو مجموعات من الشباب بلعب كرة القدم في المساحات الواسعة، وعند الضفة، يجلس بعض كبار السن يتبادلون أطراف الحديث.
ثقافة التنزه تلبي حاجة الترويح عن النفس
في هذا الصدد، يرى الخبير الاجتماعي، الدكتور مصطفى حسنان، أنّ هذا التغير في سلوكيات المجتمع يعكس نضجا في الوعي الجماعي، ويقول "ثقافة التنزه نهاية الأسبوع لم تكن متجذرة بهذا الشكل في مجتمعنا قبل عشر سنوات، لكنها اليوم أصبحت ضرورة، لأنها تلبي حاجة الإنسان الطبيعية للترويح عن النفس، وتقوية العلاقات الأسرية في وقت باتت فيه الحياة اليومية مجهدة ومليئة بالضغوط النفسية والاجتماعية".
ولا تقتصر هذه الخرجات على الصابلات والحراش فقط، يضيف الخبير، بل تشمل أيضا حدائق أخرى مثل حديقة بن عكنون، التي تعد من أكبر المساحات الخضراء في العاصمة، وتستقطب زوارا من مختلف البلديات، خاصة العائلات التي تبحث عن أماكن مخصصة للعب الأطفال، وأخرى للراحة، كذلك هناك حديقة الحامة الشهيرة، التي لا تزال تحافظ على طابعها التاريخي والعلمي، حيث يجد الزائر نفسه في عالم من الأشجار النادرة والنباتات العجيبة، في أجواء تزاوج بين الطبيعة والمعرفة، ولكل حديقة سحرها الخاص يقول، وهذا ما يدفع بالزوار ويرغبهم في اكتشاف مدينتهم وبلدهم من خلال تلك الخرجات العائلية.
أوضح الخبير أن الكثير من الشباب يجدون في تلك الحدائق الصغيرة التي تتوسط المدينة ملاذ للقاء خلال عطل نهاية الأسبوع، وعيش أوقات بعيدا عن العالم الرقمي، مثل حديقة الحرية، الواقعة في قلب العاصمة، فهي تستقطب الزوار من مختلف الأعمار، وتعد متنفسا حقيقيا لساكني الأحياء المجاورة.
ما يميز هذه الأماكن اليوم هو التنظيم الجيد، وتوفر أماكن الجلوس، والنظافة، ودورات المياه، وحتى المرافق الترفيهية للأطفال، كما أن تواجد عناصر الشرطة والرقابة المستمرة جعلت الزائر يشعر بالاطمئنان، يشدد الاخصائي على أنه ما شجع الكثير من الأسر التي كانت تخشى سابقا الخروج الجماعي، خاصة في المساء.
في ظل الأجواء الخريفية الجميلة، حيث النسيم عليل والسماء صافية، تصبح هذه الخرجات متعة حقيقية، تخرج الفرد من دائرة الإسمنت والضجيج، وتمنحه فرصة للتنفس، للتأمل، وربما لمراجعة نفسه بعيدا عن صخب الحياة، فلا عجب أن تحولت نهاية الأسبوع إلى موعد ثابت، تجهز له العائلة مسبقا، ويتحمس له الأطفال، ويتبادلون الأحاديث عنه في بداية الأسبوع، اذ أنها ثقافة جديدة تتكون، لكنها تحمل في طياتها روحا أصيلة، هي روح الأسرة، التلاقي، والحياة البسيطة التي بات الإنسان يشتاق إليها.