جني الزيتون بالمصيف القلي

طقوس ممتعة ومظاهر للتضامن

طقوس ممتعة ومظاهر للتضامن
  • القراءات: 1185
بوجمعة ذيب بوجمعة ذيب
لا تزال العديد من العائلات القاطنة بالقرى والمداشر المتواجدة بأعالي الجبال بالمصيف القلي غرب سكيكدة منذ أزمنة، تحافظ على العديد من العادات والتقاليد المتوارَثة، وتعمل على إحيائها في كل المناسبات والأعياد والحفلات والولائم وحتى الجنائز؛ كتعبير منها على مدى ارتباطها الوثيق بتراثها. ومن بين تلك العادات التي دأبت العائلة الريفية بمنطقة القل على إحيائها، "الزردة"، التي تجسّد أسمى مظاهر التضامن والتآزر والتعاون العفوي بين كل أطياف العائلات القلية، وهو سلوك لا يزال قائما بقوة في تلك المناطق الآمنة والهادئة إلى يومنا هذا.
للزردة بقرى المناطق الجبلية بالمصيف القلي قصة، ولكل قصة طقوس، ومن أشهر الزردات التي تبقى حدثا مهمّا في حياة سكان المناطق الجبلية، ما يُعرف بانطلاق موسم جني الزيتون؛ مما يخلق أجواء احتفالية بطقوس مستمَدة من الذاكرة الجماعية التي يرفض أهالي المنطقة التخلي عنها؛ لأنها، ببساطة، تجلب لهم الخير والبركة، وتدفع عنهم العين والحسد، حسب اعتقاداتهم.
السيد العربي، 70 سنة من منطقة الشرايع غرب سكيكدة، أشار، في حديثه لـ "المساء"، إلى أن التحضير لهذه العادة القديمة يتم قبل أسبوع؛ من خلال الاستعدادات التي تشارك فيها الأسر، انطلاقا من تحضير الكسكسي أو الشخشوخة وإعدادها وكذا اقتناء كل ما يدخل في إعداد الوليمة؛ من زيت وخضروات وغيرها بمساهمة الكل حسب مقدرتهم، مضيفا أنه إذا كانت النسوة يتكفلن بكل ما يدخل في إعداد الطعام، فإن الرجال يقومون باختيار العجول السمينة للذبح، وكذا تعيين الأشخاص الذين يقومون بالعملية. وفي اليوم الموعود - كما أضاف - ومن الساعات الأولى للنهار، تتحول القرية إلى شبه ورشة، كل حسب الدور الذي أُسند إليه، لتبدأ الزردة بشروع أعيان القرية في ذبح عدد من رؤوس البقر تحت أشجار الزيتون تسمى "الدمنة"؛ إيذانا بانطلاق الزردة في أجواء احتفالية، يحضرها الأطفال. وبعد الانتهاء من الذبح والسلخ الذي يتم وسط الأهازيج والأدعية، يُشرع في عملية تقطيع اللحم وتقسيمه بأعداد متساوية، وتسمى العملية، حسب نفس المصدر، بـ "المصباح"، لتوزَّع على العائلات بالخصوص الفقيرة منها، ويشرع بعدها الحضور في تناول أطباق الكسكسي أو الشخشوخة تحت أشجار الزيتون. ولا يتخلف أحد من أهالي القرى والمداشر عن الوليمة. وبعد الانتهاء من الأكل تُعقد حلقات للذكر والدعاء والتضرع إلى الله أن يطرح عليهم البركات، و أن يجعل من موسم جني الزيتون موسم خير.
وبعيدا عن تلك الطقوس المتميزة بكل ما تشكله من أبعاد روحية واجتماعية، فإنها تُعد فرصة سانحة للمّ شمل المتخاصمين، وإعادة المياه إلى مجراها الطبيعي.

جني الزيتون بين طقوس الزردة وإجبارية الجني الجماعي
ولا بد أن نشير هنا، حسب الروايات المتطابقة التي جمعناها من هنا وهناك والتي تبقى من الأساطير التي لا تزال الذاكرة الجماعية لسكان المنطقة تحفظها وتؤمن بها، إلى أن عملية الجني يجب أن تتم جماعيا ومباشرة بعد المشاركة الإجبارية في طقوس الزردة، وأن أي مخالف للجماعة قد يتعرض للعنة، فيصاب بما لا يُحمد عقباه، وقد تصل الإصابة إلى حد الإعاقة الأبدية، التي قد تمنعه مستقبلا من المشاركة في عملية الجني، مستدلين في ذلك بما يُروى عن شخص فضّل أن يقوم بعملية جني الزيتون بمفرده دون احترام طقوس القرية، فسقط من أعلى شجرة الزيتون، ليصاب بإعاقة منعته من الجني إلى غاية وفاته.
وبين الحقيقة وما تنسجه الذاكرة الجماعية من قصص وحكايات وأساطير، تبقى لعملية جني الزيتون بمناطق المصيف القلي، نكهة خاصة، تعكس، بصدق، التضامن الجماعي والعفوي، الذي تجسّده العملية بهذه المناطق الجميلة والطيبة كطيبة سكانها.