"قهوة العشوة" ولمة العائلات العنابية
طقس تعبقه رائحة البن بكل ود

- 159

تفوح رائحة القهوة من نوافذ البيوت في مدينة عنابة، كل مساء، وكأنها نداء داخلي يعرفه الجميع… نداء إلى قعدة لا تتكرر، لكنها لا تغيب أبدًا.
قعدة اسمها "عشوة"، وفنجانها قهوة مزهرة بماء الزهر، تطهى على نار الحب في "الزَّزوة"، الإبريق التقليدي الذي لا تزال تحتفظ به الجدات، كما يحتفظن بالذهب.
مع أول ميلٍ لغروب الشمس، تبدأ المدينة في التغير
الهدوء يتسلل إلى الحارات، نسيم البحر يغمر الشرفات، وتبدأ القلوب تبحث عن بعضها…ليجتمع الجميع في طقس عنابي أصيل، تتوسطه طاولة صغيرة، وفناجين قهوة، وأحاديث لا تنتهي.
"قهوة العشوة" في عنابة ليست مجرد استراحة يومية، بل هي موعد روحي، يمتزج فيه دفء الأسرة بعبق الذكريات.
تُحضر القهوة فوق نار هادئة، تفور وتُطفأ، ثم تعود لتفور ثانية… حتى تجهز بالرغوة المطلوبة والرائحة التي تسبقها في الخروج من المطبخ.
رائحتها لا تبقى حبيسة الجدران…بل تنتشر في الأزقة والشوارع، فيعرف الجار أن "القهيوة راهي طابت"، وربما يسمع من الطابق العلوي صوت صحون تُصف، وضحكة تطل من المطبخ، ودعوة خفيفة: "اطلعي تشربي قهوتك معانا، راهي عشوة اليوم".
الصحون المزركشة تُخرج من الخزانة، وتُزين بالقليل من "المقرود العنابي"، ذهبي اللون، معسل، محشو بالتمر والمحبة…وإلى جانبه، بعض المقرقشات، أو حتى قطعة كعك بسيطة، المهم أن تُقدَّم النية مع القهوة، والبساطة مع الحفاوة.
النساء يتحلقن حول المائدة، الحديث يتفرع من قصة إلى أخرى، من نكتة إلى حكاية قديمة، من وصفة إلى ذكرى… الجدة تُشارك بفكرة، البنت تضحك، الأم تتابع بصوت هادئ، والجارة تضيف تعليقًا من ذاكرتها.
ووسط هذا الجو، الرجال من بعيد، في "البلكونات" أو (السطوح)، يكتفون بقهوة سريعة في صمت، بينما ينصتون خلسةً إلى الضحك الصادر من الداخل… ويبتسمون.
الأطفال لا تغيب عنهم هذه اللمة، فهم يتحركون بين الأقدام، يمدون أيديهم إلى صحن الحلوى، يسمعون، يضحكون، ويصغون لقصص لا تُروى في المدارس.
وفي بعض البيوت، تُحمل القهوة إلى الحديقة أو الشرفة أو حتى إلى الشاطئ، لأن "قهوة العشوة" في عنابة لا تتقيد بمكان، بل تُشرب حيث يوجد من نحب.
ولأنها لحظة دفء ولمة، فقد تحولت قهوة العشوة في الثقافة العنابية، إلى إطار جامع لكل المناسبات السعيدة.
فلا عجب أن تُقام عند النجاحات الدراسية، ويُحضَّر لها "القهيوة" و"المقرود" عند توديع العروس إلى بيت زوجها، وتُجمع لها العائلة والصديقات.
وفي حفلات الختان، تُزيَّن الطاولات بالفناجين المزركشة، وتُقدَّم القهوة كجزء من الطقس الاحتفالي، قبل أو بعد "الطبل والزغاريد".
بل إن البعض يستغل لحظة العشوة لزيارة الأقارب، أو لدعوة المدعويين إلى الأعراس بطريقة بسيطة ومحببة، حيث يُقال: "نعيطلكم قهوتنا عشوة غدوة... راهي فرحتنا كبيرة، وما تكملش بلا بيكم".
وهكذا لم تبقَ قهوة "العشوة" مجرد مشروب مسائي، بل صارت رابطًا وثيقًا بين الأهل، عنوانًا للفرح، وصيغة اجتماعية رقيقة لإعلان المناسبات السعيدة.
تمر اللحظة ويبرد الفنجان.. لكن الحنين لا يبرد
تبقى القعدة محفورة في القلب، والرائحة معلقة في الذاكرة، والحديث عالق في الزوايا.
عنابة ليست فقط ميناءً أو شاطئًا أو مدينة تطل على المتوسط…عنابة هي تلك اللحظة التي يجتمع فيها أفراد العائلة حول فنجان، وتُقال فيها أشياء لا تُقال في أي وقت آخر. "قهوة العشوة" ولمة العائلات العنابية… هي الحنين الذي لا يبرد مهما مر الزمن.