احتفالا بعودة الحجاج

طقوس فريدة تميّز المجتمع العنابي

طقوس فريدة تميّز المجتمع العنابي
  • 126
سميرة عوام سميرة عوام

تُعد عودة الحجاج من البقاع المقدسة من أبرز المحطات الروحية والاجتماعية التي تعيشها ولاية عنابة سنويا، حيث تتحول هذه المناسبة إلى لحظة احتفالية مميزة، تدمج بين التقاليد الدينية، ومظاهر الفرح الشعبي، والتنظيم الرسمي المُحكم. وتتميز عنابة، كبوابة للشرق الجزائري، بمراسم استقبال خاصة، تعكس عمق الارتباط بالدين، والروح الجماعية المتجذرة في سكانها.

فمنذ ساعات الفجر الأولى تبدأ العائلات العنابية في التوافد نحو المطار أو منازل الحجاج، مزيِّنة سياراتها بالأعلام الوطنية والرايات المزخرفة، بكلمات مثل "حج مبرور وسعي مشكور". وتنتشر الزغاريد والتكبيرات في المكان. وتعلو أصوات الدعاء والترحيب عند خروج الحجاج من صالة الوصول، وسط مشاعر مختلطة من التأثر، والفخر، والفرح الغامر. الأبناء والأحفاد يتسابقون لاحتضان الحاج أو الحاجة، بينما تقوم النسوة بنثر الورود والماء المعطر، وتوزيع التمر والحليب؛ في تقليد متوارَث عن الأجداد، يُعبّر عن طهارة العودة من أطهر البقاع. 

وتُزيّن بعض العائلات واجهات المنازل بـ"لافتات ترحيبية" . ويتم إطلاق الألعاب النارية في بعض الأحياء الشعبية؛ مثل "لاكولون" و"برمة الغاز" وغيرهما. وتتحول البيوت إلى ملتقى عام يستقبل الزوار من الأقارب، والجيران، والأصدقاء، وحتى معارف العمل، حيث يتوافد الجميع على تقديم التهاني، ومشاركة الحاج فرحة العودة. ويُستقبل الزوار، غالبا، بكؤوس العصير أو ماء الزهر. ويُعرض عليهم التمر الممزوج بالمكسّرات، في طقس يحاكي كرم الضيافة من العائلات العنابية الأصيلة.

الولائم واللقاءات العائلية

لا تكتمل فرحة العودة دون ولائم الاستقبال التي تُقام على شرف الحاج، والتي تتضمن أطباقا تقليدية فاخرة؛ مثل "الكسكس العنابي"، و "الشخشوخة"، و "الرشتة"، و"البوراك"، إضافة إلى الحلويات التقليدية كـ"المقروط" و"البقلاوة".  وتُعد هذه المناسبة فرصة لاجتماع العائلة الممتدة، والجيران والأصدقاء؛ لتبادل التهاني والدعوات، وتبادل الهدايا الرمزية التي يقدّمها الحجاج.

ومن أبرز التقاليد التي لا تغيب عن هذه المناسبة، تخصيص طاقم بماء زمزم، حيث يوضع في قوارير صغيرة تُوزع على الضيوف، أو يُقدَّم للمدعوين للشرب أثناء الولائم.  كما يُعرض "الطيب" والمسك والحِنّاء التي جلبها الحاج من مكة أو المدينة، كذكرى من الأرض المقدسة.

وتُقدَّم، كذلك هدايا، رمزية؛ مثل "المسابح"، و "السبحات الإلكترونية"، و "عبوات صغيرة من عطر الكعبة"، أو "السجادات" التي تُحمل من السعودية. 

وفي المقابل يقدم الضيوف أيضا، هدايا للحاج، كنوع من المباركة، وتقدير الرحلة الإيمانية التي خاضها.

وفي بعض الأحياء، تتخذ هذه الولائم طابعا جماعيا، إذ تُقام في الخيام أو الساحات، خاصة إذا كان الحاج شخصية معروفة في الحي، أو أحد أئمة المساجد؛ ما يُحوّل المناسبة إلى عيد محلي مصغّر، تتجلى فيه كل أبعاد الكرم والتضامن الاجتماعي.

الجانب الديني والروحاني

بعد الاستراحة يتوجه بعض الحجاج مباشرة إلى أقرب مسجد لأداء ركعتي شكر، في حين ينظم بعض الأئمة دروسا أو لقاءات دينية، يستضيفون خلالها الحجاج العائدين ليروُوا تجاربهم الروحية من مكة والمدينة، في خطوة تهدف إلى تعزيز الصلة بالشعائر، وتقوية الوعي الديني عند الشباب. كما يُقدَّم الحاج في المجتمع المحلي كقدوة. ويحظى بمكانة خاصة، لا سيما كبار السن، الذين يُنسَب لهم لقب "الحاج" أو "الحاجة" ؛ تكريما لهم. وهو تقليد رمزي يُظهر عمق الاحترام لهذا الركن من أركان الإسلام. 

ويتحول حديث الناس في هذه الفترة، إلى قصص المناسك، وكيف كانت رحلة الحاج، وما المشاعر التي غمرته، ليبقى جو الإيمان حاضرا في كل بيت. وعليه تمثل عودة الحجاج إلى ولاية عنابة، لحظة تفيض بالعاطفة، والروحانية، والتقاليد الراسخة. 

وبين الترتيبات التنظيمية الدقيقة ومظاهر الاستقبال الشعبي المبهجة، تبرز هذه المناسبة كعرس ديني واجتماعي، يجسد وحدة الأسرة والمجتمع، ويؤكد على مركزية الحج في الوعي الديني والثقافي للعنابيين.

وهي أيام يختلط فيها الدعاء بالزغاريد، والدموع بالابتسامات، لتشكل لوحة إنسانية نادرة، تُعيد التأكيد على أن الحج ليس، فقط، رحلة فردية نحو بيت الله الحرام، بل هو أيضا مناسبة جماعية لتجديد الإيمان، وتعزيز القيم، وإحياء روح التآزر التي تميّز المجتمع الجزائري عامة، والعنابي خاصة.